سورية: الكلفة العالية لتصديق روسيا

سورية: الكلفة العالية لتصديق روسيا

350

يبدو أن الهجوم الشامل الذي تشنه الطائرات الروسية وطائرات نظام الأسد على حلب، والذي يستهدف قوافل المساعدات الإنسانية والمستشفيات والمنازل وأماكن التسوق والمساجد، لم يفاجئ المسؤولين الأميركيين الكبار كثيراً، لكنه أثار قلقهم على نحو معمق. ولأنهم مقيدون بسلوك رئيس قانع بإدارة الوجه إلى الجهة الأخرى بينما تتكشف الجرائم الجماعية، أقنع هؤلاء المسؤولون أنفسهم بأن مطالبة موسكو بشن ضربات جوية روسية –أميركية مشتركة ضد الإرهابيين تمثل انفتاحاً دبلوماسياً أصيلاً وحقيقياً. ويفسر ذلك موقف “العصا الغليظة” الذي ميز استجابة مسؤولي الإدارة لجرائم الحرب الروسية المتواصلة. وأصبحوا يهددون –وكأن موسكو تهتم وتعبأ- بالانسحاب من محاولة التوصل إلى اتفاق يجسد التعاون التكتيكي والاستراتيجي مع روسيا في سورية. وهذه هي الدبلوماسية المحزنة وعديمة الجدوى لليأس والتفكير المتمني.
مما لا شك فيه أنه جال في خاطر المسؤولين الأميركيين الكبار –وليسن منهم أحمق- أن المطالب الروسية بالتعاون قد لا تكون جدية مطلقاً. وعندما كانت الولايات المتحدة تعترض على عادة روسيا في التذرع بتواجد “جبهة النصرة” لقصف مستشفيات مدنية، كانت موسكو ترد عبر توجيه اللوم إلى واشنطن على عدم تقاسم المعلومات الاستخبارية عن الأهداف المحتملة. وعندما تعترض واشنطن على هجمات جوية روسية على وحدات الثوار السوريين المجهزين بمعدات أميركية، تعمد موسكو إلى تخطيء واشنطن، وتقول إن ذلك حدث بسبب خطأ أميركي: فمن دون فرز أميركي للمجموعات التي تعمل على الأرض في سورية، فإن روسيا تعتبر كل السوريين الذين لا يدينون بالولاء لعميلهم (الأسد) إرهابيين. نعم، ومن المرجح أن يكون قد خطر على بال المسؤولين الأميركيين الكبار أن توجيه اللوم الروسي والتذرع بالتبريرات لم ينسجما مع رغبة أصيلة في التعاون العملياتي.
ومع ذلك، لم ير هؤلاء المسؤولون أي بديل سوى تنحية شكوكهم جانباً والذهاب مباشرة إلى ما شك البعض بأنه طريق مسدود. وهكذا شاهدنا حملة دبلوماسية قوية استهدفت إقناع روسيا فلاديمير بوتين بمطابقة أفعالها مع أقوالها: العمل مع واشنطن لصنع تمييز أصيل وعملي بين ناشطي القاعدة والثوار السوريين الوطنيين القوميين. تفكير ساذج؟ بالتأكيد. فموسكو وطهران وعميلهما في سورية يريدون أن يروا الوطنيين والقوميين والمدنيين الذين يدعمونهم وقد ذهبوا أولاً، لأنهم العوائق الفعلية لاستمرار حكم الأسد الأبدي.
ولكن، ما هو الخيار أمام المسؤولين الأميركيين المفزوعين حقاً من التعاسة الإنسانية وتداعياتها السياسية الكارثية في سورية؟ ما هو الخيار الذي تركه لهم الرئيس أوباما؟
قبل سبعة أعوام، التقى كاتب هذا المقال بمسؤول في البيت الأبيض يكن له احتراماً كبيراً في أحد شوارع واشنطن. وسأل المسؤول عن فرص نجاح حملة سلام إسرائيلي- فلسطيني كان وزير الخارجية، جون كيري، على وشك إطلاقها. وكان الجواب كاشفاً: “كيف لي أن أعرف؟ أنا أعمل في البيت الأبيض. وهذه صفقة كيري”.
والآن، يبدو أننا نشهد “صفقة كيري” أخرى: محاولة غير متوقفة للعب الجودو الدبلوماسي بكلمات روسية، من خلال محاولة ترجمة مطالبات موسكو بالانضمام إلى استهداف مشترك متبادل مستهدف وإبقاء سلاح جو الأسد رابضاً على الأرض. ويحصل كيري على الصورة الكبيرة: حيث هناك مدنيون سوريون لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم أمام الثور، وإنما مع وجود فرصة لإحراز تقدم دبلوماسي في سورية. وفي الأثناء، يجعل نظام الأسد وروسيا “داعش” يبدو لا شيء تقريباً مقارنة بالمجازر الجماعية الأخرى في سورية. ولذلك، حاول كيري -وفشل على ما يبدو- في حمل الروس على ترجمة أقوالهم الخاصة إلى أفعال. وبينما أضاعت القنابل المتساقطة على حلب أشهراً من الدبلوماسية التي لم تعرف الكلل، أطلق رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة رصاصة الرحمة من خلال مشاركة لجنة من مجلس الشيوخ في تحفظاته القوية على التعاون العسكري مع روسيا عند أي مستوى.
كانت اعتراضات الجنرال دنفورد منطقية ومقنعة. ولكن، أين كانت السياسة الأميركية في كل هذا؟ وهل حصل كل اللاعبين الرئيسيين -البيت الأبيض، ووزارة الخارجية، ووزارة الدفاع- على صفقتهم الخاصة! ومن المسؤول؟.
يستطيع الرئيس باراك أوباما أن يستمد الراحة لسلبيته من مستودع لا قاع له من اللامبالاة العامة حيال اغتصاب حلب الذي يجري حالياً. ولا يكمن الأمر في أن الأميركيين يصادقون على القتل الجماعي في الأماكن البعيدة. ولكن، وعلى ضوء المغامرة الأميركية الكارثية غير المحسوبة في العراق، والحرب التي لا نهاية لها في أفعانستان، سيعمد القليل من الأميركيين إلى رفض اقتراح عدم التدخل، على افتراض أن هذه مشكلة رهيبة يجب أن يحلها أحد آخر.
فازت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، سامانثا باور، بجائزة البوليتزر لوضعها مجلداً لا يقدر بثمن عن حوادث القتل الجماعي في القرن العشرين، وكيف أن الرؤساء الأميركيين تصدوا لذلك التحدي أو نأوا بأنفسهم عنه. ولا تستطيع سوى القيادة الرئاسية تحويل اللامبالاة الجمعية إلى اهتمام وعزم أكيد. ولعل الافتقار إلى هذه القيادة في هذه الإدارة هو الذي يولد المحاولات الدبلوماسية التي لا تستفيد من قدرة الضغط المفيدة، ولا من موقف موحد للفرع التنفيذي. وقد ذهبت الإدارة إلى حد الخروج عن المسار بإغراق جزء من تشريع للعقوبات بشكل استباقي، والذي يهدف إلى تخفيف ذبح المدنيين في سورية، وهو جزء كان سيلفت بالتأكيد انتباه نظراء كيري الروس. ويستطيع المرء أن يتخيل فقط ما الذي كان يجب على وزير الخارجية أن يفكر فيه عندما تم لفت انتباهه إلى شهادة رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة.
إن التفكير بعناية في الخيارات العسكرية ليس عملاً ساراً حتماً بالنسبة لأي رئيس أميركي. ومع ذلك، فإنه في هذه الحالة عمل يجب أن يتم. نعم، إن التواجد الروسي في سورية، والذي أوشك على دخول عامه الثاني الآن، يعقد الأمور. ولا أحد يدعو إلى القيام بغزو أو احتلال أو تغيير عنيف للنظام. ولكن، ما لم يصل إطلاق يد نظام الأسد لارتكاب الجرائم الجماعية إلى توقف تام -وفي الحال- فإنه ربما يكون هناك الكثير مما سيترتب دفعه، وليس من جانب السوريين فحسب.
ربما لا يستخلص فلاديمير بوتين وأشباهه في العالم الاستنتاجات الصحيحة دائماً، انطلاقا من فهمهم للضعف، لكنهم يستخلصون بشكل حتمي استنتاجات يمكن أن تخلق الخطر -وليس في سورية فحسب. ويجب على الرئيس أوباما أن يتجنب تضليل السيد بوتين. ويجب عليه أيضاً تجنيب مرؤوسيه التعاسة والإذلال والحنق التي تنطوي عليها محاولة العثور الحقيقة والشرف واللباقة في كلمات موظفي السيد بوتين. ويجب عليه قول أن ذبح المدنيين في سورية غير مقبول، وأن يطلب من وزير دفاعه تزويده بخيارات تجعل النظام الجبان المجرم المقتنع حالياً بأنه يستطيع التصرف بحصانة مطلقة كما يرغب مع الأطفال وآبائهم، يدفع الثمن.

فردريك سي. هوف

صحيفة الغد