«بروفسور» البيت الأبيض ونهاية عصر التدخّلات

«بروفسور» البيت الأبيض ونهاية عصر التدخّلات

063_608958996-e1474390855471-635x357

بسهولة يمكن وضع عنوان لخطاب الرئيس باراك أوباما الأخير في الأمم المتحدة: «إنها نهاية عصر التدخلات»، أو «إنه عصر الانسحاب من أزمات العالم». لكن مهما كان العنوان، فالخطاب يفتح لنا نافذة كي نرى بوضوح لا لبس فيه ماهية السياسة الخارجية للولايات المتحدة في عصر أوباما ورؤيته للعالم.

فقد بدا في خطابه أمام الجمعية العامة كأنه يقدم محاضرة لجمهور أكاديمي في السياسة الدولية، وليس خطاباً سياسياً لقادة ورؤساء حكومات عالمٍ متأزمٍ على وشك الانفلات الكامل نحو تمزيق الذات في شكل غير مسبوق للمرة الأولى منذ نهاية الاتحاد السوفياتي قبل ربع قرن.

انهيار الاتحاد السوفياتي فتح السبيل ليس فقط لنهاية «الحرب الباردة»، بل أيضاً نحو إطلاق طاقات ليبرالية في الســـياسة والاقتـــصاد والتنـــمية في أنحاء مخـــتلفة من العالم كانت كامنة على مدى قرن من الزمن. لا شك في أن نهاية الحرب الباردة قدمت للعالم تحديـــاتٍ وفرصـــاً في آن واحد. تحديات لإعادة تشكيل هياكل دوله السياسية والاقتصادية، وفرص للانتقال إلى الإصلاح والديموقراطية كما حصل في معظم دول أوروبا الشرقية وبعض آسيا (إندونيسيا وماليزيا مثلاً) وبعض أفريقيا (جنوب أفريقيا وبوتسوانا).

هذا العالم الجديد يتعرّض راهناً لتحدٍّ خطر متعدد الجهات بدءاً من ظاهرة انتشار النزعة القومية المتطرفة في أرجائه، بخاصة أوروبا، وبناء الجدران على الحدود، والتحلل من العمل المشترك بدلاً من الإصرار على الاندماج، وانتهاء بالحروب المتوحشة في الشرق الأوسط. وإذا كان أوباما يقول للعالم إنه لن يتدخل في أزماته كما كانت تفعل إدارات بلاده السابقة، فهو اكتفى بتقديم شرحٍ لأزماته الراهنة بعين المثقف المراقب بحديثه عن أسباب تلك الأزمات وعن الفقر والهوة مع العالم الغني والحكومات المستبدة والتفرقة الاجتماعية والطائفية المهدِّدَة لإنجازات ما بعد نهاية «الحرب الباردة».

حاول أوباما أن يشيع إحساساً بالتفاؤل، لكنه بالنسبة الى مستمعيه العرب أحبط كثراً منهم إزاء ما يعتبره البعض «انهزاميته» أمام تدخلات مباشرة لروسيا وتركيا وإيران وميليشياتها، أكان في سورية أو اليمن أو العراق. إنه عملياً قدم صورة سوداء لما يجري في العالم لن يزيد من قتامتها غير استمرار انسحاب الولايات المتحدة والغرب من الأزمات. وتجد شعوب المنطقة العربية صعوبة في فهم سياسة عدم التدخل الغربي، في حين تتركها مفتوحة لتدخل روسيا وتركيا وإيران في أكثر من مكان فيها. فإذا كانت واشنطن تعتقد أن هذا التدخل سيساهم في توريط هذه الدول وإنهاك اقتصادها، ما يجبرها في النهاية على الانسحاب من مناطق الأزمات، فإن نهاية كهذه، على افتراض صحتها، قد تستغرق طويلاً كي تثمر. وفي هذه الأثناء، تستمر دواليب طاحونة القتل الأعمى في الدوران غير آبهة بسقوط عشرات الآلاف من الضحايا في المنطقة.

إنها في النهاية حروب تقع أهدافها خارج أسوار الساحات التي تدور فيها. فلا نظام الأسد في دمشق قادر على الصمود والعودة إلى تطبيع علاقاته مع شعبه مهما بلغت مستويات دعمه الروسي والإيراني، ولا فلاديمير بوتين مستعد للتمسك بالأسد إلى الأبد، ولا إيران مرحّبٌ بها في بيئات غير صديقة لها في غالبها. كل ما يريده بوتين في سورية، الاحتفاظ بموطئ قدم لبلاده في مياه المتوسط الدافئة، والاعتراف بعودة شبه جزيرة القرم إلى سيادة موسكو، وبحيازتها ممرات ثروتها من الغاز الطبيعي نحو المتوسط، ومشاركتها في أي تحول استراتيجي في منطقتي البلطيق والبلقان المجاورتين لآسيا وأوروبا.

أما إيران الخارجة من اتفاق مريح في شأن ملفها النووي، فتسعى أيضاً الى اعتراف غربي وأميركي تحديداً بريادتها كقوة إقليمية لا ينازعها أحد وفرض صيغتها لشبكة العلاقات التي تريدها مع جوارها العربي، لا سيما الخليجي. أما أنقرة، فلا همّ لرجب طيب أردوغان من سياسته منذ 2011 غير إخماد الصوت الكردي داخل حدود تركيا وخارجها، وهذه سياسة تضاعف شأوها بعد محاولة الانقلاب الأخيرة ضده في منتصف تموز (يوليو) الفائت.

في الفضاء الأوسع المحيط بالشرق الأوسط، تتعرض أوروبا للمرة الأولى لتحدٍّ هو الأخطر ربما منذ الحرب العالمية الثانية. فالدول الأوروبية، حتى الكبيرة منها مثل فرنسا وألمانيا، تشهد نزوعاً لمجتمعاتها الى النظر نحو الداخل منذ استفتاء «بريكزيت» الأخير في بريطانيا، الذي جاءت نتيجته لمصلحة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. ويرى كثر أن بريكزيت بريطانيا أولى كرات السبحة التي قد تتكرر في دول أخرى.

ويرافق هذا التطور علوّ صوت أحزاب اليمين، حتى المتطرف منها، واتساع قواعدها الانتخابية، لتعزيز دور هذه الأحزاب في الضغط إما للانسحاب من أوروبا الموحدة أو لإعادة صوغ مضمون الوحدة الأوروبية وخفضها من حالتها الراهنة كسوق واحدة إلى تعاون مشترك يحدد شكله أعضاؤه وفق المصالح الوطنية لكل عضو. بعبارة أخرى، إنها العودة إلى داخل الحدود الوطنية ووضع نهاية لتجربة الحدود المفتوحة على مدى نصف قرن على الأقل، والانزلاق لاحقاً ربما نحو النزاعات حول التجارة والملاحة وعبور الأفراد وغيرها من الأمور المحفزة لنزعة العودة إلى إجراءات الحماية الوطنية الضيقة.

في كل الأحوال، على رغم هذا المشهد المأسوي أكان في الشرق الأوسط أو حتى أوروبا، هناك حالة من «الإرهاق التدخلي» Intervention Fatigue إذا صحّ القول، عبّر عنها بدقة الرئيس الأميركي في خطابه الأخير، عقب الأخطاء القاتلة والباهظة التكاليف، بالبشر والأموال، لتدخل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وغيرها في عهد جورج دبليو بوش وتوني بلير ونيكولا ساركوزي من دون أن يسميهم. فهو وضع منذ بداية فترة رئاسته الثانية، نهاية سياسة التدخل الخارجي ونفّذ هذه السياسة بالانسحاب من العراق ورفض التدخل في ليبيا مكتفياً بالقيادة من الخلف، كما يقال. وها هو الرئيس أوباما في خطابه الأخير ينعى رسمياً عصر التدخل. فهل يُبقي من يخلفه هذه السياسة؟.

مصطفى كركوتي

صحيفة الحياة اللندنية