لبنان: هروب «دستوري» لخدمة احتلال «شرعي»

لبنان: هروب «دستوري» لخدمة احتلال «شرعي»

hariri-and-jaja3

هل يستسلم اللبنانيون لفرض النائب ميشال عون رئيسًا لما تبقّى من بلدهم؟
ألا يشكل القبول، ولو اضطرارًا، بمرشح تحدٍ و«كسر» على شاكلة عون، صاحب التاريخ الصدامي الإلغائي العريض «وثيقة استسلام»… بل ضم بلد يزعم أنه «سيد ومستقل» – بصورة دستورية – لمشروع الهيمنة الإقليمية الإيراني الممتد من الحدود الإيرانية العراقية إلى ساحل المتوسط الشرقي؟
صحيحٌ، عاش اللبنانيون بسبب مساوئ ثقافتهم السياسية حُقبًا سياسية كثيرة بائسة، لكنها ما كانت يومًا بهذا المستوى من العبثية الرخيصة في التعامل مع السعي لتنصيب عون رئيسًا لجمهورية لا هي ظلت جمهورية.. ولا مَن سيترأسها سيكون رئيسًا!
الحقيقة أن من أسوأ مكوّنات الثقافة السياسية اللبنانية – بجانب الطائفية، طبعًا – التكاذب السياسي، وشهوة الإقصاء والإلغاء واحتكار التمثيل، وتضخيم الشعارات «المبدئية» للتغطية على المصالح الضيقة والمطامح الشخصية والعائلية، وتحميل المواطن سياسييه تبعات خياراته الخاطئة.. ومن ثم تحميل هؤلاء «الدول الأجنبية» مسؤوليات أخطائهم. مع أن هذا لا ينفي كليا وجود مؤثرات خارجية.
لقد اعتاد اللبنانيون، حتى قبل أن يولد الكيان اللبناني عام 1920 ويغدو دولة مستقلة عام 1943، رمي كل مشكلاتهم على «الغير»… سواءً كان هذا «الغير» داخليًا أو خارجيًا، جارًا دائمًا أو وافدًا طارئًا.
منذ عهد الأمير بشير الثاني الشهابي (حكم بين 1788 و1840)، الذي شهد زرع بذور الطائفية في إمارة جبل لبنان، حمّل بعض المثقفين والمؤرخين اللبنانيين – حتى اليوم – سياسات محمد علي حاكم مصر مسؤولية الفتنة التي تفجّرت حروبًا أهلية في الجبل بين 1849 و1860. وهذا، مع أن الأمير بشير هو الذي استسلم بدايةً لوالي عكا «البشناقي» أحمد باشا الجزّار، ثم تأرجح في انتهازيته بين واليي دمشق وعكا، وأخيرًا استسلم لسياسات محمد علي علانية. وفي النهاية دفع ثمن مصالح «الكبار»، فسقط على وقع هزيمة حاكم مصر وحلفائه الفرنسيين أمام العثمانيين وداعميهم البريطانيين، ونُفي إلى مالطة قبل أن يموت في إسطنبول.
بعدها استمر حتى هذه اللحظة «مسلسل» الانقسام الطائفي والعشائري، والفردية الإلغائية، والضرب بسيف أي قوة أجنبية تعمل على تنفيذ غاياتها في الشرق الأوسط… مع لوم الآخرين. وها نحن نرى اليوم مواطنين لبنانيي الجنسية يقاتلون بأوامر إيرانية داخل سوريا، فيدمّرون مدنها وقراها، ويقتلون شعبها ويشرّدونه تحت شتى الذرائع الوهمية، مع أن الحقيقة الوحيدة هي أنهم يخدمون قوة أجنبية في اجتياحها المشرق العربي.
إن ما تريده إيران في لبنان والدول العربية ما عاد سرًّا، وبالأخص، بعدما كشف الاتفاق النووي معها ليس فقط وجود استعداد دولي – وأميركي تحديدًا – لقبولها قوةً نوويةً. بل كشف أيضًا الرغبة بالتعاون معها كحليف أمني واستراتيجي واقتصادي تحت شعار «مكافحة الإرهاب»، مع أنها الدولة التي بالكاد غابت في سنة من السنين عن قوائم وزارة الخارجية الأميركية لـ«الدول المارقة» و«الراعية للإرهاب».
عودة إلى لبنان، كما يعرف اللبنانيون والملمّون بشأن بلدهم، فإن موقع رئيس الجمهورية خُصص عُرفيًا بعد عام 1943 للمسيحيين الموارنة بموجب تفاهم بين زعاماته سمّي «الميثاق الوطني»، ومنحت رئاسة مجلس النواب للشيعة ورئاسة الحكومة للسنّة، في ظل نظام رئاسي يتمتع فيه رئيس الجمهورية المسيحي بسلطات واسعة.
الحرب اللبنانية بين 1975 و1990 أنهيت بوفاق وطني تجسّد في تعديل دستوري عبّر عنه «اتفاق الطائف» الذي أعاد توزيع سلطات الرئاسات الثلاث. كذلك قلّص التعديل بناءً على تقدير عدد السكان سلطات الرئيس المسيحي، وساوى بين عموم المسلمين وعموم المسيحيين في مقاعد البرلمان، لكنه في المقابل أفاد المسيحيين بتحويله العُرف إلى نصٍ دستوري مكتوب، كما حفظ للمسيحيين مناصب حساسة منها رئاسة الجمهورية، وقيادة الجيش.
ومع أن البطريرك الماروني نصر الله صفير، والدكتور سمير جعجع، قائد أكبر ميليشيا مسيحية، أيدا هذا «الاتفاق» الذي أنهى مأساة حصدت نحو 150 ألف قتيل، عارضه قائد الجيش في حينه الجنرال ميشال عون. وهكذا، صار عون «بطلاً» مسيحيًا «أكثر مارونية حتى من البطريرك» في نظر مناصريه. وبعدها عزّز عون سمعته هذه بحروب سياسية وعسكرية كثيرة عنوانها رفض «الاستسلام» للمسلمين – السنّة بالذات – الذين اعتبرهم المستفيد الأكبر من «اتفاق الطائف». وترأس «حكومة عسكرية» بنهاية عهد الرئيس أمين الجميل، ظل يزعم أنها «شرعية» و«ميثاقية» رغم استقالة كل وزرائها المسلمين (شيعي وسنّي ودرزي) لحظة إعلانها.
وطوال السنوات التالية، عندما أقام عون خارج لبنان إثر لجوئه إلى فرنسا، ثم بعد عودته بمباركة نظام دمشق إلى لبنان، بنى الرجل مسيرته السياسية على المزايدة الدائمة لاحتكار الساحة المسيحية. فاعتمد مزيجًا فظيعًا من «العنتريات» وإثارة النعرات والحزازات النائمة و«المظلومية – الاستشهادية». ومع أنه لم يفوّت فرصة لاستعداء السنّة والدروز، عبر اتهامه رفيق الحريري بـ«اغتصاب حقوق المسيحيين»، ومطالبته وليد جنبلاط بـ«إعادة أجراس الكنائس التي سرقها» إبان «حرب الجبل»، فإنه لم يقصّر لا مع الشيعة ولا مع المسيحيين الآخرين. ذلك أنه قبل صفقة «تفاهمه» الشهير عام 2006 مع «حزب الله»، تباهى بتحريضه على الميليشيا الإيرانية الولاء في شهادته أمام الكونغرس الأميركي، وادّعى أبوّة «قرار مجلس الأمن 1559» الداعي لانسحاب سوريا من لبنان وحلّ كل الميليشيات، وكان المدافع الأول عن «ميليشيا جيش لبنان الجنوبي» المتعاون مع إسرائيل. أما في الساحة المسيحية فلم يكفّ يومًا عن سعيه لإلغاء كل منافسيه المسيحيين وتخوينهم، واتهامهم تارة بالعمالة لسوريا، وطورًا للسعودية.
عون، الذي يستقوي منذ 2006 بهيمنة «حزب الله» على اللبنانيين، مطروح حاليًا كمرشح لمنع استمرار «الفراغ». نفس «الفراغ» الذي افتعله مع «حزب الله» بمقاطعتهما جلسات انتخاب رئيس منذ يوم 25 مايو (أيار) 2014.. بينما يتهمان خصومهما السياسيين بالتسبب به لرفضهم مبايعته.
كلمة أخيرة..
مع تسليمي بإفلاس الطبقة السياسية اللبنانية، إذا استسلم اللبنانيون هذه المرة لابتزاز بهذا القبح فإنهم سيثبتون أنهم لا يستحقون وطنًا. وإذا قبل المسيحيون منهم بـ«رئيس دمية» تحت سلطة «مرشدٍ» إيراني فإنهم سيعجّلون بهدم الهيكل الذي بُني لهم على رؤوسهم!

إياد أبو شقرا

صحيفة الشرق الأوسط