غياب بيريز وإعادة قراءة التاريخ

غياب بيريز وإعادة قراءة التاريخ

download

أثار رحيل شيمون بيريز، والذي شغل عدداً كبيراً من المناصب العليا في إسرائيل على مدار عقود، منها رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة ومنصبا وزيري الدفاع والخارجية، حالة من التراشق بين جانبين: دوائر إسرائيلية وغربية وأوروبية أشادت به باعتباره «بطلاً للسلام» و «وجهاً للاعتدال» و «زعيماً للحمائم»، مستشهدين على ذلك بحصوله على جائزة نوبل للسلام بالمشاركة مع كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحق رابين والزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، على خلفية التوصل لاتفاق أوسلو للسلام بين إسرائيل والفلسطينيين في تسعينات القرن العشرين. وعلى الجانب الآخر دوائر فلسطينية وعربية وإسلامية وعالمثالثية ويسارية عالمية ترى في بيريز صاحب المبادرة في إطلاق مشروع الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967، وقبل ذلك بسنوات إطلاق البرنامج النووي الإسرائيلي بمكونه العسكري، وبعد ذلك التاريخ قيادة أو تبرير غزوات إسرائيلية لأراض عربية، وكذلك السكوت، في ظل رئاسته للدولة، عن سياسات حكومات إسرائيلية يمينية المفترض أنه كان يعارضها أصلاً.

ولهذا الجدل المستعر جذور تاريخية، ترتبط باعتبارات موضوعية تتجاوز الأبعاد الذاتية المتعلقة بشخصية شيمون بيريز وتوجهاته والأدوار التي لعبها. أول هذه الاعتبارات أن مواقف شيمون بيريز لا يتعين النظر إليها في شكل منفصل عن الإطار العام لفكر وحراك قوى اليسار الإسرائيلي في مجملها، وحزب العمل الإسرائيلي على وجه الخصوص، والذي انتمى إليه بيريز منذ مرحلة مبكرة وكان من قياداته لزمن طويل ومن بين صفوفه انبرى لتبوؤ مناصب قيادية في إسرائيل. وحزب العمل، يتم النظر إليه أحياناً باعتباره يمثل يسار الوسط بالمعنيين الأيديولوجي والسياسي في المشهد الإسرائيلي، بينما يراه بعض قوى اليسار أقرب إلى موقع الوسط العقائدي والسياسي. وتتعزز هذه الرؤية للحزب وقياداته إذا ما استعدنا من الذاكرة قراءة تاريخ تجاربه في التحالفات السياسية. فمن الملفت؛ أن مرات تحالفات حزب العمل مع أحزاب تنتمي لليمين أو يمين الوسط الإسرائيلي، بما فيها حزب الليكود، فاقت مرات تحالفه مع أحزاب اليسار، لغرض تشكيل حكومات ائتلافية مكَّنت الحزب من أن يتربع في مقاعد السلطة. كما أن مرات التحالف مع اليمين أو يمين الوسط في ظل حكومات ائتلافية تحت مسمى «حكومات وحدة وطنية» تزايدت تاريخياً في الفترات التي شهدت صعود شيمون بيريز إلى مراتب قيادة حزب العمل، سواء منفرداً أو بالشراكة مع آخرين، مثل إسحق رابين. ومن الناحية الموضوعية، فإن مواقف شيمون بيريز، وفي الإطار الأشمل مواقف حزب العمل، كانت في مراحل كثيرة قريبة من ومتشابهة في عدد من الأوجه مع مواقف بعض قوى اليمين أو يمين الوسط الإسرائيلي في ما يتعلق بالتوجهات، سواء إزاء القضية الفلسطينية أو مجمل التوجهات تجاه العرب والأراضي العربية المحتلة في 1967.

وفي ضوء ما تقدم، لم يكن من المستغرب أنه حتى عندما تحالف حزب العمل مع أحزاب وقوى أخرى يسارية بغرض تشكيل الحكومة، كان يختار مثلاً «حركة ميريتس»، التي تنتمي إلى يسار الوسط، بينما لم يحدث أن تحالف لهذا الغرض مع قوى تنتمي إلى اليسار الصريح، بخاصة اليسار الشيوعي أو اليسار الذي يمثل عرب 1948، وهما من مكونات اليسار الإسرائيلي الذي يتمسك دوماً، بتحقيق المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمها حق تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية، وكذلك المطالب العربية، وفي مقدمها الانسحاب من الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، بالإضافة إلى تبني مكوّني اليسار الإسرائيلي هذين مواقف متفهمة للمطالب العربية بخصوص مسألة عودة اللاجئين الفلسطينيين ووضع القدس وغير ذلك. أما الاعتبار الثاني، فهو أن بيريز كان يتحرك دائماً في إطار المحددات والمسارات والقيود التي تمليها عليه مؤسسات الدولة في إسرائيل، وكذلك العناصر المؤثرة على عملية صنع القرار هناك.

ولا ينكر ما تقدم وجود هامش للمناورة للساسة والقادة، ومن بينهم بالطبع بيريز، أو نفي، أو حتى التقليل من قيمة، دور الفرد في صناعة التاريخ، بخاصة الزعامات، ولكنه يجب فهمه في سياق ضرورة إدراك الإطار العام الذي رسمته تلك المؤسسات والعناصر، والذي بداخله توجد تلك المساحة التي يتحرك فيها الساسة والقادة، والتي من المؤكد أنها بدورها تختلف بحسب القدرات والملكات والمهارات والمكونات الشخصية لكل سياسي أو زعيم وكذلك بقدر خلفية علاقاته أصلاً بتلك المؤسسات والعناصر. الاعتبار الثالث، هو رؤية العالم الخارجي، خصوصاً الغرب، فنظراً لتبوؤ بيريز مناصب تتعلق بمهام خارجية منذ مرحلة مبكرة واتصاله بسياسيي وقادة الخارج، خصوصاً في أوروبا وأميركا الشمالية، وفي ضوء دوره العالمي المهم منذ زمن طويل في إطار «الدولية الاشتراكية»، فقد تكونت رؤية لدى الدوائر الخارجية، بخاصة الأوروبية والأميركية بأن بيريز هو رمز الاعتدال وزعيم الحمائم بين ساسة إسرائيل وقادتها. وقد أضاف بلا شك إلى ما تقدم توظيف بيريز كوجه مقبول، بل وأحياناً محبوب، دولياً للترويج لمشروعات وبرامج أطلقتها حكومات إسرائيلية سابقة، وكذلك استغلال بيريز نفسِه مكانتَه الدولية وصورته الإيجابية في الغرب، لتعزيز دوره الداخلي.

ومن ذلك إطلاقه مبادرة «الشرق الأوسط الجديد» في ثمانينات القرن المنصرم، والتي لاقت ترحيباً واسعاً لدى دوائر أوروبية وأميركية، بل ولدى دوائر في بعض بلدان العالم الثالث كانت لديها تقليدياً شكوك في نيات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. بل إنه ولفترة من الوقت ربط بعض القوى الغربية بين مبادرة بيريز تلك وبين ما جرى على تسميته بـ «عملية السلام» بين إسرائيل والعرب في شكل بدا عضوياً، وكأن الاثنين مكونان لتصور واحد أو لخطة متكاملة المعالم والأركان في بعض الأحيان. أو كأن المضي قدماً في «عملية السلام» يتطلب، أو يشترط، القبول مسبقاً بطرح «الشرق الأوسط الجديد» في أحيان أخرى. وسيقول التاريخ يوماً كلمته في شيمون بيريز وفي الأدوار التي لعبها والمواقف التي تبناها والسياسات التي انتهجها، عندما يظهر الكثير من الأسرار في هذا الشأن. ولكن تبقى الاعتبارات الموضوعية الثلاث التي عرضنا لها، تقدم محاولة لإلقاء الضوء على جوانب تتعدى حدود شخص بيريز والأبعاد الذاتية لفكره وحركته، وتتجاوز ذلك إلى اعتبارات موضوعية أعم وأشمل كان لها وزنها وتأثيرها على خارطة طريق الأبعاد الذاتية، كما تفاعلت معها بالإيجاب والسلب، ورسمت في نهاية المطاف مسار الدور الذي لعبته تلك الشخصية الإسرائيلية البارزة في الشأن العام الداخلي والخارجي ومآل هذا الدور.

وليد محمود عبدالناصر

 صحيفة الحياة اللندنية