روسيا المصمّمة على النصر في سورية

روسيا المصمّمة على النصر في سورية

349
ما زالت روسيا تتمسك ببقاء بشار الأسد رئيساً في سورية، وتبرّر ذلك بأسبابٍ عديدة، جديدها التأكيد أنها لا تريد أن يحدث في سورية ما حدث في العراق وليبيا، من انهيارٍ للدولة. لكن السؤال الجوهري: إذن، ما سبب التدخل العسكري الكبير لإيران و”فيالقها”، ومن ثم التدخل العسكري الروسي بكل هذه القوة والتفوق؟ هل لأن الدولة ما زالت قويةً وثابتة، وقادرة على الاستمرار؟
يبدو المنطق الروسي مقلوباً، فإذا كانت الدولة ما زالت قائمةً، ولديها جيشها الذي يدافع عنها، ومؤسساتها وأمنها، فلماذا، إذن، تدخلت روسيا لمنع سقوط بشار الأسد، كما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؟ بمعنى، هل فعلاً بقيت دولة في سورية؟ وهل بقيت مؤسسات دولة قابلة للاستمرار؟ وهل هناك جيش قادر على حمايتها؟
يؤكد دخول كل هذه القوى للدفاع عن النظام أنه لم يعد قادراً على الحكم، وأنه على وشك السقوط. لهذا، كان ضرورياً لكي يبقى أن ترسل إيران عشرات الآلاف من حزب الله والمليشيا الطائفية العراقية والأفغانية والباكستانية، ومن الحرس الثوري الإيراني، ومن الجيش الإيراني، ومن ثم أن تدخل روسيا بكل قوة طيرانها وقواتها، وكل دعمها العسكري، فقد انهارت قوى النظام أمام الحراك الشعبي الذي كان قد تحوّل جزءٌ منه إلى السلاح، في وقت قريب نهاية سنة 2012، حيث انشق جزء من الجيش، وشكّل عدد كبير منه حالات فرار، وتحطمت الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري (وما بقي ظل من أجل حراسة القصر الجمهوري). ولقد بقي منه أقل من مائة ألف، بعد أن كان عديده يناهز الأربعمئة ألف. وكذلك بات يعاني الجيش، حينها، من حالة احتقان كبيرة، فرضت وضعه في معسكراتٍ مغلقةٍ، كي لا ينشق. ولهذا، بات النظام بحاجة إلى “دعم خارجي” لكي يبقى. ومن دون ذلك، كان يمكن أن تسير الأمور في مسارٍ آخر، حيث أدت هذه الوضعية إلى أن تميل أطرافٌ في السلطة إلى حل سياسي، كما دعا فاروق الشرع، الذي كان نائباً للرئيس حينها. وفي ذلك الوقت، كان يمكن الحفاظ على الدولة، عبر حل “مصري” أو “تونسي”، يقوم على إبعاد بشار الأسد، لكن تمسك المجموعة التي تحكم بواجهة بشار الأسد (آل مخلوف والأسد) فتحت سورية لكل من هبّ ودبّ، من “الجهاديين” إلى “المجاهدين”، وأوصلت البلد إلى الدمار والتهجير والقتل، وأيضاً “نهاية النظام”، وتفكّك الدولة، حيث إن نصف سورية مدمر، وأكثر من نصف سكانها مهجّر أو لاجئ، والاقتصاد منهار كلياً، بلا جيش أو أجهزة دولة حقيقية، وبلا قرار سياسي نتيجة هيمنة روسيا (وقبلها إيران) على القرار السياسي، والتحكّم بكل وضع سورية، وبتوزع للسيطرة على الأرض بين أطرافٍ عدة، أقلها هي تحت سيطرة النظام.

وهذا يوضح في أن من يحارب على الأرض دفاعاً عن النظام قوى ليست سورية، إيران وأتباعها بشكل مباشر، و”جهاديون” بشكل غير مباشر، لكنها خطر على الشعب، لأنها تسحقه، بحجة فرض الشريعة، وأن من يقرر في السياسة هي روسيا، بعد أن كانت إيران، في الفترة منذ نهاية سنة 2013 إلى مرحلة التدخل الروسي.
إذن، أي دولة هذه التي يريد الروس الحفاظ عليها؟ يريد الروس دولتهم، الدولة التي يتخذون من بشار الأسد رمزاً لها، لكن غير الموجودة في الواقع إلا بقوتهم (والقوى الإيرانية)، والتي فقدت شرعيتها منذ بدء الثورة، ومع كل الجرائم التي ارتكبتها. ويتلخص ذلك كله بـ “الرئيس” وحاشيته، أي من قرّر “حرق البلد”. وبهذا، هم يتمسكون بـ “شرعية” هي لا شرعية، ولا يمكن أن تعود، حتى وإن استطاعت القوات الإيرانية الروسية السيطرة على كل سورية (وهذا مستحيل أصلاً على الرغم من كل العنجهية الروسية). وهي، في هذه الحالة، سوف تبقي قواتها للحفاظ على سلطة بشار الأسد. ليس خوفاً فقط من الشعب الذي ثار ضده، بل كذلك من “المؤيدين” الذين فقدوا الآلاف من شبابهم، لكي يتحكّم بهم شبيحة، أو يظل بشار الأسد رئيساً. وبهذا، تبقى دولة محتلة، وسلطةً تابعةً لمحتل، لكي تكون سورية مستعمرة روسية، تنهبها الشركات التي تكلم باسمها قبل مدة السفير الروسي في دمشق. وفي هذه الحالة، سوف تواجه كقوة احتلال حقيقي، وستخسر.
ما تفكّر به روسيا كإمبريالية هو استمرار النظام الذي يضمن استمرار سيطرتها. ومن الواضح أنها “لا تثق” إلا ببشار الأسد، حيث تعيش هلوسة “المؤامرة العالمية” التي تحفر عميقاً في منظورها وسياساتها، وهو الأمر الذي سوف يجرّها الى ورطةٍ أفغانيةٍ جديدة بكل تأكيد، فليس هناك أي إمكانية لأن يستطيع بشار الأسد ومجموعته الاستمرار في الحكم، مهما كانت نتائج الصراع على الأرض، لأنه فقد كل “البنية الصلبة” التي أسسها حافظ الأسد، وهو يسعى إلى سحق الثورة، وقد فقدها بالضبط، لأنه واجه ثورة شعب، وليس عصابات مسلحة، كما ادعى إعلام النظام. وبالتالي، يعني استمرار سلطته أن يعتمد على القوات الروسية والإيرانية، أي أن تتورّط هذه القوات في الصراع أكثر، وأن تغرق في “مستنقع أفغاني”. وسوف ينعكس هذا الأمر، بالضرورة، على وضع البلدين اللذين يستنزفان في “الحرب السورية”، وسوف يفرض ذلك انفجار الوضع فيهما على ضوء أزمتهما الأصلية.
إذن، الدولة السورية منهارة، وهي تقف على أرجل روسية إيرانية. وما يسترعي التفكير هو كيفية إعادة بنائها. هذه هي المسألة المركزية. ولهذا، كل حديثٍ عن منع انهيارها ليس إلا هلوسات تنتجها مصالح إمبريالية، فهي منهارة بالتأكيد، وباتت تابعةً لحُماتها. ويتعلق الأمر بإعادة بناء الدولة، ليس كما حدث في تونس ومصر، حيث ظلت الدولة، وتغيرت أشكال الرؤساء، إعادة بناء الدولة المنهارة بجيشها وأجهزتها وسيطرتها على الأرض واقتصادها. بالتالي، على من يريد الدولة، كي لا يحدث ما حدث في العراق وليبيا، ولا كما حدث في اليمن، أن يحقق الحل السياسي، والذي يبدأ بإبعاد بشار الأسد ومجموعته، لكي يكون ممكناً إعادة بناء الدولة، لكي تعود الدولة دولةً. حيث إن إعادة بناء الدولة تفترض، بالضرورة، قبول الشعب بها، وهذا غير ممكن في ظل وجود بشار الأسد، حتى العنف هنا لا يغيّر في هذه النتيجة شيئاً. تفترض إعادة بناء الدولة حتماً قبول الشعب الذي قُتِل ودُمرت بيوته، والذي هُجر أو بات لاجئاً، وقبول كل من حمل السلاح ضد النظام، وكل من انشقّ عن الجيش، أو فرّ من الخدمة العسكرية والمدنية، ومن سُجن أو ما زال في السجن. وكذلك من كان يُحسب على النظام، وعانى من فقدان أبنائه، أو من تعدّيات الشبّيحة (الجيش الوطني لاحقاً)، وكل من بات يتخوّف من وحشية مارسها النظام. وكل هؤلاء هم الشعب السوري الذي ذاق مرارة وحشية النظام، بقيادة بشار الأسد.

تفترض إعادة بناء الجيش، وهي خطوة ضرورية لإعادة بناء الدولة، عودة المنشقين والفارين من الجندية و”الهاربين” من الخدمة العسكرية الذين يشكلون أكثر من ثلثي الجيش. وهذا ليس ممكناً من دون تغيير النظام وتنحية “الرئيس” ومجموعته، أي التحالف الأمني المالي المتحكّم بالقرار خلال الصراع الوحشي ضد الثورة. وقبول المقاتلين الذين ردّوا على وحشية النظام بالسلاح، بعد أن فشل الحراك السلمي، لن يلقوا السلاح من دون الثقة بأن الوحش قد غادر، وأن نضالهم حقق شيئاً ما. وليس ممكناً تهميش المجموعات السلفية “الجهادية”، إلا بقبول الشعب في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام بالحل السياسي. ولا يتعلق الأمر هنا بـ “داعش” الذي سينتهي، لحظة تحقيق التوافق الإقليمي الدولي، ولا بجبهة النصرة التي هي أداة خارجية كذلك، بل يتعلق بمجموعات أخرى، باتت سلفية نتيجة أزمة الصراع ضد النظام، وشباب كثيرون صاروا كذلك نتيجة هذه الأزمة، حيث اضطروا إلى ذلك، نتيجة وحشية الحرب، والحاجة للسلاح والمال، وربما “العزاء الروحي”.
بالتالي، يتمثل ملخص الأمر في أن نجاح الحل السياسي يفترض تحقُّق الثقة بالوضع الجديد، الشعور بالأمان، وعدم الملاحقة وضمان العيش. حيث لا يمكن أن يتحقق ذلك أولاً بوجود النظام الحالي، وثانياً بدون “انتصارٍ” ما للذين تمردوا على النظام، يفرض ثالثاً قبولهم بالحل ومشاركتهم فيه. وتفترض هذه المشاركة بالضرورة وجود تغيّر أساسي في النظام ذاته، هو رحيل “الرئيس”، ومشاركة المعارضة ومن تمرّد على النظام في الدولة الجديدة.
بهذا، لا تكفي موافقة الدول الإقليمية والكبرى على الحل، على الرغم من أساسية ذلك، بل يجب أن يقبل الشعب هذا الحل، ويعتمد قبوله على تحقيق الهدف الأساس، أي رحيل الرئيس. ولن يقود التوافق الدولي على حل يبقي بشار الأسد إلى إنهاء الصراع، مثل نجاح روسيا بفرض سيطرة النظام على كل الأرض السورية، فليس من هزيمة للثورة، وبالتالي، الحل الوسط هو الذي يبدأ بتنحية بشار الأسد فقط. لكن، يظهر إلى الآن أن روسيا مصممة على بقاء بشار الأسد، وهي، في ذلك، تُظهر أنها تستطيع تنفيذ ما تقول، لكي يفهم العالم أن عليه أن يخضع لها، وهذا ما أدى إلى فشل مسار التفاوض إلى الآن. وربما تؤدي المفاوضات والمساومات مع دول إقليمية، مثل تركيا والسعودية خصوصاً، إلى قبول روسي بحل آخر، لكن هذا يعتمد على مدى تمسّك هذه الدول بمسألة إبعاد بشار الأسد. وما ظهر، إلى الآن، أنها تغلّب مصالحها الخاصة على هذا الأمر، حيث إنها ترى أهمية التفاهم مع روسيا لأسباب اقتصادية، وأسباب جيواستراتيجية، في إطار تحولات التحالفات العالمية، والخشية من التحالف الأميركي الإيراني (السعودية ودول الخليج) أو الصدّ الأميركي (تركيا). وبالتالي، ما يمكن أن يوصل إلى حل هو التوافق على تنحية بشار الأسد، أو أن الصراع سوف يستمر بكل تأكيد.
هذا ما يجب أن يفهمه الروس، أو سوف تنتظرهم أفغانستان جديدة، حيث لا تفيد كل العنجهية التي تنطلق روسيا منها، والميل إلى إظهار “جبروتها” تخويفاً للعالم، ولا كل التطور التكنولوجي الذي تحاول تسويقه. فهي لن تستطيع أن تفرض حلها، مهما كانت قوتها. بالضبط، لأنها تواجه شعباً وليس “عصابات إرهابية”، هي من شارك في صناعته. شعب يريد إسقاط النظام، هكذا ببساطة.

سلامة كيلة
صحيفة العربي الجديد