العراق ورابطته الخليجية

العراق ورابطته الخليجية

580

كيف يُمكن النظر إلى علاقات العراق بمحيطه الخليجي؟ ما هي السياقات التأصيلية لهذه العلاقات؟ وما سبل الارتقاء بها؟ وأية قضايا راهنة في أفقها؟

من الجدير بداية الإشارة إلى أن تعبير “العلاقات العراقية الخليجية” هو تعبير اصطلاحي وحسب، ذلك أن العراق يعد في الأصل مكونا من مكونات الخليج، كونه يُمثل رأسه الشمالي، بامتداد طوله 58 كيلو مترا. وكان الرحالة القدماء يطلقون على شمال الخليج اسم الخليج الأعلى.

وقد جرت العادة، منذ مرحلة ما بعد الانسحاب البريطاني من شرق السويس، على تقسيم الخليج إلى شمال يُمثله العراق، وشرق تمثله إيران وغرب تُمثله دول الداخل، التي تأطرت منذ العام 1981 في مجلس التعاون لدول الخليج العربية.

وفي المجمل، فإن مصطلح العلاقات العراقية الخليجية أخذ يشق طريقه إلى قاموس السياسة الإقليمية منذ خمسينيات القرن العشرين، وكان يشير إلى العلاقة بين العراق ودول الداخل الخليجي حصرا، في حين أن مصطلح العلاقات العراقية الإيرانية بقي ثابتا منذ تأسيس الدولة العراقية في مطلع عشرينيات القرن العشرين.

“مصطلح العلاقات العراقية الخليجية أخذ يشق طريقه إلى قاموس السياسة الإقليمية منذ خمسينيات القرن العشرين، وكان يشير إلى العلاقة بين العراق ودول الداخل الخليجي حصرا، في حين أن مصطلح العلاقات العراقية الإيرانية بقي ثابتا منذ تأسيس الدولة العراقية “

وعلى الرغم من ذلك، فإن شيوع تعبير العلاقات العراقية الخليجية لم يقلل من شعور الناس هنا بأنهم أبناء خليج واحد يجمعهم. وبالنسبة للعراقيين، فهذا الشعور ليس في البصرة والزبير أو أم قصر وحسب، بل في كل مناطق العراق.

وربما بدا العراق أكثر حرصا على إبراز انتمائه الخليجي، وذلك على النحو الذي يُمكن رؤيته في المناهج التعليمية، ووسائل الإعلام الرسمية، منذ تشكيل الدولة العراقية، كما في الأدب والإنتاج الفكري عامة.

وقد تحدث بدر شاكر السياب عن الخليج في أنشودة المطر الشهيرة، وأشار بحاثة كثيرون إلى وحدة القبائل وتداخلها بين العراق وشبه الجزيرة العربية، حيث انتشرت قبائل تميم في البصرة ومناطق أخرى من العراق، وامتدت قبائل بكر وربيعة وعبد القيس إلى الأنباروالنجف الأشرف، وعموم الفرات الأوسط. وانتشرت قبائل شمر بصفة أساسية بين دجلة والفرات.

كذلك، تحدث علي الوردي عن أنثروبولوجيا شديدة التداخل (أو التماثل) بين شمال الخليج ووسطه.

وما يُمكن قوله عموما هو أن العراق خليجي الانتماء، بحكم الجغرافيا والتاريخ والتكوين الاجتماعي. ولا أحد في بلاد الرافدين يرى وطنه بعيدا عن هذا الانتماء، الذي هو جزء من انتمائه القومي الأوسع مدى. والطيور التي كتب عنها زهير الدجيلي، وتغنى بها سعدون جابر، لا يقف مسارها عند الزبير، بل تواصل تحليقها فوق القصبات والمياه الدافئة، تعانق الشمس، وتزغرد للأهل والأحباب. إنه الخليج، الذي مد إليه دجلة على الأفق جناحا. وهذا هو قدرنا جميعا.

وإلى السياقات السياسية، يُمكن النظر إلى العراق باعتباره امتدادا جيوسياسيا للخليج وبوابة طبيعية له إلى البحر الأبيض المتوسط وأوروبا. وهذا تحديدا هو أفقه الإستراتيجي بالمعنى العلمي للمصطلح.
يُمثل العراق حدود الخليج الطبيعية مع كل من سورياوتركيا. يجاور الأولى بحدود طولها 605 كيلومترا، والثانية بامتداد قدره 352 كيلومترا.

تمثل سوريا مدخل الخليج إلى البحر الأبيض المتوسط، وتشكل عمقا حيويا له بالمنظور الجيوسياسي.
كذلك، يُمكن النظر إلى الأراضي الخضراء في الشرق السوري بين دجلة والفرات، كمصدر رئيسي للسلع الزراعية للعراق وعموم الخليج. وقد أثبتت التجربة أن منطقة الخليج بمقدورها تعزيز أمنها الغذائي استنادا إلى هذه السلة المتنوعة الإنتاج، وذات القدرة التنافسية العالية.

والجوار السوري للخليج يعزز -من ناحية ثالثة- انتماءه القومي، ويرفد مقومات وفرص التكامل العربي، فسوريا والعراق والسعودية تعد ثلاث قوى محورية في النظام الإقليمي العربي وتعاونها يُمثل مقدمة لنجاح أي مشروع وحدوي في المنطقة، بل لا يمكن تصوّر أي مشروع من هذا القبيل دون ائتلاف هذه القوى الثلاث.

إن الأزمة السورية قد كشفت جليا ما الذي تخسره منطقة الخليج، وأثبتت أن ليس هناك من بديل عن سوريا مستقرة ترفد هذه المنطقة، وتعزز مقومات أمنها القومي. وعلى عواصم الإقليم اليوم، من مسقط إلى بغداد، أن تفعل كل ما بوسعها لدفع مسار التسوية السياسية المتوازنة التي تعيد لسوريا استقرارها، وسابق نهضتها وازدهارها، فهذا هو الطريق الوحيد لكسب رهان التاريخ، والإفادة من مقومات الجغرافيا وركائزها.

إن امتداد الخليج عبر بلاد الرافدين يبقى امتدادا خاملا من دون سوريا قوية وناهضة. وعلينا نحن هنا في الخليج أن نؤكد على هذه المعادلة إن كنا بصدد صيانة حاضرنا، الذي بات حاضرا محاصرا.
بعد ذلك، ماذا عن العراق ذاته؟

“من ناحية السياقات السياسية، يُمكن النظر إلى العراق باعتباره امتدادا جيوسياسيا للخليج وبوابة طبيعية له إلى البحر الأبيض المتوسط وأوروبا. وهذا تحديدا هو أفقه الإستراتيجي بالمعنى العلمي للمصطلح”

بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، عقدت في الرياض ومدن خليجية أخرى، سلسلة من الندوات العلمية التي بحثت في كيفية إعادة إطلاق علاقات دول الخليج بالعراق على أسس جديدة، من شأنها تعزيز ركائز الأمن الإقليمي.

وقد كان لي شرف المشاركة في عدد من هذه الندوات، التي ضمت في مجموعها غالبية الباحثين السياسيين في المنطقة، وربما جميعهم. وكنا نأمل حينها حضور بعض زملائنا العراقيين، إلا أن قنوات الاتصال لم تكن كافية في ذلك الوقت المبكر من التحوّلات. ويفترض أن هذه المسألة قد جرت تسويتها لاحقا.

خلاصة ما تم التوصل إليه في النقاشات هو أن العلاقات الخليجية مع العراق لا تستقيم استنادا إلى فلسفة التوازنات التي أسفرت عن حربين مدمرتين في هذه المنطقة. لقد جرى التأكيد من قبل مجموع الباحثين على أن مبدأ التوازنات يُمثل غواية تفرق دول المنطقة بدل أن تجمعها.

في المقابل، كانت هناك رؤية مشتركة تؤكد على أن علاقات دول الخليج بالعراق يُمكن أن تنهض استنادا إلى مبدأ التكامل الاقتصادي، والتعاون المدني النشط. وإن هذا المسار، متى قُدر له التحقق من شأنه أن يطوّق القضايا الخلافية، ويمنع تحوّلها إلى أزمات متفجرة. وهذه القضايا بذاتها يمكن تسويتها كنتيجة لمسار تعاوني بعيد المدى.

ولاحقا، قمت -أنا كاتب هذه السطور- ببلورة هذه الأفكار في دراسة صدرت لي في العام 2009 عن مركز الدراسات والبحوث الإستراتيجية في أبوظبي، ضمن سلسلة دراسات إستراتيجية، الحلقة (47).
وبموازاة هذا السياق، طُرحت في بعض وسائل الإعلام، أسئلة من قبيل هل ينضم العراق إلى مجلس التعاون لدول الخليج العربية؟

في الحقيقة، هذا السؤال له وجاهة بمعيار أو آخر، وليس من حق أحد ازدراءه. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا الأمر قد يكون نتيجة مسار تعاوني ممنهج، ولا أحد في هذه المنطقة يتنكر لحقيقة انتماء العراق بأي حال من الأحوال.

على مستوى التفاعلات على الأرض، هناك فرق كبير بين العام 2003 ويومنا هذا.
إن جميع الدول العربية في الخليج تربطها الآن علاقات تجارية من نوع ما مع العراق، وبعضها أصبح محطة أساسية لإعادة تصدير السلع والخدمات نحو بلاد الرافدين. كما أصبحت جميع المعابر الحدودية تقريبا سالكة أمام الحركة التجارية والبشرية.

ومن ناحيته، نجح القطاع الخاص الخليجي في العبور إلى عدد من المناطق العراقية. وحققت بعض الشركات الخليجية نجاحا كبيرا في قطاعات عمرانية على مستوى العراق، كما حققت بعض شركات الاتصال في المنطقة نجاحات بارزة في السوق العراقي لم تكن متوقعة من قبل أشد المحللين تفاؤلا.
هذه المعطيات، تعد بداية محمودة لما نحن بصدده، والمطلوب توسيع دائرتها، لتشمل قطاعات ومجالات جديدة.

في مسار آخر، نجحت دول الخليج في إعادة نسج روابطها الدبلوماسية مع العراق. وهذا تطوّر كبير، له دلالاته بعيدة المدى على مستقبل هذه المنطقة.

“جميع الدول العربية في الخليج تربطها الآن علاقات تجارية من نوع ما مع العراق، وبعضها أصبح محطة أساسية لإعادة تصدير السلع والخدمات نحو بلاد الرافدين. كما أصبحت جميع المعابر الحدودية تقريبا سالكة أمام الحركة التجارية والبشرية”

أخيرا، بقى أن نشير إلى أن هناك قضايا مستجدة على صعيد البيئة الأمنية للمنطقة، تتطلب مسارات إضافية من التفاعل بين دول المنطقة، وتحديدا لجهة دعم الخليجيين للسلطات الرسمية العراقية في جهودها الخاصة باستعادة الأراضي الواقعة تحت سيطرة التنظيمات المتطرفة، ومساعدتها على إعمار المدن التي تضررت من المواجهات المسلحة، كالفلوجة والرمادي.

ومن موقعي كخبير في الشؤون العسكرية، أرى أن هناك إمكانية لتعاون دفاعي بين دول الخليج والعراق. وهناك ضرورة لجلوس خبراء من الجانبين لبحث تفاصيل هذا التعاون، الذي يُمكن أن يشمل نواح عديدة. وقد تكون البداية بحث التعاون اللوجستي العام.

هناك اليوم تهديدات ومخاطر مشتركة، ذات طبيعة غير تقليدية، ومن الراجح تماما التعاون بشأنها.
وفي قضايا الأمن والدفاع، غالبا ما تكون التعقيدات أكثر بروزا مما هي في مسارات سياسية أو مدنية. وهذا أمر بديهي نتيجة لحساسية هذا المسار وتداخله مع مسائل ذات صلة بالخصوصيات المحلية للدول.

وعلى الرغم من ذلك، فإن التحرك في هذا الاتجاه من شأنه أن يشكل محفزا لتعزيز وتنمية التعاون في قطاعات أخرى. والأمن قضية وجودية لكل الدول والأمم، ولهذا فهو يمثل أولوية بالنسبة لها. وإذا نجحت دول الخليج العربية والعراق في تشييد تعاون أمني فإنها ستكون قد خطت خطوة كبيرة في مسار إعادة إطلاق علاقاتها الثنائية والمتعددة، وسيكون ذلك تطورا تاريخيا يحسب لعموم هذه المنطقة.

وخلاصة، يُمكن القول إن نجاحات عديدة قد تحققت على صعيد علاقات العراق بمحيطه الخليجي، والمطلوب هو مزيد من التأمل في كيفية الارتقاء بهذه العلاقات.

عبدالجليل زيد المرهون
الجزيرة