النظام الدولي الجديد على جثث السوريين

النظام الدولي الجديد على جثث السوريين

un-nations-unies

في مطلع السبعينات، أعلن الرئيس الأميركي بوش انتهاء الحرب الباردة وزوال منطق القطبين العالميين، وبالتالي بداية النظام العالمي الجديد الأحادي القطب وبقيادة الولايات المتحدة الأميركية. هذا «النصر الأميركي» رافقته مرارة روسية ناجمة عن تفكك دول المعسكر الاشتراكي وذهاب كل دولة من دوله نحو استقلاليتها، وخروج مهين ومذل من أفغانستان بعد أن تمكن الأميركيون من دعم مقاومة للوجود الروسي تسببت له بخسائر جسيمة وشكلت أحد عناصر انهيار المنظومة. أمعنت السياسة الأميركية في إذلال الروس عالمياً، وإظهار هشاشة موقع روسيا العالمي. ذلك كله أتى في سياق فوضى سياسية وشبه انهيار اقتصادي داخل روسيا، زاد من ضعف موقعها العالمي. هكذا بدت روسيا في موقع المنهزم سياسياً وعسكرياً ودولياً، وهو شعور كان من الطبيعي أن يولد مرارة للنخب الروسية التي كانت منتشية عظمة على امتداد نصف قرن من الزمان، كأن روسيا قد استنسخت ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى وتوقيعها صلح فرساي المذل آنذاك.

بعد استقرار نسبي داخلي وإعادة التماسك والحد من الفوضى، ومع بداية عهد فلاديمير بوتين المستمر منذ أكثر من عقدين، وقبل أن تتاح لروسيا فرصة اختبار قوتها في سورية، سعت القيادة الروسية الى استعادة الهيبة والنفوذ في العالم، من خلال الانخراط في تحالفات جديدة والانفتاح على قوى دولية خارج هيمنة الولايات المتحدة الأميركية. بدت القيادة الروسية كأنها محكومة بـ»عقدة نقص» تجاه موقع روسيا ودورها في العالم، كما اتسم سلوك القيادة بمنحى انتقامي مما أصاب الدولة العظمى، ومن هزيمة أفغانستان. افتعلت بعض المشاكل الدولية من قبيل إثبات الوجود والقول نحن هنا، وذلك في أوكرانيا عبر استعادة جزيرة القرم. يومها، لاح لكثيرين أن العالم على شفير حرب عالمية جديدة، لكن الخطوط الحمراء الأميركية وضعت حداً للاندفاعة الروسية. إلا أن بوتين ظل محكوماً بعقدة القيصر بطرس الأكبر، يريد استعادة الدور الروسي المؤثر بأي ثمن وفي أي مكان. وكان الشرق الأوسط فرصة مناسبة أدخلته مجدداً الى المنطقة ومنها الى العالم.

أدرك بوتين أن الولايات المتحدة تمارس سياسة انكفاء أو تردد في التدخل في شؤون الشرق الأوسط وفي الحروب الأهلية الدائرة فيه. كما كان متأكداً أن انغماس روسيا في هذه الحروب الأهلية، خصوصاً في سورية، لن يؤدي الى انزلاق نحو أخطار صدام روسي – أميركي كما لاح في أوكرانيا. ولأن روسيا لم تكن بعيدة من الشرق الأوسط تاريخياً، وفي سورية بخاصة، فإن الرئيس الروسي وجد التدخل في الحرب الأهلية السورية تحت عنوان القضاء على الإرهاب وعدم إسقاط الأسد، فرصة لإعادة إثبات الوجود والنفوذ السوريين. هكذا رأى بوتين أن الأوان قد حان لرسم معالم نظام دولي جديد تحتل فيه روسيا موقعاً موازياً لما تحتله الولايات المتحدة. وقد أظهرت الديبلوماسية الروسية كل الصلف والتعنت في مواجهة الرأي العام الدولي حماية للنظام السوري وإرهابه.

لكن هذا النظام الدولي الجديد الذي سهلته أميركا بتراجعها عن المنطقة، يرسمه بوتين بالدم والنار التي تلتهم جثث الشعب السوري. يريد نصراً سريعاً ومجانياً في سورية، ويدرك أن الوسيلة الوحيدة لتحقيقه تكون باستعادة أسلوب قمع انتفاضة الشيشان من خلال تدمير مدينة غروزني وتسويتها بالأرض. ولأنه لا يجد من يردعه، فهو ممعن في التدمير الممنهج لمدينة حلب وسائر المدن السورية، وقد يتحقق له ما يريد إذا لم تتدخل قوى، في شكل أو في آخر، تحد من اندفاعته الحالية. فهل يتحقق لبوتين حلمه في إيجاد هذا التوازن المرغوب مع الولايات المتحدة؟ سؤال تحوط به أكثر من علامة تشكيك، كلها برسم المستقبل.

خالد غزال

صحيفة الحياة اللندنية