استراتيجيات الدعاية الروسية والسورية لمساندة الجهد الحربي وشَيْطَنَة “الآخر”

استراتيجيات الدعاية الروسية والسورية لمساندة الجهد الحربي وشَيْطَنَة “الآخر”

443250949a9d4d1faa4000b63270498b_18

مقدمة

يُؤدِّي الاتحاد الروسي دورًا محوريًّا في الصراع السوري، وساعدت مناوراته الدبلوماسية ودعمه العسكري على بقاء نظام الأسد في سدة الحكم بعد خمس سنوات من الصراع المسلح، ويتطلَّب وضع روسيا الاستراتيجي كفاعل في الصراع السوري، فضلًا عن أهميتها الجيو-سياسية الكبرى، فهمًا أفضل لكيفية تغطية النزاعات الدولية في وسائل الإعلام الروسية، واستخدامها دعائيًّا سلاحًا يعمل متزامنًا مع الأسلحة الأخرى. وتُعَزِّز روسيا سياستها هذه بتصرفات عسكرية مساندة؛ كان من بينها ما يحدث في حلب ويجري تعريفه باعتباره “معركة كبرى” يبدو فيها بجلاء صراع الإرادات الدولية والإقليمية؛ فقد نفَّذت روسيا بالتعاون مع قوات النظام السوري عملية واسعة النطاق حاصرت فيها حلب منذ نهاية يوليو/تموز 2016، وتصدَّت لكل محاولات تغيير هذا الوضع عسكريًّا. وعلى صعيد آخر، يتشبَّث النظام السوري بمقدَّراته الإعلامية؛ التي تتيح له السيطرة على الجماهير السورية بخطاب دعائي يُظْهِر قوته العسكرية والسياسية والخدمية، ويُبْرِز أن محاولة التخلُّص منه غير أخلاقية، فضلًا عن أنها غير عملية أو واقعية.

والحرب مفهومًا ومصطلحًا معجميًّا تعني النزاع المسلَّح بين دولتين أو أكثر من الكيانات غير المنسجمة؛ إذ الهدف منها إعادة تنظيم الجغرافيا السياسية للحصول على نتائج وغايات معينة؛ وقد أضاف إليها المنظِّر العسكري الألماني كارل فون كلاوزفيتز (Carl Von Clausewitz) نظرته الثَّاقبة والعميقة عندما قال: “إن الحرب عمليات مستمرة من العلاقات السياسية؛ ولكن بوسائل مختلفة، وإن لكل عصر نوعه الخاص من الحروب، وأساليبه الخاصة”(1). ويرى المنظِّرون الإعلاميون أن الدعاية هي “الاستخدام المخطط المقصود لوسائل الإعلام والمعلومات والرموز اللفظية والسمعية والبصرية وغيرها ضمن أساليب من الإقناع والإيحاء بقصد التأثير وإحداث التغيير على جوانب معينة لدى الجهة المستهدفة كالاتجاهات والسلوك؛ مما يحقق أغراض الجهة القائمة بالدعاية، بطريقة مُوَجَّهَة أُحَادِيَّة المنظور تعتمد على إعطاء معلومات ناقصة أو معلومات كاذبة، وهي تقوم بالتأثير على الأشخاص عاطفيًّا عوضًا عن التأثير العقلاني”(2).

ولكن فريقًا كبيرًا من دارسي الاستراتيجية يرى أن الدعاية بمفهومها الكلاسيكي قد ولَّى زمنها، ولم تَعُدْ تُجْدِي نفعًا في عصر العولمة والمعلومات كما ذهب جوزيف ناي (Joseph Nye)، وأننا الآن في “زمن الحرب الناعمة؛ لأن توسُّع وسائل الإعلام وانتشارها بين أيدي الجميع وظهور فاعلين من غير الدول قد عَدَّل مفهوم المصداقية في الخطاب السياسي للدول، ومنع احتكار الدول لسلطة مصداقية المعلومة، ما أدى إلى القفز نحو اتجاهات ووظائف جديدة أنتجت الحرب الناعمة؛ التي أصبحت وظائفها تقوم على تشكيل التصورات العامة، وبناء البيئة السياسية الملائمة لترسيخ قواعد السياسات المطلوب تثبيتها وتمريرها والتسويق لها، ونَزْع الشرعية والمشروعية والمصداقية عن الخصم، وتغيير شخصية النظام والقيادة لديه، وقَلْب الحقائق وتحويل نقاط القوة إلى نقاط ضعف والفرص إلى تهديدات”(3).

كل هذه الوظائف لم تكن معهودة بهذا التركيز والتكثيف كما هي اليوم، وهنا تُعَدُّ الحرب الناعمة تطورًا للدعاية والحرب النفسية في الوظائف؛ ناجمًا عن التطور الكمي والنوعي الضخم في وسائل الاتصال والإعلام ووسائطهما؛ بل يمكن اعتبار الحرب الناعمة إفرازًا طبيعيًّا وحتميًّا مرتبطًا بسعة انتشار وسائط تكنولوجيا الاتصال والإعلام من الفضائيات وأجهزة الاتصال المحمولة الرقمية، ومواقع وصفحات الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي.

تَعْتَبِرُ مراكزُ القوى في السياسة الروسية -الرئيس فلاديمير بوتين والكرملين وحزب روسيا القوية- أن من بين مهامهم الأساسية؛ التي يضطلعون بها الآن هو إسماع رسالتهم السياسية للعالم عبر القنوات ووسائل الإعلام الروسي الدولية؛ بما فيها وكالات الأنباء والقنوات الفضائية. وللوصول إلى الجماهير في أوروبا الغربية والعالم بدأ الكرملين منذ أحد عشر عامًا في إنشاء عدد من الوسائل الإعلامية الدولية التي يُنْفَق عليها بسخاء لإسماع العالم رسالة روسيا والكرملين، واستعادة صورة روسيا القوية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وكلُّ المسؤولين الروس بمن فيهم بوتين دَعَوْا إلى استخدام القوة الناعمة، والقوة الإقناعية للإعلام الذي يُعَدُّ جزءًا من ترسانة أسلحة السياسة الخارجية.

وقد عَرَّف بوتين مفهومه الخاص للقوة الناعمة للدولة بأنه “أداة جيو-سياسية تحت سيطرة الحكومة للتأثير في الآخرين”(4). وانتقد الاستخدام غير القانوني للقوة الناعمة من قِبَل الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة؛ التي تتدخل في شؤون الدول المستقلة، وتزرع القلاقل في الدول المستقرة، وتتلاعب بالرأي العام تحت ذريعة تمويل مشروعات حقوق الإنسان والدفاع عن الحقوق الثقافية للأقليات.

أما رسالة روسيا للعالم فقد حدَّدها بوتين في مقال بعنوان: “روسيا في بداية الألفية الجديدة”؛ عشية تسلُّمه الرئاسة في 1999، بقوله: “روسيا كانت وستظل قوة عظمى، إنه شيء محكوم بصفاتها الجيو-سياسية والاقتصادية والثقافية التي لا فرار منها، وتؤثِّر بدورها وتحكم عقلية الروس وحكومتهم خلال تاريخ روسيا، فتقاليد وقيم روسيا تتضمن الوطنية، والإيمانُ بعظمة روسيا يعني الإيمان بدولة قوية”(5).

أحد الأذرع الإعلامية الخارجية لآلة الدعاية الروسية هي قناة “روسيا اليوم” (RT) التي تُبثُّ بالإنجليزية والعربية والإسبانية، وتبلغ ميزانيتها أكثر من 500 مليون دولار سنويًّا، بحسب تقديرات أميركية، منذ انطلاقتها في 2005، وربما كانت “روسيا اليوم” من أقلِّ القنوات الأجنبية الموجَّهة إلى العرب مشاهدة، إلا أن موقعها على الإنترنت تمكَّن من جذب آلاف المتابعين بسبب كثافة الأخبار المنوَّعة واللطائف والمقاطع المصورة الطريفة التي تبثُّها القناة لجذب الزائرين، وتستثمر القناة هذه الشعبية لموقعها الإلكتروني حاليًّا في بث الرسائل الحربية(6).

فيما كانت قنوات التليفزيون الحكومي السوري أهم سلاح سَلِمَ -حتى الآن- من التدمير، والتليفزيون السوري يدين بالولاء للنظام السياسي السوري منذ إنشائه عام 1960 حتى الآن، وقد اختار الباحث قناة “الإخبارية السورية” التي بدأت عام 2011 بعد تأسيس المجلس الوطني للإعلام، وإقرار قانون الإعلام الجديد؛ الذي صدر في العام نفسه(7).

1- الإطار المنهجي للدراسة

أ. مشكلة الدراسة

تَتَمَثَّل المشكلة الأساسية في رصد وتحديد استراتيجيات الدعاية الحربية الروسية والسورية أثناء “معركة حلب” في إطار دراسة حالة للحرب الأهلية السورية؛ التي تحوَّلت إلى صراع إقليمي ودولي، وتعريف المعركة أو الصراع وأسبابه، والحلول التي يطرحها الخطاب الإعلامي الروسي والسوري، وكذلك رصد أدوار الفاعلين الإقليميين والدوليين وتحليلها وصفاتهم.

‌ب. أسئلة الدراسة

تتركز أسئلة الورقة البحثية في أربعة محاور رئيسة:

1) كيف عَرَّفَت وسائل الإعلام الروسية والسورية الصراع في حلب وفي سوريا عمومًا، وما الأسباب التي ركَّزت عليها؟ وما الحلول التي طرحتها؟

2) ما صفات القوى الفاعلة في هذا الصراع وأدوارها بما فيها القوى الإقليمية والدولية؟

3) ما استراتيجيات الدعاية التي تمَّ توظفيها في الخطاب الإعلامي الروسي والسوري لكسب معركة إقناع العقول والتأثير في مشاعر الجماهير وأحاسيسهم؟

4) ما النواحي البصرية البارزة التي اعتمد عليها الإعلام الروسي والسوري في معركة السيطرة على حلب؟

‌ج. أهداف الدراسة

تسعى الدراسة إلى تحليل استراتيجيات الدعاية الروسية والسورية أثناء معركة حلب؛ التي وصفتها الأطراف المحلية والإقليمية والدولية بأنها معركة فاصلة يتحدَّد على أساسها مستقبل الصراع في سوريا وآفاق حلِّه سلمًا أو حربًا؛ وبالنظر إلى التقاطع بين الإعلامي والسياسي ضمن السياسة التحريرية للإعلام الروسي والسوري سوف نحلِّل تعريف الصراع وأسبابه وحلوله في إطار الأيديولوجية المهيمنة على الإعلام الروسي والسوري. وترصد الورقة البحثية -أيضًا- صفات القوى الفاعلة الرئيسية في الصراع وأدوارها، وتُفكِّك -سيميولوجيًّا- في الوقت ذاته عينات من التغطية للمعارك العسكرية.

‌د. مجتمع الدراسة

عكفت الدراسة على تحليل النشرات الإخبارية في قناتي “روسيا اليوم” و”الإخبارية السورية” كممثلتين للخطاب الإعلامي الروسي والسوري خلال الفترة الممتدة من 28 من يوليو/تموز إلى 24 من أغسطس/آب 2016 لمعرفة منطلقاتهما اللغوية البنائية بشكل نقدي، وحمولتهما الأيديولوجية، وتحديد مدى تشابه أو اختلاف الخطابين باختلاف التَّوَجُّه السياسي للوسيلة الإعلامية. وقد بلغ مجموع التقارير الإخبارية 60 تقريرًا موزعة على النحو الآتي: 26 تقريرًا لقناة “آر تي”، و34 تقريرًا لقناة “الإخبارية السورية” الحكومية.

2- الإطار النظري للدراسة

الخطاب هو نظام من التَّمَثُّلات والصور والرموز الذي تطوَّر بشكل اجتماعي لِنَقْل مجموعة مُتَّسِقَة ومتماسكة من المعاني حول موضوع معين، وهذه المعاني تخدم مصالح هذا الجزء من المجتمع الذي أنتج هذا الخطاب الذي يعمل بشكل أيديولوجي لتطبيع هذه المعاني (أي تحويلها إلى معانٍ طبيعية) بشكل يجعلها أقرب إلى المنطق المعقول ذي المعنى الوطني أو القومي أو حتى العالمي؛ وبهذا تختفي الأيديولوجيا التي تخدم مصالح طبقة معينة أو فئة بعينها(8). والخطابات بهذا المعنى علاقات للقوة؛ إذ إن الخطاب فعل اجتماعي يساند الأيديولوجيا المهيمنة أو يعارضها؛ لذا يُشار إليه عادة باعتباره ممارسة مستمرة تقوم بها كل فئات المجتمع، وهذه الخطابات تغدو مُؤَسَّسِيَّة بفعل وسائل الإعلام، وبذلك تصبح مقبولة من منتجيها ومستهلكيها على حدٍّ سواء.

ويحاول تحليل الخطاب التعرُّف على كيفية إنتاج الواقع الاجتماعي، وهذه هي أَهَمُّ إسهاماته عندما يفحص كيف تقوم اللغة (أو العلامات) ببناء الظواهر، وليس كيف تقوم اللغة بعكس وإبراز الظواهر، بعبارة أخرى: ينظر دارسو تحليل الخطاب إلى الخطاب باعتباره مُكَوِّنًا للعالم الاجتماعي، وليس طريقًا للعالم الاجتماعي؛ إذ تفترض نظرية الخطاب أنه لا يمكن التعرف على هذا العالم منفصلًا عن الخطاب(9).

يتميز تحليل الخطاب بنظرة تفسيرية اجتماعية؛ وذلك مع محاولته استكشاف العلاقات بين النص والخطاب والسياق؛ إذ تفترض نظرية الخطاب -أيضًا- استحالة فصل الخطاب عن سياقه الأوسع السياسي أو الاجتماعي، الثقافي أو التاريخي. وبناءً على ذلك، اختارت الدراسة اقترابًا نظريًّا ينزع إلى تلافي مثالب تحليل المضمون التقليدي، ألا وهو نظرية الخطاب ومدرستين أو مدخلين للتحليل هما: مدخل اللغويات النقدية، والمدخل السيميولوجي أو العلاماتي.

‌أ. مدخل اللغويات النقدية (تحليل الخطاب النقدي)

وهو المدخل الذي طوَّره علماء جامعة أنجليا الشرقية بالمملكة المتحدة؛ إذ نظروا إلى النصوص الإعلامية على أنها ذات وظائف متعددة تؤثر على الإدراك والمشاعر والأحاسيس عبر نظم من اختيارات الألفاظ؛ التي تشكل حقلًا للعمليات الأيديولوجية للتأثير في الجماهير، وقد اختارت الدراسة من بين تحليل الألفاظ تحليل صفات القوى الفاعلة وأدوارها. ويُعْنَى هذا المدخل -أيضًا- بإعادة إنتاج الخطاب الإعلامي عبر عمليات التناص، وهو ما تم تطويره من حقل الدراسات الأدبية، فالخطاب الإعلامي (وداخله الخطاب الخبري) خطاب مفتوح على خطابات أخرى يؤدِّي بعضها دور التوجيه والتأثير في بنية مقولات هذا الخطاب بدرجة أو بأخرى، ويدخل بعضها الآخر في علاقات تأثير متبادل مع هذا الخطاب، وفي هذا الصدد سوف تحلِّل الدراسة تعريف الصراع وأسبابه وحلوله؛ إذ إن تحليل الأطر الذي يمثِّل جزءًا من تحليل الخطاب، يُعْنَى بتحليل الاختيار والتركيز واستخدام عناصر بعينها في النص الإعلامي لبناء حجة أو برهان على المشكلات ومسبباتها وتقييمها وحلولها، ولكي تؤطر موضوعًا لابُدَّ أن تختار بعض أوجه الحقيقة المدركة وتبرزها عبر آليات (الاختيار- السكوت) أو (الحضور- الغياب) لكلمات أو عبارات أو صور نمطية، أو مصادر للمعلومات لتقديم مجموعة من الحقائق أو الأحكام عن موضوع يتم تناوله.

ولكي نحلِّل استراتيجيات الدعاية تستخدم الدراسة المدخل الوظيفي بشكل نقدي؛ إذ يذهب نورمان فيركلوف (Norman Fairclough) إلى أن تحليل بُعْدِ الممارسة الاجتماعية الثقافية للنص والخطاب يمكن أن يتم على مستويات متعددة من التجريد: فقد يتضمَّن التحليل سياق الموقف المباشر للحدث، أو السياق الأوسع نطاقًا للممارسات المؤسسية التي ينغرس فيها الحدث، أو في السياق الأوسع منه ألا وهو المجتمع/الثقافة، أو بعبارات أخرى قد يكون سياقًا متعلقًا بالقوة والأيديولوجيا كالسياقات الاقتصادية والسياسية، وقد يكون سياقًا ثقافيًّا متعلقًا بالقيمة والهوية، وهو ما يفيد في تحليل استراتيجيات الدعاية، التي تُمَثِّل في جوهرها استخدامات وظيفية للخطاب يجري تحليلها نقديًّا.

المهم في هذا المدخل هو التركيز على الربط بين النصوص والأيديولوجيات الدالة على علاقات القوة، وتأثير قيم الأخبار ككود (شفرة) أيديولوجي في معالجة الموضوعات الإعلامية، وقد رصد بعض الباحثين عددًا من الاستخدامات الوظيفية للأيديولوجيا في الخطاب؛ مثل: تعميم الخاص، والتبرير، ومنح الأخطاء طابعًا أبديًّا، وتقنيع الواقع، والإدماج، وكلها تقع في حقل تحليل الدعاية(10).

‌ب. المدخل السيميولوجي أو العلاماتي

يركز هذا المدخل على الجوانب المرئية للخطاب الخبري؛ وذلك من خلال تحليل الجوانب السيميولوجية للتقارير كما تُقَدَّم في التليفزيون، مُرَكِّزًا على المراسل أو قارئ النشرة وعلاقته بالكاميرا واستخدام الغرافيك والصور وأنواع التجسيد المختلفة، واستخدام الأفلام والتعليق عليها وزوايا الكاميرا وتأطير الصور مُبَيِّنًا أن ذلك يحمل معاني اجتماعية(11).

3- تعريف المعركة وأسبابها وحلولها

أ‌. “روسيا اليوم”

ركَّزت قناة “روسيا اليوم” على توصيف آني للمعركة حول حلب يتجاهل أزمة النظام السوري غير الديمقراطي مع فئات المعارضة، تلك التي فجَّرت الثورة منذ خمس سنوات في سوريا في سياق ما يُعرف بـ”الربيع العربي”، وأوضحت أن هناك قوى إقليمية ودولية تدعم مجموعات خارجة على القانون والدولة السورية، وحاولت القناة توصيف الصراع باعتباره “محاولة لكسر الحصار” الذي فرضه الجيش السوري على حلب(12)، أو “أزمة إنسانية” يتعرَّض لها المدنيون السوريون نتيجة استئناف الأعمال القتالية من قبل “الفصائل الإرهابية”(13)، وأن تَوَرُّط أطراف دولية وإقليمية فيها يُحَوِّل المعركة في حلب لـ”حرب استنزاف طويلة الأمد”(14)، وهي -أيضًا- “معركة كسر عظم إقليمي ودولي”(15).

فيما يتعلق بالأسباب وراء المعركة والمعاناة الإنسانية فقد حدَّدها الخطاب الإعلامي للقناة في عدم انصياع “الفصائل الإرهابية” للخط الدبلوماسي الذي بدأ في جنيف، وقصف “الإرهابيين” للمدنيين، و”عدم جدية الولايات المتحدة في وقف مساندة الإرهاب”، ودخول الفصائل المسلحة وعتادها عبر الحدود التركية-السورية، فضلًا عن طلب الأمم المتحدة ومبعوثها دي ميستورا الهدنة الإنسانية حتى يتسنَّى لـ”الفصائل الإرهابية” تجميع صفوفها.

أما عن الحلول التي طرحتها القناة غالبًا على ألسنة مصادرها المنتقاة فكانت: ألا تُعَوِّل “الفصائل الإرهابية” على أي مكاسب عسكرية من معركة حلب تدخل بها التفاوض، قوة الجيش السوري وحلفائه الدوليين والإقليميين سوف تحسم المعركة في الميدان، التعاون الروسي الإيراني في الضربات الجوية لتقليص زمن تحليق القاذفات الروسية، الشعب السوري هو من يُقَرِّر مستقبل سوريا وليس الولايات المتحدة أو تركيا، ويتحقق ذلك بزيادة عدد الجماعات والفصائل السورية التي تدخل في المصالحة، وإدراك قوة إقليمية -مثل: تركيا- أن التقارب مع موسكو هو بداية حلِّ الصراع، أو دخول قوى أخرى كقوات سوريا الديمقراطية الكردية في الحرب على تنظيم “الدولة الإسلامية” وحلفائه.

ب‌. “الإخبارية السورية”

 ركزت الإخبارية السورية على توصيف تضخيمي للمعركة حول حلب يُعَظِّم تضحيات “الجيش السوري” وحلفائه؛ لأن ما يحدث هو “حرب كونية ثالثة”(16) تشترك فيها أكثر من 100 دولة، مرتبطة بـ”المشاريع الإقليمية والأحلام الإمبراطورية”(17) في الشرق الأوسط، وهي جزء من “مخطط أميركي لاستنزاف متبادل” لـ”الجيش السوري” ولـ”الجماعات الإرهابية” حتى تظل المنطقة ممزقة؛ لأن ذلك جزء من “المشروع التفتيتي”(18) للمنطقة العربية.

أما عن الأسباب وراء معركة حلب وكل المعارك في سوريا فقد تكرَّر ذكر مساندة قوى عربية وإقليمية ودولية ودعمها بالمال والسلاح لما تُسَمِّيه المعارضة المعتدلة؛ التي ليست سوى “جماعات إرهابية” على رأسها جبهة فتح الشام أو جبهة النصرة سابقًا، وأن كل هؤلاء هم سبب معاناة أهل حلب الإنسانية، ليس فقط قصف “الفصائل الإرهابية” للمدنيين بالغازات السامة، فأحيانًا أخرى يكون السبب طرح الولايات المتحدة مطالب إضافية تكسر التوازن وتعرقل التقدم، أي التخفي وراء خطاب المساعدة الإنسانية المتداعي لرأب صدع “الفصائل الإرهابية”.

وجاءت الحلول مُتَّسِقَة مع الخطاب السياسي السوري؛ وإِنْ تراوحت ما بين إلقاء “الجماعات الإرهابية” للسلاح والاشتراك في المصالحة وقبول العفو الرئاسي السوري (العودة إلى حضن الوطن سوريا)، وصمود الشعب السوري الذي يؤدي إلى الحسم العسكري للجيش العربي السوري، وهو يأتي بمساندة روسيا والقوات الرديفة، وأحيانًا أخرى إدراك القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة أن الأمر ليس بيدها وحدها وإيقاف مساعدتها لـ”الفصائل الإرهابية”، ووجود قوى دولية تساند الشعب السوري كروسيا التي ترفع المعاناة عن المدنيين السوريين، وتراقب المصالحة السورية من خلال مركز تنسيقها في حميميم.

4- صفات وأدوار القوى الفاعلة في معركة حلب

جدول رقم (1) يرصد صفات وأدوار القوى الفاعلة في قناة “روسيا اليوم”

الفاعلون

التوصيف

الأدوار

تنظيم “الدولة الإسلامية”  إرهابي – يزرع الألغام التي تستهدف الأفراد

– شريعته تجاوزت قانون الغاب

جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقًا) إرهابية

 

– تمنع إتمام المصالحة

– تشن موجات من الهجوم

الجيش الروسي   يدعم الهدنة لأسباب إنسانية
 

الجيش السوري

 

بطل

– يحكم الحصار حول حلب ويصد موجات الهجوم

– يُؤَمِّن المدنيين ويطرد الإرهابيين لأماكن بعيدة عن السكان

 

الحكومة السورية

– صامدة

– أب وحامٍ وحاضن

– لا تسعى إلى الثأر وتفتح ذراعيها للمصالحة

– توفِّر معابر الخروج الآمن وتسلم المساعدات الإنسانية لمستحقيها

النظام السوري صامد، قوي يسعى إلى المصالحات والعفو الرئاسي
قوات سوريا الديمقراطية   – تخلصت من داعش في منبج

– تكوِّن مجلسًا عسكريًّا في مدينة الباب

حلب أجمل المدن السورية تحدد مصير الصراع في سوريا
المواطن السوري ضحية، متشبث بحلب مكوناته العرقية العربية والكردية والشركسية تريد التخلص من داعش
موسكو   – تواصل دعم النظام السوري

– تريد غلق الحدود السورية مع تركيا

 

تركيا

 

 

– تريد كسر الجيش السوري

– تبني آلية للتعاون مع روسيا

– قد تعدل سياستها تجاه النظام السوري

الاتحاد الأوروبي   – يشجع الجماعات الإرهابية
الأمم المتحدة ومبعوثها دي ميستورا   – يطلب هدنة إنسانية تساعد في إعادة ضخ تجمعات المسلحين
الولايات المتحدة غير جادة في مواجهة الإرهاب تريد كسر الجيش السوري
دول عربية   – تدعم جبهة النصرة

– تريد كسر الجيش السوري

  •  يوضح جدول رقم (1) أن الصفات والأدوار الإيجابية في “آر تي” كانت من نصيب القوى الفاعلة الروسية وتلك المتعلقة بنظام الأسد وحلفائه الإقليميين، مثل: إيران، بينما كانت الصفات السلبية من نصيب أغلب فصائل المعارضة والتنظيمات الجهادية، لاسيما تنظيم “الدولة الإسلامية” المعروف إعلاميًّا بـ”داعش”، وجبهة النصرة التي تحوَّلت إلى جبهة فتح الشام، وكذلك بلغت التوصيفات والأدوار السلبية القوى الدولية المساندة للمعارضة السورية كالولايات المتحدة والحلفاء الإقليمين.
  • زادت نسبة استخدام الأدوار (كما يُبَيِّن الجدول 1) عن الصفات في “آر تي”، سواء كانت إيجابية أو سلبية، بما يشي بمحاولة القناة إخفاء الحمولة الأيديولوجية لها، وإظهار نفسها باعتبارها قناة دولية محايدة تعالج الصراع بموضوعية.
  • يوضح جدول رقم (2) أن الصفات والأدوار الإيجابية في “الإخبارية السورية” كانت من نصيب “الجيش العربي السوري” وحلفائه الدوليين (روسيا) والإقليميين الذين تم التعبير عنهم بـ”القوات الرديفة” أو المتفقة مع السياسة السورية لاحتواء “الإرهاب الإسلامي” كالهند؛ بينما كانت الصفات السلبية من نصيب فصائل المعارضة والتنظيمات المسلحة التي دُمِغَت جميعها بـ”الإرهاب”، وكذا الحليف الدولي (الولايات المتحدة) والحلفاء الإقليميين.
  • زادت نسبة استخدام الصفات عن الأدوار في “الإخبارية السورية”، سواء الإيجابية أو السلبية، الأمر الذي يُبَيِّن أن القناة اعتمدت على إظهار الحمولة الإيديولوجية في التغطية الإخبارية، ولم يحتج الإعلام السوري إلى إخفائها ربما لاختلاف الجمهور المستهدف، فالمواطن السوري هو هدف الدعاية السورية، وكان لابُدَّ من “شَيْطَنَة” الآخر لِتَنْفِير المواطن السوري منه.
  • جاءت التوصيفات في تقارير “آر تي” على لسان مصادر من الخبراء السياسيين والاستراتيجيين وشهود العيان، بينما جاءت التوصيفات في “الإخبارية السورية” على ألسنة المذيعين والمراسلين بجانب مصادر من الخبراء الاستراتيجيين والمسؤولين الحكوميين والإعلاميين وشهود العيان أو نقلت تصريحاتهم، مثل: المسؤولين اللبنانيين والروس.
  • أدَّت بنية تقارير “آر تي” الدور الأكبر في تلافي الدعاية العاطفية المحمَّلة بأثقال التوصيفات الأيديولوجية؛ فالتقارير على المستوى الزمني أقصر من تقارير “الإخبارية السورية” (متوسط تقارير “آر تي” 2:30 دقيقة، بينما تقارير “الإخبارية السورية” 8:15 دقيقة)، ولا تتضمن حوارات بين المراسل والمصادر أو بين المذيع وضيوف الأستوديو.
  • من حيث بنائية تقارير “آر تي”، فإنها تبدأ بمقدمة تقريرية من المراسل ثم قطع على عدد من المصادر، ثم تعليق ختامي للمراسل، بينما بنائية نشرات “الإخبارية السورية” تتضمن: عناوين الأخبار، ثم التقارير الإخبارية التي انتقينا منها ما هو متعلق بالصراع في سوريا، وعادة كل فقرة تبدأ بتقرير من مذيع النشرة، ثم الانتقال إلى تقرير واحد من المراسلين مصحوبًا بمَشَاهِد، ثم تعليق أخير من المراسل، ثم الانتقال إلى خبر آخر وهكذا، وهذه البنية تتشابه فيها التليفزيونات الرسمية العربية كالتليفزيون المصري.
  • تعتمد تقارير “آر تي” على الحقائق، وتهتم بالإقناع البصري، وعلى الرغم من أن التقارير تذكر وجهة نظر روسيا وسوريا فقط، ولا تفتح مجالًا لعرض أي وجهة نظر أخرى، فإن أغلب الصفات تأتي على ألسنة مصادر قناة “روسيا اليوم”، وليس من قِبَل المحرر أو المذيع أو المراسل(19)، خلافًا لقناة “الإخبارية السورية”(20).
  • يكشف تحليل الحضور/الغياب عن وجود فاعلين تهتم بهم “الإخبارية السورية” ولا تهتم بهم قناة “آر تي”، مثل: وسائل الإعلام المعادية التي تُوصَف بأنها قنوات وصفحات سفك الدم السوري، مخابرات تركيا، الأردن.. والهند، في حين حضرت قوات سوريا الديمقراطية الكردية مرارًا في “آر تي” وغابت تمامًا عن “الإخبارية السورية”.
  • أفسحت “آر تي” وقتها نسبيًّا لسماع الأصوات الإثنية المختلفة في سوريا العربية والكردية والشركسية، بينما غاب هذا البعد تمامًا عن “الإخبارية السورية”، التي تؤكد عروبة سوريا وجيشها.
  • تتضمن نشرات “الإخبارية السورية” فقرة لقراءة تقارير وسائل إعلامية أخرى أغلبها من صحف مستقلة أو شبه مستقلة، أو حتى معارضة للنظام السوري على طريقة “وشهد شاهد من أهلها”؛ بما كَثَّف الحمولة الأيديولوجية للتغطية السورية.
  • تشابه الخطاب الإعلامي لـ”آر تي” و”الإخبارية السورية” في وضع حلفاء الجيش السوري الإقليميين في الظلِّ؛ فلم يظهر حزب الله اللبناني، ولا الحرس الثوري الإيراني، ولا الميليشيات العراقية والأفغانية، إلا على استحياء؛ مُعَبَّرًا عنهم بـ”القوات الرديفة” تارة، و”حلفاء الجيش السوري” تارة أخرى، ولا ذِكْر -أيضًا- لأعداد المقاتلين أو تسليحهم أو خسائرهم على الإطلاق، ولعل استياء إيران من إعلان الروس انطلاق بعض الغارات من همدان يعطي تدليلًا على الاستراتيجية الإعلامية لهذا الفريق، التي تعتمد على الاستخفاء.
  • لم تتحسَّن صورة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على الإطلاق في “الإخبارية السورية”، بينما تحسَّنت صورته نسبيًّا في “آر تي”، التي طرحت احتمال تغيير سياسته الخارجية تجاه النظام السوري.

جدول رقم (2) يرصد صفات وأدوار القوى الفاعلة في “الإخبارية السورية”

الفاعلون

التوصيف

الأدوار

 

 

تنظيم “الدولة الإسلامية”

– إرهابي

– تكفيري

– مرتبط بالكيان الصهيوني

– يتلقى الدعم من العدو الإسرائيلي

 

– يتسلَّل عناصره بعد تدريبهم في الأردن وتركيا

– يسطو على آبار النفط في البادية السورية وسرقة منتجاتها وتهريبها للخارج ولاسيما إلى الأراضي التركية

– يعطل إجراءات المصالحة في درعا

جيش الفتح: جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقًا) والمتحالفون معها – إرهابية، تكفيرية، عاجزة، جبانة، مرتزقة أجانب

– القادة والزعماء من الأجانب

– ترتكب جرائم بحق القرى الآمنة وتعتدي على البنى والمنشآت الخدمية في حلب، وتقتل الأبرياء والأطفال بغازات سامة
 

الجيش السوري

– جيش عربي، عقائدي، سيد الميدان

– الضامن الرئيس لصون البلاد واستقلالها.

– يفتح للمدنيين ممرات آمنة ويجترح المعجزات في الدفاع عن الوطن 

– ينقذ المدنيين السوريين

حلفاء الجيش السوري القوات الرديفة لا ذكر لمساندتها
السيد حسن نصر الله زعيم حزب الله اللبناني   – يفضح المخططات الإقليمية

– يساند سوريا الأسد

الحكومة السورية  صامدة – ترعى الأيتام من أبناء الشهداء وتقضي على أزمات حلب المتمثلة في الطعام والبترول..
الرئيس الأسد – حامي سوريا ومنقذها – يصدر مراسيم العفو ويسعى إلى وقف الحرب
حلب – مدينة الصمود ومقبرة المشروع الإخواني في سوريا

– أزماتها من الغذاء والوقود عابرة

تواجه كذب قنوات سفك الدم السوري وتضليلها
مخابرات الدول الأوروبية   – تُنَسِّق وتخطط هجمات جيش الفتح من غرفة موك في تركيا

– علَّقت تبادل المعلومات مع روسيا

الولايات المتحدة   – تقود الحرب على سوريا

– لم يعد القرار بيدها

القوات الجوية الروسية قاذفات تقلع من قواعدها في روسيا وليس من الأرض السورية – تنفذ هجماتها بدقة وتضرب ورش تصنيع القذائف ومخازن الأسلحة..

– لا تستهدف المدنيين وتوصل مساعدات إنسانية لحلب

موسكو غاضبة من الغرب تساند الجيش العربي السوري
وسائل الإعلام التي لا تتبنى الخط الرسمي شريكة في سفك الدم السوري

 

تشن حربًا نفسية واسعة وتبث الصور والمقاطع المفبركة للتأثير في معنويات المواطنين وتضليل الرأي العام
وسائل الإعلام الأميركية   – تفسح المجال لقادة إرهابيين

5- الاستراتيجيات الدعائية للخطاب الإعلامي الروسي والسوري

أ‌. الاستراتيجيات الدعائية لـ”روسيا اليوم”

يُثْبِت تحليل استراتيجيات الدعاية الروسية أنها تعتمد في جزء كبير منها على إعادة تدوير الخطاب الدعائي السياسي الروسي في الأخبار الخارجية، واستخدام استراتيجيات سبق توظيفها في الحرب على أوكرانيا وضم القرم. ولا تستخدم القناة الروسية استراتيجيات الدعاية المضادة أو أساليب مكافحة الدعاية، مثل: تكذيب الخصوم معلوماتيًّا أو تفنيد مزاعم الخصم، ربما لأن ذلك يُظهرها أكثر حيادية وموضوعية؛ ولأن استراتيجيات الدعاية مُهِمَّة قناة سورية وليست مُهِمَّة قناة لدولة كبرى حليفة.

  • تقديم عالم موازٍ فيه “أزمة إنسانية” بشعة

وهي الاستراتيجية التي أثبتت نجاحها في حرب أوكرانيا وضم القرم في 2014؛ إذ ركزت التقارير على الأزمة الإنسانية التي يتعرض لها المدنيون السوريون في حلب على يد جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقًا) وحلفائها؛ الذين يقصفون المدنيين ويزيدون من عذابهم(21)، وفي غير حلب (منبج مثلًا) على يد تنظيم داعش(22)، فيما كانت الحكومة السورية بمساعدة روسية الجهة الوحيدة التي تُخَفِّف المعاناة عن الشعب السوري(23)؛ إذ إنها لا تسعى إلى الثأر ولكن للمصالحة، وهي الاستراتيجية التي تُسَوِّغ بها أمام الجماهير الروسية تَدَخُّلَها في الحرب بسوريا نهاية سبتمبر/أيلول 2015.

الجدير بالذكر أن إعلام القوى الدولية الكبرى التي تساند الفريق الآخر في الصراع يستخدمون الاستراتيجية نفسها؛ ولكن لإبراز ما تفعله آلة الحرب الروسية التي تقصف المدنيين في حلب وتدعي أنها تستهدف “تجمعات الإرهابيين”، وصورة الطفل السوري (عمران) التي تم تدويرها من خلال وسائل الإعلام الغربية تُعَدُّ مثالًا بارزًا على تصنيع الدعاية الغربية، وهي الصورة التي شكَّكت في مصداقيتها القنوات الروسية بما فيها قناة “آر تي” بكل لغاتها.

  • التَّجْيِيش وإظهار التفوق العسكري

وهي الاستراتيجية الروسية الأثيرة؛ التي لم تَنْشَأ قناة مثل “آر تي” إلا لِتُرَوِّجَها. هذا التفوق العسكري لا ينسحب على الجيش الروسي فقط؛ ولكن على الجيش السوري الذي يستمدُّ قوَّته من روسيا، وظهرت الاستراتيجية في التقارير التي تتابع انطلاق القاذفات الروسية من جنوب روسيا أو من إيران تحمل قنابل مخصصة لدك المواقع الحصينة لـ”فصائل الإرهاب” ومناطق إمداداتهم اللوجستية(24)، أو استخدام صواريخ كالبير المجنحة لدك معاقل داعش، أو في صد الجيش السوري لموجات الهجوم المتوالية لـ”فصائل الإرهاب” في كل المواقع جنوب وغرب حلب(25)، أو صعوبة سقوط كلية المدفعية في يد “الفصائل الإرهابية”؛ لأن فيها أسلحة تكفي “الجيش السوري” لمدة سنتين(26). وهو ما أكده الخبير في شؤون الإعلام في روسيا، ديميتري نيكراسوف، الذي أكد لـ” سي إن إن” أن الآلة الإعلامية ببلاده تقوم بشحن الرأي العام الروسي والعالمي مستندة إلى ترويج أمجاد البلاد العسكرية وقوتها، الأمر الذي يحبه ويدعمه غالبية الروس”(27).

تبث وزارة الدفاع الروسية تسجيلات يومية عن عملياتها بهدف جذب المؤيدين، وتوسيع قاعدة الدعم الشعبية، فيما تقوم وسائل الإعلام الروسية ببث هذه الأخبار وبشكل شبه منسق وبتوقيت محدد، حتى إن نشرة أحوال الطقس المتوقعة، تقوم فيها إحدى المذيعات بتقديم فكرة عن أن حالة الطقس في سوريا تتميز بمناخ جيد ومفضل لتوجيه الضربات الجوية(28).

من الجدير بالذكر أن الفريق الآخر وعلى رأسه تنظيم “الدولة الإسلامية” يستخدم اللغة الروسية في وسائل إعلامه- الإلكترونية غالبًا- للتأثير في الجمهور الروسي؛ لاسيما جماهير الجمهوريات الروسية ذات الحكم الذاتي في تتارستان والشيشان وأنغوشيا.

  • إبراز المعايير المزدوجة للغرب المنافق

وهي الاستراتيجية الروسية التي ازدهر استخدامها منذ أن تَبَوَّأ فلاديمير بوتين سدة الحكم في روسيا، كاشفة زيف الديمقراطية الغربية وقيمها المنافقة، أو بتعبير بوتين “أعداؤنا يستغلون عبارات (التعددية الثقافية) و(التسامح) كحصان طروادة حتى يستطيعوا هدم روسيا وإضعافها؛ لذا فإننا يجب أن نركز على ما يوحدنا كروس، يجب أن تظهر قيمنا التقليدية في المضامين الإعلامية وفي المدارس…”. أو على لسان القيادات الإعلامية: “لا يوجد شيء اسمه الموضوعية، هل “بي بي سي” موضوعية؟!، هل “سي إن إن” موضوعية؟!، إنها أسطورة روَّجها الغرب لفرض رؤاهم علينا حتى يُشَوِّهوا قيم بلدنا، ويقدموه على أنه كائن دولي غريب”(29).

وكذلك في تقرير شَنَّ فيه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف هجومًا على الاتحاد الأوروبي متهمًا إياه بتأجيج المشاعر المناهضة لأوروبا في تركيا بتشجيع العناصر الانقلابية(30)، وعلى لسان المحلل السياسي يعرب خير بك الذي صرح قائلاً: الأمم المتحدة ومبعوثها دي ميستورا يقولون: ثلاث ساعات غير كافية. كما لو كان المطلوب أن يلتقط الإرهابيين أنفاسهم لإعادة ضخ تجمعات المسلحين وإسعاف من يحتاج منهم لذلك، وإعادة تجميعهم بعد ضرب أغلب مواقعها وخلخلة صفوفها المهاجمة(31).

  • مخاطبة مشاعر وأحاسيس الجماهير

لاسيما مشاعر الخوف والتعاطف، ففي القناة العربية حيث أغلب المشاهدين من العرب، تظهر بشاعة داعش وشريعتها التي تشبه شريعة الغاب(32)، وهو وَتَرٌ تُركِّز عليه روسيا منذ انتهاء حرب الشيشان الثانية وتفجيرات 11 من سبتمبر/أيلول 2011، بأنها تتعرض حتى في أراضيها لحرب من “الإرهاب الدولي الإسلامي”؛ التي تُعَدُّ داعش وحلفاؤها جزءًا منه، رابطة بين أنشطة “المتطرفين الإسلاميين” لديها وبين ما يحدث في سوريا بإبراز مشاركة متطرفي الشيشان وتتارستان وأنغوشيا في صفوف داعش وغيرها، في الوقت الذي لا تذكر فيه أن هذه الحركات هي حركات تحرُّر قومي، مستخدمة بشكل كبير فرقعات إعلامية، مثل: إعلان الخلافة الإسلامية في القوقاز، أو مبايعة متطرفي الشيشان لأبي بكر البغدادي.

أما القناة الروسية الموجَّهة للمشاهدين الروس فيتم إبراز إنتاج الأغنية الإنسانية “أختي سوريا” التي تظهر فيها مشاهد قتل الإرهابيين للمدنيين العزل مع مشاهد أحد القديسين في المسيحية، وهنا يستعين مركب الأغنية بمشاهد لا يمكن أن ينفعل بها إلا المواطن الروسي الأرثوذكسي بذكريات الغزو التتري المسلم للأقاليم المسيحية في القرن الرابع عشر، بما يشي بأهمية استخدام الصورة في محتوى عاطفي مثل الأغاني(33).

ب‌. الاستراتيجيات الدعائية لـ”الإخبارية السورية”

استخدمت القناة “الإخبارية السورية” عددًا من استراتيجيات الدعاية أكثر من الاستراتيجيات الدعائية لقناة “آر تي”، ونستطيع أن نقسم الاستراتيجيات إلى نوعين: استراتيجيات الدعاية الأصلية، وهي الدعاية التي تستخدم استراتيجيات لكسب الجماهير بشأن أفعال وسياسات النظام السوري، أو دعاية آلة الإعلام السوري الحربية، واستراتيجيات الدعاية المضادة، التي تستهدف الردَّ على دعاية الخصوم ودحض حججهم، وإبراز بطلانها معلوماتيًّا ومنطقيًّا، أي مكافحة آلة الإعلام للجماعات المسلحة والإعلام المساند لها.

1) استراتيجيات الدعاية الأصلية 

  • الكذب واستخدام المعلومات المغلوطة

في عصر تزايد أعداد القنوات الفضائية والمواقع الإخبارية كما يظهر في المشهد الإعلامي العربي والدولي، لم يعد الكذب استراتيجية دعائية ناجحة كما كان في عصور سابقة يتعرض فيها المواطن أو المستهدف بالدعاية لخطاب إعلامي واحد كالدعاية النازية في الحرب العالمية الثانية؛ إذ يسهل دحض الكذب بتعرض المواطن لقنوات أو مواقع أخرى؛ لذلك لم تستخدم “الإخبارية السورية” هذه الاستراتيجية إلا في حدود ضيقة للغاية، وتحديدًا في خبر استخدام الفصائل الإرهابية لقذائف تحمل غازات سامة حددته القناة بغاز السارين؛ إذ إن تغطية القناة ذاتها لم تثبت استخدامه على لسان مصدر طبي من مصادرها(34)، ويرجح الباحث أن القناة لجأت لذلك ردًّا على تقارير إخبارية بثتها قنوات فضائية عربية بشأن استخدام الجيش السوري لغازات سامة.

ويُثبت توصيف الخبر تهافت استخدام هذه الحيلة؛ إذ يُظهر التقرير سلسلة من الصور للضحايا تنقلهم سيارة إسعاف ثم يحملون إلى داخل مستشفى الرازي بحلب وقد غطى أحد ناقليهم رأسه بقناع واق من السموم، ما يشير إلى أنه لم يتمكن من نزعه لانشغاله بنقلهم وأن المنطقة قصفت بغازات سامة، وأن القناع كان معدًّا لكي يُلبس! (بالطبع يمكن أن يلبسه الشخص قبل التصوير)، ولا يتضح كذب هذه المعلومات إلا إذا قارنت التقرير بتقارير لوسائل إعلام أخرى وهو ما لم يجده الباحث.

ويظهر المراسل لابسًا كمامة طبية وليس واقيًا من الغاز مقررًا أن الغاز المستخدم هو غاز السارين السام، ثم قطع على مصدر آخر يمكن أن يكون طبيبًا يلبس واقيًا طبيًّا يقول: “لم يتم التأكد من أنه غاز السارين”. بينما تعزف الموسيقى المصاحبة موسيقى حزينة معبرة عن هذه المأساة الإنسانية.

  • المبالغة والتهويل

يُظهر تحليل تقارير “الإخبارية السورية” غياب الحصر الدقيق لأعداد المشتركين من الفصائل المسلحة، ففي كل نشرة يُرَدِّد المذيع أن الجيش العربي السوري قتل العشرات والمئات في الهجمة الواحدة دون بث صور، أو دليل من جهة محايدة تعلن هذه الأرقام(35). وينسحب ذلك -أيضًا- على عدد الفصائل المشتركة مع جبهة فتح الشام فيما يُسمَّى بـ”جيش الفتح”؛ وذلك خلافًا لقناة “روسيا اليوم”؛ التي أفردت تقريرًا خاصًّا يوضح أسماء فصائل جيش الفتح وأعدادها(36).

تظهر المبالغة والتهويل في أرقام تُرَدَّد جزافًا على ألسنة المحللين السياسيين لـ”الإخبارية السورية”؛ الذين يذكرون مشاركة أكثر من 80 دولة في الحرب على سوريا، وفي بعض التقارير 100 دولة(37)، لإيضاح خطورة الحرب الكونية أو العالمية على سوريا.

  • الانتقائية وإخفاء بعض المعلومات

حرصت تقارير “الإخبارية السورية” على انتقاء بث معلوماتها؛ إذ ظلت تشير مثلًا إلى أن القوات الجوية الروسية تشارك وحدها في الحرب على “الفصائل الإرهابية”، متجاهلة الخبراء الروس على المستوى العملياتي والتكتيكي (إفادة من خبرة الحرب في الشيشان وأنغوشيا) وعناصر المخابرات الروسية التي يتكون منها مركز التنسيق الروسي الذي لا نعرف عن عمله شيئًا إلا إصدار بيانات الخروقات اليومية لاتفاق وقف القتال، أو عدد الفصائل الداخلة في المصالحة(38). وكذلك تُذْكَر القاذفات طويلة المدى التي تقلع من روسيا وإيران دون ذكر المقاتلات التي تقلع من المطارات السورية أو المروحيات الروسية المشتركة في القتال، كما تُخْفى أعداد القتلى من الجيش السوري والقوات الرديفة من الحلفاء إلا في حدود يسيرة لا تُذكر، والتركيز على الضحايا من المدنيين(39)، وفي الوقت نفسه تجهيل أسماء القنوات المعارضة حتى لا تنكشف كثرة هذه القنوات، ولا يتم لفت النظر إليها اكتفاء بلعنها على أنها قنوات سفك الدم السوري.

  • شَيْطَنَة الآخر

هي الاستراتيجية الكلاسيكية الذي استخدمتها “الإخبارية السورية” أكثر من “روسيا اليوم”؛ التي تحاول أن تظهر بمظهر بعيد عن الدعاية أو التحيز؛ ومن ثَمَّ فالذي يهاجم حلب “تنظيمات تكفيرية” تأتي من أرياف حماة وإدلب، بعض أفرادها مرتزقة من جنسيات أجنبية يتسلَّلون عبر الحدود التركية.

  • التبسيط المُخِلُّ

وهي منطلقات خطابية دعائية شديدة التبسيط على ألسنة خبراء الاستراتيجية، مثل أن “التكتيك العسكري الناجح للجيش العربي السوري هو الذي دفع طيب أردوغان لطلب الاجتماع بالرئيس الروسي بوتين”(40).

  • الاستخدام الغائي للمصادر المغايرة

هي المصادر شبه المحايدة بل المعادية على طريقة “وشهد شاهد من أهلها”، وتظهر في الاقتباس من صحيفة يدعوت أحرنوت عن “منظمة خيرية إسرائيلية تريد أن تقدم مساعدات إنسانية للمناطق التي تسيطر عليها جبهة النصرة الإرهابية بهدف تعزيز العلاقات معها”، أو روبرت فيسك في الإندبندنت البريطانية يكتب: “تغيير اسم جبهة النصرة إلى جبهة فتح الشام وفك ارتباطه مع القاعدة لن تخدع أحدًا من أنه تنظيم إرهابي”(41).

2) استراتيجيات الدعاية المضادة

  • تكذيب الخصوم

تكذيب المعلومات التي تذيعها وسائل الإعلام الأخرى أولًا بأول، (سقوط حلب: لا لم تسقط)، (قطع طريق حلب-دمشق: لا لم ينقطع)، (احتلال الكليات العسكرية مثل كلية المدفعية: كذب لم تحتل)، (معاناة أهل حلب: لا يعانون، الحكومة السورية تدخل المساعدات الإنسانية) وهكذا.

  • تفكيك خطاب الخصوم وبيان زيفه

في ردود متكررة في كل يوم تقريبًا: “ليس هناك معارضة معتدلة”، “تغيير الأسماء لا يخفي الإرهاب”، “لا مساعدات إنسانية تحت غطاء الأعمال الحربية”، “الحلف الغربي لضرب داعش مزعوم ومجرد تمثيلية تضحك بها الولايات المتحدة على العالم فالدول الغربية تدعم الإرهاب ولا تحاربه”(42).

يحدث ذلك أحيانًا عن طريق التدليل ورصد المفارقة مثل تقرير الـ”سي إن إن” الذي يدلِّل على النفاق والازدواجية الأميركية؛ إذ إن القناة “تروج لأحد إرهابي جبهة النصرة بعد تغيير اسمها إلى جبهة فتح الشام وتستضيفه على شاشتها، اسمه مصطفى محمد فراج، وهو موجود على لائحة الإرهابيين في الولايات المتحدة، والغريب ظهوره على شاشة أميركية يتحوَّل على يدها إلى نجم.. وهو يقول: “لسنا تابعين لأحد ونحن مستقلون”. مع تغيير اسم التنظيم إلى فتح الشام، وتَرُدُّ القناة السورية: إن المتزعم الداعم للإرهاب هو الولايات المتحدة؛ والدليل تنقل فراج بحرية بين مدن الولايات المتحدة دون استهدافه”(43).

6- التوظيف الدعائي للصورة في الخطاب الإعلامي الروسي والسوري

أ‌. روسيا اليوم

يرى دارسو الصورة علاماتيًّا أو سيميولوجيًّا أن الوظيفة الأساسية للصورة في الدعاية هي التدليل على الخطاب اللغوي، ثم الشحن العاطفي لتوجيه المشاهد -غالبًا- في القضايا الإنسانية التي يُطلب فيها من وسيلة الإعلام بناء التعاطف، وكانت كادرات القناة الروسية بصفة عامة أكثر حرفية من القناة السورية؛ إذ تميزت الأولى بالقطع السريع للمشاهد اقترابًا من الصورة الغربية، فضلًا عن استخدام الإيضاحات البصرية التي تثبت المعلومة في ذهن المشاهد الذي يستخدم حاستي (السمع والبصر) وليس حاسة واحدة كما في القناة السورية، إلا أن قناة “آر تي” لم تنعم كثيرًا بنشر صور الجنود السوريين الفرحين الذين فرضوا الحصار على حلب؛ إذ كان لزامًا عليها منذ 4 من أغسطس/آب أن تنشر صور صد موجات الهجوم المتتالية التي تشنها الفصائل المسلحة.

وفي أحد التقارير (2 من أغسطس/آب) كانت اللقطات تُعَبِّر عن المواطنين الفرحين بتحرير (بني زيد) من النصرة أو فتح الشام وخروجهم لأعمالهم، وصور للآليات المدمرة في حلب المعبرة عن “اندحار الإرهابيين”، ثم صورة لجندي من الجيش السوري يعتلي سطح بيت بجانب الأهالي الذين يبدون سعداء بهذه التطورات، ثم مشاهد لخروج المواطنين (نساء وأطفال تحديدًا) للحصول على مواد تموينية ومساعدات، وصور لمواطنين في إحدى الحافلات يتجهون إلى مناطق الإقامة المؤقتة الأكثر أمنًا التي وفرتها الدولة السورية، ومواطنون يتحدثون عن الأمان في ظل الجيش السوري، ولافتة عريضة تحمل صورة الأسد وشعارات الحزب الحاكم لم ينلها سوء كناية عن سيطرته الميدانية(44).

وفي تقرير آخر (5 من أغسطس/آب) كان مذيع القناة يشرح عبر خريطة تفاعلية محاور الهجوم الجديد؛ وذلك مع قطع سريع لمشاهد الهجوم من مواقع وقنوات جبهة فتح الشام، فيما تتالت التقارير من 6 إلى 20 من أغسطس/آب تنشر مشاهد من الإعلام الحربي السوري للتصدي لموجات هجوم جبهة فتح الشام بالمدفعية، وصور القصف الجوي، وصور للهلال الأحمر السوري يسارع لإغاثة المدنيين، وصور تحليق القاذفات الروسية من جنوب روسيا ومن همدان بإيران مع صور الضربات على الأرض السورية(45).

على المستوى السيميولوجي، تحاول قناة “آر تي” محاكاة كادرات القنوات الدولية مثل “بي بي سي” و”سي إن إن”، فتغلب عليها اللقطات المتوسطة الأكثر إيضاحًا في تبيان الآليات المدمرة والمحترقة، وحيوية لقطات المراسل، وهو يتجول على الأرض بينما تتابعه الكاميرا المتحركة، تلك التي لا يمكن أن تجدها في التليفزيون السوري.

ثم تنفرد القناة الروسية -أيضًا- باستخدام الخرائط التفاعلية لتوضيح سير المعارك ومحاور هجوم جيش الفتح، أو عروض المعلومات التي تبين بدقة عدد الفصائل المشتركة في القتال، فيما كان استخدامها لمشاهد الإعلام الحربي السوري في أضيق نطاق.

ب‌. الإخبارية السورية

تراوحت مشاهد المعركة في حلب ما بين المشاهد الرسمية للإعلام الحربي للجيش السوري، تلك التي تلتزم كل القنوات السورية بنشرها بعد أن تَعْبُرَ الرقابة السورية الرسمية، ومشاهد متواضعة تقنيًّا لمراسلي الإخبارية في المنطقة أمام المشافي والطرق التي يتم تطهيرها.

منذ استرداد الجيش السوري لحلب وإحكامه الحصار حولها، حاولت القناة إبراز صور نساء وأطفال حلب الفرحين المتأثرين بدخول الجيش السوري والحزناء على تذكر معاناتهم تحت وطأة الإرهابيين(46)، ثم في أعقاب هجوم الفصائل المسلحة، حاولت الصورة أن تثبت صمود الجيش السوري وحلفائه لموجات الهجوم، وتكذيب دعاية الخصم بالصورة، فنشرت صورًا لضباط وجنود سوريين في مشروع 1070 شقة؛ حتى يتم تكذيب سيطرة الخصم عليها، وعن تكذيب معاناة المواطن في حلب نشرت صورًا لشاحنات الحكومة السورية تنقل المواد الغذائية إلى حلب(47).

بيد أن الصور لم تكن مُتْقَنَة في التدليل على ما تقوله القناة في كل مرة، ففي تقرير عن “عشرات المدنيين ضحايا لهجوم الإرهابيين” الذين تم نقلهم إلى مستشفى الرازي تظهر صورة للمراسل من أمام المشفى ولا توجد صور لقتلى أو جرحى(48).

وفي تقرير آخر عن “حلب الصمود: دخول 40 شاحنة بمواد تموينية وغذائية” تبدو صورة لوزير التجارة الداخلية السوري مع مجموعة من المواطنين ولا دليل على أن هذه الصور من حلب، أو تقرير عن “إعادة المياه والكهرباء لأحياء حلب الغربية” ظهرت فيه صور لدوار الليرمون المطهر؛ ولكن لا دليل على إعادة الكهرباء أو المياه(49).

وكذلك أعادت القناة نشر بعض المشاهد لقصف من مواقع أحد الفصائل المسلحة (أحرار الشام)، بينما كان التقرير يتحدث عن جبهة فتح الشام(50)، بما يُقلِّل من المصداقية عندما تكون الصورة في واد وكلمات التقرير في واد آخر.

خلاصة

استخدمت الدعاية الروسية استراتيجيات تبرزها قوةً عالمية عظمى وريثة لروسيا القيصرية والاتحاد السوفيتي السابق متمثِّلة في: إبراز وجود أزمة إنسانية بشعة في حلب، والتجييش وإظهار التفوق العسكري، وإبراز المعايير المزدوجة للغرب المنافق، ومخاطبة مشاعر الخوف والتعاطف. في حين قامت الدعاية السورية على أساس تمييز دعاية الخصوم وكشفها ومهاجمتها بطريقة مباشرة، وتجنيب الجمهور الوقوع تحت تأثيرها لكونها ضد إرادة الشعب السوري؛ ومن ثَمَّ استخدمت استراتيجيات تكذيب الخصوم معلوماتيًّا، وتفكيك منطلقات خطابه الدعائي وبيان زيفه.

وهنا، عكست نتائج الدراسة بيئة الإعلام الروسي الموالي في أغلبه للدولة الروسية في تَبَنِّي أطروحاتها بشأن الصراع والدفاع عنها، أو على الأقل الامتناع عن معارضتها بشكل واضح، وأظهرت تغطية الشأن السوري في الإعلام الروسي أن السياسات الروسية نادرًا ما يتم نقدها؛ فمعظم التقارير ساندت بقوة الجهود العسكرية والدبلوماسية الروسية، وهاجمت بوضوح فرقاء الصراع ما عدا النظام السوري، وهو ما حدث -أيضًا- للإعلام السوري الرَّسمي الذي يُعَدُّ أداة أيديولوجية لتحقيق الامتثال لسياسات الدولة والإذعان لها.

كانت تغطية “روسيا اليوم” لمعركة حلب في الأغلب مُتَعَاطِفَةً مع نظام الأسد ومُعَارِضَةً لبقية الفرقاء بأساليب حَاذِقَة؛ مثل: استخدام أساليب الحذف والإضافة، أو الحضور/الغياب، وتسمية السياسات بلغة مُحَبِّذَة لنظام الأسد، ومُنَفِّرَة لبقية فصائل الصراع، وينطبق هذا على القوى الفاعلة في الأحداث التي تم تأطيرها بشكل بالغ السلبية إِنْ كانت في غير صالح الدولة الروسية. أما الإعلام السوري فإن قيود الأيديولوجيا فيه جَارَتْ على مهنية الإعلام؛ فكانت أساليب الدعاية أقلَّ ذكاء وحِذْقًا من الإعلام الروسي، فتورَّط الإعلام السوري في الكذب وترويج المعلومات المغلوطة، والتهويل والتضخيم، والتبسيط الدعائي المخل، هذا في الوقت الذي كانت استراتيجيات الدعاية المضادة، مثل: تكذيب الخصوم وتفكيكك خطابهم الدعائي من أبرز وظائف التغطية السورية للحرب.

_______________________________________

 د. محمد حسام الدين إسماعيل، مركز الجزيرة للدراسات

مراجع

1.             Clausewitz, C. V. On War (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1976), p. 5-15.

2.             رجب، علي محمد، “الدعاية للحرب عبر التاريخ”، مجلة درع الوطن، (يونيو/حزيران 2013)، ص 15-44.

3.             Nye, J. Understanding International Conflicts: An Introduction to Theory and History, 7th ed. (New York: Longman, 2008). p. 44.

4.             Dougherty, Jill, Everyone Lies: The Ukraine Conflict and Russia’s Media Transformation, Discussion Paper Series, No. 88, Shorenstein Center on Media, Politics, and Public Policy, Harvard Kennedy School, CA, USA, July 2014. p. 1-30.

5.             Ibid, p. 18.

6.             Simons, Gregory. Russian Crisis Management: Communications and Media Management under Putin, Arbetsrapporter Working Papers, No. 85, Department of East European Studies, Uppsala University, Sweden, January 2005. Pp. 1-28.

7.             “لمحة عن الهيئة العامة للإذاعة والتليفزيون”.

http://www.rtv.gov.sy/index.php?m=79

8.             Fairclough, N. Media Discourse (Edward Arnold, London, 1995), pp. 58 – 60.

9.             شومان 

محمد، تحليل الخطاب الإعلامي: أطر نظرية ونماذج تطبيقية (الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2007)، ص 28-31.

10.           Fairclough, N. Media Discourse, p. 61-65.

11.           Giles, J., Tim M., Studying Culture: A Practical Introduction (Blackwell Inc, Oxford, 1999), p.68.

12.           “كاميرا آر تي تدخل حي الراموسة”، آر تي، 4 من أغسطس/آب 2016.

13.           “عدسة آر تي ترصد الواقع الميداني والإنساني في حلب”، آر تي، 3 من أغسطس/آب 2016.

14.           “موسكو: سبعة آلاف مسلح يحتشدون قرب حلب”، آر تي، 10 من أغسطس/آب 2016.

15.           “التصدي لهجوم شمال غرب حلب”، آر تي، 15 من أغسطس/آب 2016.

16.           “تغطية خاصة”، الإخبارية السورية، 10 من أغسطس/آب 2016.

17.           “ساعة إخبارية”، الإخبارية السورية، 30 من يوليو/تموز 2016.

18.           “تغطية خاصة”، الإخبارية السورية، 12 من أغسطس/آب 2016.

19.           “عدسة آر تي ترصد الواقع الميداني والإنساني في حلب”، آر تي، مصدر سابق.

20.           “أهوال داعش في منبج”، آر تي، 8 من أغسطس/آب 2016.

21.           “عدسة آر تي ترصد الواقع الميداني والإنساني في حلب”، آر تي، مصدر سابق.

22.           “عشرات من المسلحين يسلمون أنفسهم وأسلحتهم للجيش السوري”، الإخبارية السورية، 30 من يوليو/تموز 2016.

23.           “عودة أهالي حمص إلى بيوتهم”، آر تي، 9 من أغسطس/آب 2016.

24.           “قاذفات روسية تنطلق من إيران وتقصف سوريا”، آر تي، 15 من أغسطس/آب 2016.

25.           “التصدي لهجوم شمال غرب حلب”، آر تي، 15 من أغسطس/آب 2016.

26.           “صد هجوم للنصرة على كلية المدفعية”، آر تي، 5 من أغسطس/آب 2016.

27.           رنا بو رسلان: “كيف استغلت روسيا الحرب الإعلامية لصالح تدخلها في سوريا؟”، الديار، 10 من أكتوبر/تشرين الأول 2015.

28.           المرجع السابق.

29.           Dougherty, Jill. Everyone Lies: The Ukraine Conflict and Russia’s Media Transformation, op. cit., pp.1-30.

30.           “موسكو: سبعة آلاف مسلح يحتشدون قرب حلب”، آر تي، 10 من أغسطس/آب 2016.

31.           “تواصل الاشتباكات في محاور عدة بحلب”، آر تي، 11 من أغسطس/آب 2016.

32.           “أهوال داعش في منبج”، آر تي، سبق ذكره.

33.           https://www.youtube.com/watch?v=PMABkLa4WMI

34.           “5 شهداء وجرحى من مدنيي المدينة القديمة بحلب جراء قذائف تحمل غازات سامة”، الإخبارية السورية، 3 من أغسطس/آب 2016.

35.           نشرة الجزيرة الإخبارية في 3 من أغسطس/آب 2016.

36.           ساعة إخبارية، الإخبارية السورية، 2 من أغسطس/آب 2016.

37.           تغطية خاصة، الإخبارية السورية، نشرة 10 من أغسطس/آب 2016.

38.           ساعة إخبارية، الإخبارية السورية، 15 من أغسطس/آب 2016.

39.           ساعة إخبارية، الإخبارية السورية، 5 من أغسطس/آب 2016.

40.           ساعة إخبارية، الإخبارية السورية، 6 من أغسطس/آب 2016.

41.           ساعة إخبارية، الإخبارية السورية، 30 من يوليو/تموز 2016.

42.           تغطية خاصة، الإخبارية السورية، نشرة 10 من أغسطس/آب 2016.

43.           ساعة إخبارية، الإخبارية السورية، 3 من أغسطس/آب 2016.

44.           “الجيش السوري يصد هجمات مسلحة لداعش في حماة”، آر تي، 2 من أغسطس/آب 2016.

45.           “قاذفات روسية تقصف مواقع داعش حول تدمر”، آر تي، 8 من أغسطس/آب 2016.

46.           ساعة إخبارية، الإخبارية السورية، الأول من أغسطس/آب 2016.

47.           ساعة إخبارية، الإخبارية السورية، 6 من أغسطس/آب 2016.

48.           ساعة إخبارية، الإخبارية السورية، 11 من أغسطس/آب 2016.

49.           تغطية خاصة، الإخبارية السورية، نشرة 21 من أغسطس/آب 2016.

50.           تغطية خاصة، الإخبارية السورية، نشرة 4 من أغسطس/آب 2016.