إعادة التموقع العسكري الروسي

إعادة التموقع العسكري الروسي

1016515179

انتقلت روسيا الاتحادية في فترة وجيزة من مرحلة تجاوز تداعيات انهيار الإمبراطورية السوفييتية ومحاولة بناء جيش وطني جديد، إلى مرحلة تحديث وإحياء صناعتها العسكرية من أجل إعادة التموقع الجديد لقوتها العسكرية الصاعدة، استجابة للتحديات الجديدة التي فرضها عليها المحيط الإقليمي والدولي؛ وذلك في سياق سعيها الحثيث من أجل استعادة دورها كقوة عظمى بديلة للإمبراطورية التي تفككت، غداة نهاية الحرب الباردة وانتقال العالم نحو القطبية الواحدة في مطلع التسعينات من القرن الماضي. وقد تمت عملية التموقع الجديد على مستوى الهوامش الآسيوية، من أجل التحكم في الوضع الجيوسياسي والجيواستراتيجي الجديد الناجم عن التوترات المتعلقة برسم الحدود ما بين دول الكتلة السوفييتية ومحيطها الإقليمي.
وسعت موسكو في وقت مبكر إلى إعادة بناء قوتها العسكرية ومنظومتها الدفاعية بناءً على التحولات الجديدة التي عرفتها جغرافيتها السياسية، حيث عملت على سحب قواتها المرابطة على الحدود الجنوبية الشرقية، وقامت باتخاذ إجراءات لبناء الثقة وإلغاء عسكرة حدودها مع الصين، بعد تسوية الخلافات الحدودية من خلال إبرام اتفاقية 2004 المتعلقة بسيبيريا الشرقية، وذلك بموازاة تطوير علاقاتها الاقتصادية مع منظمة التعاون لشنغاي التي تضم كلا البلدين؛ وتسعى الصين وروسيا في المرحلة الراهنة، إلى تطوير الإمكانيات السياسية والعسكرية المشتركة التي من شأنها دعم قوتهما الصاعدة في مواجهة القوى الغربية المناوئة. وقد شكلت المناورات العسكرية المشتركة التي جرت مؤخراً في بحر الصين الجنوبي، رسالة واضحة المعالم موجهة لمختلف الأطراف الدولية، بشأن الطابع الاستراتيجي للتعاون ما بين البلدين.
ويمكن أن نضيف عطفاً على ما سبق أن تحريك القوات الروسية تم أيضا على مستوى المنطقة الجنوبية الغربية وبوسط آسيا، من أجل الدفاع عن موارد الطاقة التي تشكل عنصراً أساسياً من عناصر القوة الروسية، وبهدف المحافظة في السياق نفسه على مصداقية السيادة الروسية في منطقة جغرافية تتميز بأهمية استراتيجية كبيرة. ولسنا في حاجة إلى التذكير في هذا المقام، بأن موسكو بذلت جهوداً جبارة خلال السنوات الأخيرة من أجل محاربة المجموعات المتطرفة، في سياق سعيها الحثيث لإعادة الاستقرار إلى منطقة القوقاز، التي حاول الغرب توظيفها من أجل التأثير على تماسك الجبهة الداخلية لروسيا الاتحادية، وبخاصة في جمهورية الشيشان التي يعود الصراع معها إلى فترة تاريخية طويلة تمتد إلى قرابة قرنين من الزمان، وبالتالي فقد مثلت الأوضاع في هذه الجمهورية امتحاناً صعباً بالنسبة للقوات الروسية في مرحلة إعادة بنائها مع نهاية القرن العشرين.
وعليه فقد حرصت روسيا على تأكيد عودتها القوية على الساحة العسكرية الدولية من خلال إقامة مجموعة من القواعد العسكرية خارج حدودها الوطنية، فضلاً عن دعمها لتواجدها العسكري في قواعد أخرى، حيث تمتلك روسيا حالياً قواعد في كل من قيرغيزستان، طاجاكستان، أرمينيا، روسيا البيضاء، كازاخستان، إضافة إلى قاعدة جوية في أوزبكستان، والقاعدة البحرية في شبه جزيرة القرم التي تم ضمها مؤخراً إلى السيادة الروسية، وقاعدة طرطوس في سوريا، وقواعد أخرى في مولدافيا وأبخازيا، وبالقرب من الحدود مع جورجيا وأوكرانيا. وذلك من أجل مواجهة محاولات الحلف الأطلسي الهادفة إلى التوسع شرقاً نحو الحدود الروسية، وبالتالي فقد تميز موقف موسكو بحدة بالغة عندما حاولت جورجيا إعادة بسط سيادتها على منطقة أوسيتيا الجنوبية، حيث دفعت روسيا بحولي 10 آلاف من جنودها نحو أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في أغسطس/آب من سنة 2008، في أول استعراض كبير للقوة العسكرية الروسية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، ورأى المراقبون في هذا التحرك الروسي إعلاناً شديد القوة عن ميلاد جديد للقوة العسكرية الروسية.
ونستطيع أن نذهب إلى القول، إن إعادة الانتشار العسكري الروسي بدأ يأخذ أبعاداً أكثر اتساعاً وشمولاً على مستوى التموقع الجغرافي في الخارطة العالمية من أجل مواجهة محاولات الحلف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة، الهادفة إلى محاصرتها عبر حدودها المشتركة مع دول شرق أوروبا، التي تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى محميات عسكرية أمريكية. حيث كثفت روسيا من تواجدها العسكري في شرق البحر الأبيض المتوسط، وأعادت بناء وتوطيد علاقاتها مع دول شمال إفريقيا وفي مقدمتها مصر والجزائر، وقامت بتكثيف تعاونها في مجال الصناعات العسكرية مع الهند، وأجرت مناورات عسكرية مع القوات الباكستانية في أول سابقة من نوعها بين البلدين. بيد أن التطور الأبرز في ما يتعلق بإعادة تموقع القوات الروسية عبر العالم، تمثل في انطلاق قاذفات استراتيجية روسية من قاعدة همدان الجوية في إيران، وطرح هذا التطور المفاجئ أسئلة جديدة على الخبراء الدوليين بالنسبة للاستراتيجيات العسكرية المستقبلية لروسيا، وبخاصة أن موسكو كانت قد ردت على استفزازات واشنطن التي أرسلت قطعاً من أسطولها البحري إلى البحر الأسود، بإرسال قوات روسية إلى مياه البحر الكاريبي من أجل إثبات قدرتها على التعامل بالمثل مع واشنطن.
وصفوة القول أن موسكو صارت الآن أكثر حرصاً على تعزيز تواجدها العسكري في العالم، مع التركيز بطبيعة الحال على منطقة أوراسيا، وذلك بالتنسيق مع حليفها الاستراتيجي الصين. ومن غير المستبعد بالتالي، أن تعرف التوازنات العسكرية الدولية تحولات كبرى خلال السنوات والعقود المقبلة، بالنظر إلى النجاحات الكبيرة التي باتت تحققها الصناعات العسكرية الروسية، التي اكتسبت مؤخراً قدرات تكنولوجية هائلة بفضل تعاونها الاستراتيجي مع كل من الهند والصين.

الحسين الزاوي

صحيفة الخليج