معركة العراق الحاسمة: القتال لاستعادة الموصل بات وشيكاً

معركة العراق الحاسمة: القتال لاستعادة الموصل بات وشيكاً

441

بجدرانها المطلية بلونين، وإضاءة النيون والكراسي البلاستيكية، تبدو وكأنها قاعة محاضرات وليس غرفة عمليات حربية. ولكن، وبدلاً من الطلبة، ثمة ضباط من قوات الأمن العراقيين الذين يحدقون في صف من الشاشات التلفزيونية المسطحة التي تعرض تغذيات من الصور التي ترسلها طائرات من دون طيار تحلق على بعد مئات الأميال.
في أحد الجوانب، ووسط كومة من المعدات، يجلس صف من الجنود الأميركيين الذين يرسلون توجيهات بين الفينة والأخرى للطائرات من دون طيار من أجهزة حواسيبهم المتنقلة، بينما يتناولون طعام الغداء المكون من قطع من اللحم مع الأرز على النمط العراقي من علب كرتونية، وتكرر شاشة أحد الحواسيب الذي ترك لوحده لدقيقة، عرض شريط فيديو لطيور بطريق تمرح فوق مسطح ثلجي.
لكن الجو الفاتر في مركز العمليات المشتركة هنا على السفوح التاريخية في شمالي العراق مخادع. فقد انهمك الحاضرون منذ أشهر في التحضير لما يمكن أن يكون نقطة انعطاف في القتال ضد “داعش” وخلافته المعلنة ذاتياً منذ عامين في سورية والعراق: الحملة لاستعادة الموصل.
مع توقع بدئها في الأسابيع المقبلة، من المتوقع أن تتسبب المعركة من أجل استعادة مدينة الموصل، وعدد سكانها حوالي 1.2 مليون نسمة وتشكل ثانية كبرى المدن العراقية، في هروب نحو مليون شخص طلباً للنجاة وللمساعدة وأن تحدد مستقبل المحاولة الأميركية لاحتواء توسع التطرف الإسلامي العنيف في الشرق الأوسط.
وفي الأثناء، تساءل الجنرال غاري جيه فولسكي، قائد القوات البرية في الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة في البلد مؤخراً بينما كانت الاستعدادات الأخيرة تجري على قدم وساق: “أين يكمن التهديد الوجودي للعراق؟ إن النقطة الحاسمة والفاصلة في القتال في العراق هي الموصل”.
وكانت قوات “داعش” قد اجتاحت وسيطرت قبل عامين ونصف تقريباً على المدينة التي كانت موطناً لنحو 2.5 مليون شخص -كجزء من هجوم مباغت مكّن المجموعة المتشددة من السيطرة على ثلث العراق وسورية.
وما يزال الجيش العراقي، الذي كان قد انهار أمام الجهاديين، يشن قتالاً بطيئاً لاستعادة عافيته. وبمساعدة من الطائرات الحربية لقوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، وعشرات الآلاف من المقاتلين شبه العسكريين -بعضهم مدعوم من إيران- فرضت القوات العراقية هذا العام سيطرتها على بعض المعاقل الرئيسية لتنظيم “داعش”، مما أفضى إلى تقلص أراضي التنظيم إلى ربع ما كان يسيطر عليه في العام 2015، وفق تقرير صدر في تموز (يوليو) عن “آي. أتش. أس. لرصد الصراعات”.
ومع ذلك، لا شيء مما فعله الجيش العراقي حتى الآن يمكن أن يقارن بالمعركة المقبلة من أجل الموصل، التي تعتبر نقطة تقاطع طرق حيوية للتجارة والزراعة منذ آلاف الأعوام، وجوهرة التاج بالنسبة لمجموعة “داعش”. ويجعل حجمها وحده من مهمة اجتياحها مهمة شاقة. ويترتب على الجيش العراقي قذف كل ما بحوزته من قوة في الحملة، وفق ما يقوله قادة عسكريون. لكن ثمة اعتقادا راسخا بأنه لم يعد هناك مزيد من الوقت للانتظار.
يقول الكولونيل بريت سيلفيا، رئيس قوة مهمات التدخل السريع في العراق: “يكمن الزخم عند العراقيين، وهم يعرفون ذلك. كان القادة السابقون يقولون لقواتهم، هذه السنة سنذهب للموصل، لكنهم لم يذهبوا. وعندما جئنا قالوا لنا أنهم ليسوا ذاهبين إلى الموصل. لكننا سنذهب”.
أحد مكامن انعدام اليقين الكبيرة هي مدى حجم الدعم الذي يتمتع به متشددو “داعش” بين سكان المدينة. وعندما اجتاح متشددو التنظيم أول الأمر في حزيران (يونيو) من العام 2014، رحب السكان المسلمون السنة بالجهاديين كمحررين، بعد استيائهم الطويل من الحكومة ذات الأغلبية الشيعية. وقد دخل المتشددون المدينة في سيارات شحن صغيرة وهم يرفعون الرايات البيضاء والسوداء للمجموعة، ثم سرعان ما استولوا على عربات الهامفي التي كانت الولايات المتحدة قد زودت العراق بها، والتي تركها الجيش العراقي خلفه لدى هروبه من المدينة.
وقد صدم الاستيلاء على المدينة العراقيين وأهان الحكومة، لكنه أيضاً منح الشرعية لرؤية “داعش” حول الخلافة معلنة ذاتياً في أعين بعض المسلمين، وخاصة عندما أزالت المجموعة الحدود المكروهة كثيراً، والتي كانت بريطانيا وفرنسا قد فرضتاها في بداية القرن الماضي بين العراق وسورية.
وأفسح الاستيلاء على الموصل الطريق أمام أبو بكر البغدادي، زعيم “داعش”، لأول ظهور علني له حيث ألقى خطبة في مسجد الموصل الكبير، وأعلن عن نفسه خليفة للإمبراطورية الناشئة للمجموعة الإسلامية.
مباشرة بعد سقوط الموصل، نشر ناشطون مبتهجون صوراً لمتطوعين يكنسون الشوارع ويزيلون الحواجز الإسمنتية. ووصفوا الاستيلاء على المدينة بأنه ثورة، وامتدحوا المتشددين لدماثتهم وسلوكهم عندما تحدثوا للصحفيين الذين التقوا معهم خارج المدينة.
لكن الأمور سرعان ما أخذت منحى آخر نحو الأسوأ. فقد حظر مقاتلو “داعش” على أي مجموعة أخرى رفع علمها في المدينة، وصادروا كل الأسلحة، وطاردوا وقتلوا كل من وقف في طريقهم. وكان الاتصال مع أي أعضاء من الفصائل الأخرى أو الاتصال الهاتفي أو بوسائل التواصل الاجتماعي يفضي إلى الموت السريع.
كما أدى تطبيق المجموعة المتشددة لتأويل حرفي للشريعة الإسلامية وتنفيذ عقوبات اشتملت على قطع الرؤوس والأطراف، إلى ارتكاب المجازر ضد مجتمعات الأشوريين والأزيديين والتركمان والأرمن والشباك في الموصل. وأغلقت المجموعة المتشددة جامعة الموصل التي تعتبر واحدة من أفضل المعاهد التعليمية في المنطقة. (لكن المتشددين استثنوا كلية الطب التي كانت مشهورة في السابق، وحظروا تسجيل النساء فيها).
منذ ذلك الحين، توالت التقارير عن نقص حاد في الغذاء والماء في المدينة، وعن معاملة المواطنين كسجناء بحكم الأمر الواقع. وتناقضت هذه التقارير مع مواد “داعش” الدعائية التي تعرض الأسواق وهي تعج بالمنتجات والمتسوقين. وفي رحلة طيران ليلية فوق الموصل، كانت الأنوار تلمع، على الرغم من الحديث عن حالات انقطاع في الكهرباء.
وفي الأثناء، تم قطع كافة الاتصالات، تاركة للمجهول مصير المدينة التي كانت ذات مرة مشهورة بطبقتها المتعلمة والمفكرة.
بشكل معلن، وضع ممثلو مختلف القوات حداً زمنياً بين منتصف تشرين الأول (أكتوبر) ومنتصف كانون الأول (ديسمبر) لبدء عملية تحرير الموصل. وضمن التحضيرات للهجوم المعاكس، ثمة قاعدة مساحتها تسعة أميال مربعة بالقرب من بلدة القيارة الواقعة على مسافة 40 ميلاً إلى الجنوب من مركز الموصل، والتي تشكل أحد الأصول الاستراتيجية. وقد شكل الاستيلاء عليها وانتزاعها من “داعش” بعد وقت قصير من استعادة الفلوجة بنجاح مفاجأة لمخططي الهجوم.
وقال فوليسكي: “ظن الناس (أن العراقيين) لن يستعيدوا القيارة قبل تشرين الأول (نوفمبر). لكنهم فعلوها في تموز (يوليو)”.
خضعت القاعدة التي سميت ذات مرة باسم الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، والتي تعرف الآن باسم “ق- الغرب” لعملية تجديد رئيسية عشية الاندفاع نحو محافظة نينوى التي تشكل الموصل عاصمتها. وأصبحت هذه القاعدة الموقع المتقدم الجديد للحكومة وقوات التحالف، بما في ذلك معظم القوات الأميركية البالغ قوامها 560 جندياً، والتي أرسلها البنتاغون إلى العراق في شهر تموز (يوليو) الماضي.
وقال سيلفيا: “عندما وصلنا إلى هنا أول الأمر، كان الوضع وكأن إعصاراً من الدرجة الخامسة ضرب هناك ودك المكان. وبذل ‘داعش’ بعض الجهود والطاقة الكبيرين لجعل الأرض غير قابلة للاستخدام قدر الإمكان”. لكن المرفق عاد إلى العمل في غضون أسابيع.
على خريطة حائط في غرفة الإيجاز التي تعود لسيلفيا في شمالي العراق، كان أحدهم قد رسم دوائر متراكمة بقلم رصاص، حيث قاعدة “ق-غرب” هي المركز، وأشارت الرسومات إلى طائفة الأسلحة الموجودة في القاعدة.
بدأت القوات العراقية في التجمع فعلياً هناك. وفي الأسبوع قبل الماضي، وبينما كان عشرات الجنود ورجال المليشيات يبدأون هجوماً على بلدة الشرقاط التي كانت تحت سيطرة “داعش”، كانت جموع من مجندي الجيش تقف على الطريق السريع المجاور وتنتظر نقلها إلى القاعدة الجوية.
في الأثناء، يعزز التحالف من تواجده أيضاً مع إضافة 600 جندي أميركي آخر، كما أعلن البنتاغون يوم الأربعاء قبل الماضي. وفي الغضون، تتنقل قوافل ضخمة من عربات مدرعة وشاحنات تابعة للتحالف بين “ق-غرب” ومعسكر سويفت، وهو قاعدة في مخمور التي تبعد مسافة 90 دقيقة بالسيارة عن مدينة أربيل العراقية الشمالية.
تشير معظم المظاهر هنا إلى أن ساعة الصفر ستحين في وقت ما في منتصف هذا الشهر. وقد حدد الرئيس التركي طيب رجب أردوغان، أثناء حديث له مع أعضاء الجالية التركية في الولايات المتحدة مؤخراً، يوم 19 تشرين الأول (أكتوبر) كموعد لساعة الصفر.
وتقضي خطط استعادة المدينة التي يقسمها نهر دجلة إلى شطرين، بأن تتقدم بعض القوات في اتجاه الموصل من الشرق، بينما تشن وحدات من الجيش والقوات الخاصة، المعروفة باسم “الفيلق الذهبي”، هجوماً من الجنوب.
من غير الواضح كم من الوقت يستطيع الجهاديون أن يصمدوا أمام الهجوم. وعلى الرغم من أ،ه كان لديهم أكثر من عامين للاستعداد للحملة، فإن مسؤولي التحالف يقولون أن كبار قادة المجموعة قد بدأوا يولون الأدبار.
لكن ثمة صدوعاً بين القوات البرية المنخرطة في المعركة. وقال بعض أفراد المليشيات العراقية ومسؤولي المخابرات أنهم يشكون بأن القوات المقاتلة الكردية، التي تعرف أيضاً بالبشمرغة، ستحاول الانخراط في السيطرة على الأراضي في محاولة لضم أجزاء من محافظة نينوى إلى الدولة الكردية المستشرفة.
وأضاف تواجد الجيش التركي في المنطقة، على الرغم من اعتراض الحكومة العراقية، إلى حالة الارتباك. فقد قدم الأتراك التدريب والأسلحة لمليشيات سنية بقيادة محافظ الموصل السابق، أثيل النجفي. وعلى الرغم من أن المليشيا تنوي الانضمام إلى المعركة ضد “داعش”، فإن بعض الفصائل المتحالفة تنظر إليها كعدو.
في الأثناء، لا تريد الولايات المتحدة انضمام الفصائل التي يهيمن عليها الشيعة، والتي تعرف باسم وحدات الحشد الشعبي التي يتهمها التحالف بارتكاب جرائم مدفوعة بنزعة طائفية ضد السكان السنة في المناطق الواقعة تحت سيطرتها.
هذه المخاوف فرضت خطة تقضي بأن تظل قوات البشمرغة وهذه الوحدات الشيعية على حد سواء خارج المدينة بينما ينخرط الجيش والقوات الخاصة في قتال الشوارع داخل الموصل.
وعلى الرغم من ذلك، يقلل المسؤولون من شأن التلميحات بتوتر العلاقات. ويقول الجنرال نجم جبوري، قائد الجيش العراقي المقرر أن يقود الهجوم على الموصل: “هناك تنسيق غير مسبوق بين الجيش العراقي والبشمرغة. في معاركهم نساعدهم، ونتلقى مكالمات من قادتهم يعلنون فيها عن استعدادهم لمساعدتنا”.
وقال فوليسكي أن القوات الأميركية لن تكون على خط المواجهة. لكنه أشار إلى أن الجنود الأميركيين الذين يتبعونه سيلعبون دوراً حاسماً، وإنا من خلف الكواليس.
وأضاف: “ما يختلف في هذا القتال هو أن العراقيين سيكونون في المقدمة فعلاً. وهم الذين سيقاتلون. ونحن لن نقول لهم ما يترتب عليهم فعله”.
في قاعدة الأسعد، على بعد 180 ميلاً إلى الجنوب من الموصل، تربض وحدات من المدفعية المتحركة على أهبة الاستعداد لبدء الهجوم على الموصل. وثمة عنبر مجاور يضم أكثر من دزينة من الطائرات من دون طيار المستخدمة في استطلاع وضرب أهداف “داعش”. وفي ركن آخر من القاعدة، يعد مدربو الائتلاف 8500 من حرس الحدود العراقيين لإقفال الحدود ومنع المتشددين من الهرب إلى سورية أو تركيا.
وفوقاً، في المخمور، يقدم معسكر سويفت مثالاً أكثر حرفية على الدور المركزي للولايات المتحدة: ويشكل المعسكر الواقع بين قاعدتين أخريين صلة الوصل بين قيادة عمليات نينوى التابعة للجيش العراقي وبين قوات البشمرغة الكردية.
وقال الجبوري عن التواجد الأميركي: “لدينا دعم جوي كبير منهم. إنهم مثل الجراح البارع الذي يزيل ورماً سرطانياً”.
وقال أيضاً أنه يتوقع من سكان الموصل أن يهبوا في وجه “داعش” الضعيف. وأضاف: “في مناطق محررة أخرى عندما تحدثنا مع الناس الذين كانوا قد رحبوا بداعش في الماضي، قالوا كلهم أنهم نادمون الآن على ذلك. وفي القيارة كان القتال أسهل بكثير لأن الناس ساعدونا. إننا نعرف أن العديد من الناس ينتظرون ساعة تحريرهم”.

نبيه بولس

صحيفة الغد