تنظيم «الدولة الإسلامية» يخلق “الإنسان الجهادي المثالي”

تنظيم «الدولة الإسلامية» يخلق “الإنسان الجهادي المثالي”

syriaisisflagparadertx170u8-639x405

اختلف الهجوم الذي شنّه تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») في آب/أغسطس واستهدف حفل زفاف في غازي عنتاب،  جنوبي تركيا، عن غيره من الهجمات التي نفّذها في وقت سابق، إذ أن المرتكب هذه المرة هو طفل – الأمر الذي أثار اهتماماً جديداً ليس بإستراتيجية التنظيم فحسب بل بما يعلّمه للأطفال والمجنّدين. فمثل هذه التعاليم هي جزءً لا يتجزأ من أهداف تنظيم «الدولة الإسلامية» الطويلة الأمد. وقد قمتُ في هذا الشأن بمراجعة منهجية لمنشورات التنظيم الرسمية الصادرة باللغة العربية (157 عنواناً)، بما فيها 100 كتاب دراسي للأطفال، ووجدتُ أن لـ تنظيم «داعش» هدف جديد ألا وهو: خلق “الإنسان الجهادي المثالي”.

والجدير بالملاحظة على وجه الخصوص في هذه الكتب الدراسية، كما ذكرتُ في تقريري، ليس فقط السُبل التي يستخدمها تنظيم «الدولة الإسلامية» لتلقين الأطفال عقيدته بل أيضاً المدى الذي يذهب إليه لتعليمهم ما يمكن أن نسمّيه بالمهارات والمعرفة الأساسية الحياتية التي يجب أن يتمتّع بها الأطفال. وتشمل هذه مواضيع كالكتابة والقراءة والفهم وقواعد الرياضيات الأساسية، وحتى علم الفيزياء والأحياء. وبعبارة أخرى، إنها مواضيع قد نتوقّع إدراجها في المناهج الدراسية للمدارس الخاصة بنا.

وبالطبع هناك اختلافات – بصرية وجوهرية على السواء. فمؤلّفو الكتب المدرسية لم يفوّتوا قطّ فرصةً لترك بصمةٍ ما تكون بمثابة علامة للجماعة، سواء كانت راية تنظيم «الدولة الإسلامية» في نهاية فصل من مادة الرياضيات، إو صورة لبندقية، أو الملف الشخصى لأحد مقاتليه. وإذا أخذنا كتاب “العلوم” للصفوف الابتدائية المخصّص لمنح الأطفال ما يشبه بالمخطّط التوجيهي بشأن المنزل والمجتمع مع تعليمهم مفردات أساسية، نرى في إحدى صفحاته عدداً من أفراد “المنزل «الداعشي» المثالي”، مع صورةٌ لأم تغطّي جسدها بالكامل ولأب يحمل سلاحاً.

كما هناك أساليب أكثر تطوّراً يسعى من خلالها التنظيم إلى جعل هدفه المتمثّل بخلق “الإنسان الجهادي المثالي” يتغلغل في هذه المواضيع – وأعتقد أن هذه المقاربة ستكون أكثر استدامةً نظراً لمدى حنكتها ودهائها. وبعبارةٍ أخرى، إنها الطريقة التي يعتمدها التنظيم لنقل المهارات والمعرفة الأساسية مع تمسّكه بهدف واضح وصريح يقوم على المحاربة باسمه وبناء قدراته – وهي عملية أطلقتُ عليها اسم «الدعوشة» [أو البرنامج المحفّز لـ تنظيم «الدولة الإسلامية»] في التقرير – باعتبارها السّمة التي تميّزه عن الجماعات الجهادية الأخرى وربما تجعله مقنعاً بشكل فريد للمجنّدين المحتملين. وتشمل الأمثلة على ذلك تعليم برمجة الحاسوب من أجل جعل الأطفال بارعين في التكنولوجيا ليساهموا في قدرات التنظيم على شبكة الإنترنت وتعليمهم اللياقة البدنية لكي يتمتّعوا بصحة جيدة ويكونوا صالحين للقتال على حد سواء. ويُعتبر هذا الهدف الأخير هو المبرّر لفصول إضافية حول جمع الأسلحة واستخدامها،  فضلاً عن معرفة نوع الذخيرة الذي يمكن استخدامه لمختلف أنواع الأسلحة. و بالتالي يمكن القول إن تشجيع التنظيم مؤخراً على تحويل لوازم الحياة اليومية “إلى أسلحة” لممارسة أعمال إرهابية باسمه (كما حدث في الهجوم الذي وقع في نيس) هو انعكاس لهذا الهدف الأشمل المتمثّل بخلق “الإنسان الجهادي المثالي” – من خلال تحويل أي جانب من معنى كون الشخص “مواطناً” في تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى معنى يشمل السلاح.

وعلى الرغم من أن تنظيم «الدولة الإسلامية» يشتهر بمنشوراته وحملاته الدعائية التي تمجد العنف والنهج الأصولي للإسلام السنّي المعروف باسم التيار السلفي، إلا أنه يولي أيضاً اهتماماً مماثلاً لنشر حملة دعائية تختصّ بأمور أكثر دنيوية وابتذالاً، مثل كيفية تشذيب اللحية وقواعد اللغة العربية – وهي مواضيع لا تمتّ بصلة واضحة إلى أي شكل من أشكال العنف. وفي كتبه الدراسية التي قمتُ بتحليلها، وجدتُ أن تنظيم «داعش» يعلّم الأطفال مواضيع مثل الجغرافيا والفيزياء.

ما الذي يمكننا فهمه من هذه المؤسسة التعليمية الغريبة؟ فعلى سبيل المثال، إن نشر مطبوعات غير عنيفة ليس بأمر جديد في أوساط الجهاديين. وبالفعل، أعاد زعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري مؤخراً نشر طبعته لأطروحة من القرون الوسطى عن قواعد اللغة العربية. وغالباً ما يبدي عدد كبير من رجال الدين المتطرفين على موقع “تويتر” آراءهم حول المواضيع “الأسهل” مثل التقوى والممارسات الدينية.

بالإضافة إلى ذلك، يَعتبر بعض المجنّدين لدى تنظيم «الدولة الإسلامية» أن هذا البرنامج التربوي القائم على مبدأ كيف تكون مسلماً هو أحد أسباب انجذابهم إلى التنظيم. وفي هذا السياق، قال أبو إبراهيم، الذي انشقّ عن التنظيم، في معرض حديثه عن السبب الذي دفعه إلى الانخراط في صفوفه إنه “في حين أن رؤية أحدهم يلقى حتفه ليست أمراً يرغب شخص بمشاهدته على الأرجح، فإن ما يتطلّع إليه الكثير من المسلمين هو تطبيق الشريعة الفعلية”. وبالمثل، كشفت طلبات تمّ تسريبها مؤخراً لتنظيم «داعش» أن الكثيرين من مجنّديه افتقروا إلى المعرفة الأساسية بالدين الإسلامي، حيث ملأوا بطاقات تسوّقهم على موقع “أمازون” بعناوين كُتب على غرار “كورآن فور داميز”. (“القرآن الكريم للمبتدئين” وهو كتاب مبسّط للتعريف بالقرآن وتاريخه ولغته من أجل مساعدة البسطاء من الناس الذين لا يمتلكون معرفة كافية بالقرآن).

لكن بخلاف جماعات جهادية أخرى، فإن توجيه تنظيم «الدولة الإسلامية» رسائل غير عنيفة يرتبط بشكل عميق ومباشر بنجاح عملية التجنيد. ومن بين الدعوات الأساسية التي يتمّ إطلاقها أن أراضي التنظيم هي المكان الوحيد على وجه الكرة الأرضية الذي تتمّ فيه ممارسة الإسلام “النقي” والأصلي وتطبيقه. ويمكننا إلقاء نظرة على الحملة الدعائية لـ تنظيم «داعش» حول المسائل الدنيوية والمبتذلة. لنأخذ على سبيل المثال موقف التنظيم من اهتمام الرجال بمظهرهم؛ فالجماعة لا تَعتبر هذا الأمر مسألة نظافة فحسب، بل أنه ينضوي أيضاً ضمن إطار الطاعة المدنية التي يعاقِب تنظيم «الدولة الإسلامية» على مخالفتها.

وبعبارةٍ أخرى، يهدف تنظيم «داعش» إلى استحداث وطن إسلامي مثالي يعيش فيه “المسلمون المثاليون” أو “الإنسان الجهادي المثالي”. واستطراداً لذلك، تتابع رواية التنظيم بالقول إن من يعجز عن الاستجابة لدعوته – إما عبر السفر إلى العراق وسوريا أو المحاربة باسمه – فهو ليس مسلماً حقيقياً.

وعبر إطلاق تسمية “الخلافة” على نفسه – وهي مصطلح كلاسيكي في الإسلام يقتصر على القيادة الدينية والسياسية للإسلام في جميع أنحاء العالم – يعيد تنظيم «الدولة الإسلامية» تحديد أطر الدين الإسلامي لتبرير هدف لعبته السياسية. وتحقيقاً لهذه الغاية، أعاد التنظيم تحديد فريضة “الهجرة” الدينية الإسلامية بحيث لا تتطلب فقط الهروب من أرضٍ تشهد اضطهاداً وقمعاً بل التوجّه إلى منطقة تخضع لسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية». وبخلاف تنظيم «القاعدة»، الذي يتمثّل هدفه الوحيد في استهداف الغرب وحلفائه، يزوّد تنظيم «داعش» جمهوره بعنوان يمكنهم فيه العيش كـ “مواطنين جهاديين” حقيقيين. وحتى في ظل انحسار احتمال العيش في مثل هذه الدولة وسط نجاح الحملة المناهضة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» التي تُطلقها الولايات المتحدة، فقد تستمر أسباب كون المرء “مسلماً” وفقاً لتعريف تنظيم «داعش» وتبقى قائمة. (على سبيل المثال، كتبتُ مؤخراً حول الكيفية التي يمكن بموجبها أن يؤثّر مفهوم “إعادة تحديد أطر الدين الإسلامي” على طبيعة الهجمات الإرهابية).

ونظراً لهذا المفهوم الجديد لمهمة تنظيم «الدولة الإسلامية»، ما الذي يمكن أن تقوم به الحكومة الأمريكية وقوات التحالف ضدّ «داعش»؟ وفي حين أن الحرب في العراق وسوريا ضروريةٌ ولا غنى عنها من أجل تقليص القدرات العسكرية للجماعة، إلا أنها لن تساهم إلى حدّ كبير في سحق قدرة تنظيم «الدولة الإسلامية» على أن يكون مصدر إلهام. وإلى جانب إقدامه على تحويل إستراتيجيته نحو تنفيذ هجمات عدوانية، سيواصل التنظيم نشر وتوزيع المواد التي تركّز بشكل متزايد على “مفاهيم الإسلام البسيطة” بدلاً من المواضيع الجهادية المباشرة والشديدة اللهجة – لا سيما وأن الجماعة تسعى إلى دعم معنويات عناصرها. وطالما أنه بإمكان التنظيم أن يزعم أنه الممثّل الحقيقي الوحيد للدين الإسلامي في العالم، سيبقى «داعش» يشكّل “مصدر إلهام”، سواء امتلك أرضاً خاصة به أم لا.

وستبقى مسألة تحديد شركاء معتدلين والعمل معهم أساسية وضرورية لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية». ولا بدّ من أن يتجاوز عملهم “التصدّي” لرسائل «داعش»، ومن الضروري تشجيع هؤلاء الشركاء على تحديد البدائل وتنظيمها. فإنشاء مؤسسات ومنتديات ومناهج دائمة يتمكن فيها المسلمون من المطالبة باستعادة ما أخذه منهم تنظيم «الدولة الإسلامية» سيشكّل خطوة أساسية في دحر الجماعة. وفي النهاية، تتوقّف محاربة التطرّف على السيطرة على الأماكن التي يتمّ فيها تعليم الإسلام التقليدي.

وإلى جانب الشق الإيديولوجي، ثمة بُعدٌ آخر لم نتطرق إليه بالكامل بعد – وهو إعداد بدائل وأرضية مناسبة في العراق وسوريا “في وقت” نُزيل فيه رواسب الإرهاب ونحاول استئصاله باستمرار. فمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» على جبهتيْ الأراضي والرسائل ليست كافية وحدها، بل علينا أيضاً ابتكار وسائل لإدخال التعليم إلى هذه المناطق وصيانة البنية التحتية الثقافية. وإذا ما تمّ تجاهل هذه المسائل، سيكون لهاتين الجبهتيْن لمشروع «داعش» المزيد من الآثار الطويلة الأمد التي ستكون أكثر تعقيداً في المستقبل إلى حدّ كبير.

يعقوب أوليدروت

معهد واشنطن