حلب: هل هي الخاتمة أم المقدّمة؟

حلب: هل هي الخاتمة أم المقدّمة؟

0bf1c653-45c0-4d01-b48a-94d972bd724e_16x9_600x338-590x331

هل ستكون حلب الحد الفاصل بين سورية المفيدة وسورية «الأخرى» التي لم تتحدّد معالمها بعد؟ أم ستكون الورقة الأصعب في الحسابات الأصعب بين الراعيين الكبيرين الخصمين لمشروع السلام المفقود؟ أم أنها ستكون المقدّمة لتحوّل نوعي في استراتيجية المقاومة السورية وتكتيكاتها في مواجهة اندفاع حلف النظام؟

أسئلة مشروعة تُطرح، مع غيرها، تحت وطأة الحالة السوريالية التي تعيشها المبادئ والقيم الإنسانية، والمعاهدات والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الشعوب، وروحية العالم المتحضّر والأنظمة الديموقراطية. فهذه كلها باتت أشبه بالسراب الخادع مقابل ما تتعرض له حلب من تكالب غير مسبوق للقوى الوافدة جميعها، حاملة رايات الحقد والانتقام من العقد الماضوية بكل تلاوينها وأسمائها.

حلب تتعرّض للذبح أمام الجميع، بحيث تجاوز بان كي مون قلقه المعتاد ليتجرأ ويقول: تحوّلت حلب إلى مسلخ. حلب العاصمة الإقتصادية الأشهر في شرق المتوسط تتحوّل إلى مسلخ، لا للبشر وحدهم، بل للقيم كلها التي أصبح مجرد الحديث عنها، وعن مبادئ وميثاق الأمم المتحدة، يسبب الغثيان الوجودي.

حلب تتعرض، ومعها سورية، للذبح أمام هلامية دور النظام الرسمي العربي نتيجة تباين الأولويات، وانشغال كل نظام بمشكلاته الداخلية، وخشيته من مواجهة الاستحقاقات المكبوتة.

المجتمع الدولي شبه مشلول لأسباب غير مقنعة في مواجهة الاندفاع الروسي، والبطر الإيراني. والأمم المتحدة لم تتمكّن من فعل أي شيء على مدى أكثر من خمسة أعوام لإيقاف القتل والتدمير والتهجير، ما يؤكد مجدداً ضرورة إعادة النظر في ميثاقها ونظامها الداخلي، لتكون في مستوى التحديّات والمهمات المطلوبة، التي تختلف كثيراً عن تلك التي انطلقت منها القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية في جهودها التأسيسية للمنظمة.

مجموعة أصدقاء الشعب السوري الضخمة لم تتمكّن بقيادة الولايات المتحدة من اتخاذ أية خطوة لدعم الشعب السوري، بحيث يُصادَر على كل ما نراه اليوم من تدمير وقتل وتطرّف وإرهاب.

وكان من الواضح منذ البداية أن المحور الذي تمفصلت حوله هذه المجموعة هو الموقف الأميركي غير الحاسم، ما أدّى إلى ترّهل المجموعة وضعفها، وتقلّص دائرة الفاعلين فيها، حتى اختُزلت تماماً في الموقف الأميركي الذي تناغم لمدة طويلة مع الموقف الروسي، على أساس تفاهمات ما زال معظمها طي الكتمان.

ولمعرفة الأسباب الكامنة وراء إقدام الولايات المتحدة على إعطاء هذا الدور لروسيا، يمكننا التفكير في احتمالات عدة منها:

– الرغبة في تجاوز تبعات دور القطب الواحد وتكاليفه عبر إشراك قوة أخرى وفق معايير لا تخرج عن نطاق المرسوم المحسوب. قوة تتحمّل أعباء وتكاليف إعادة ضبط المعادلات الإقليمية والدولية، وحتى إعادة رسم الخرائط في ضوء المصالح والأولويات المستجدة.

– الرغبة في استنزاف طاقات القوى المتصارعة، بما فيها روسيا، وإنهاكها، في سياق استراتيجية المصادرة على دورها المتنامي والإرباكي مستقبلاً، ما يطمئن التحالف الاستراتيجي في المنطقة، ويوسّع دائرة خياراته.

– غياب الاستراتيجية أصلاً في ميدان التعامل مع قضايا المنطقة، واعتماد منطق التجريب، ما يفسّر إلى حدٍ ما المعالجات الوحيدة التوجه لجملة قضايا، بينها محاربة الإرهاب. فالتركيز هنا يتم على النتائج من دون المقدمات. كما تُهمل التبعات والمآلات لمرحلة ما بعد إنجاز الهدف الآني الإغاثي.

وربما كانت هناك احتمالات أخرى، أو حالة مزج وتداخل بين أكثر من احتمال. لكن النتيجة على الصعيد الواقعي هي ذاتها بالنسبة إلى الشعب السوري. فقد غدت معاناته خارج نطاق اهتمامات أصحاب المصالح، إن لم نقل إنها تشكل وجهاً من أوجه حصيلة الصفقات التي كانت، أو هي في طريقها، إلى التبلور، بين هؤلاء.

معركة حلب مهمة بنتائجها المنتظرة، لكنها مكلفة جداً على صعيد المعاناة البشرية في ظل الشلل شبه التام للجهود الدولية. ولكن في موازاة معركة حلب، هناك معركة الموصل التي يمكن أن تبدأ في أية لحظة، وكذلك معركة الرقة.

وعلى ضوء نتائج هذه المعارك الثلاث ستتحدّد ملامح المنطقة من مختلف النواحي، وستكون هناك إعادة ترتيب للتحالفات ولمناطق النفوذ، وربما الشروع في عملية إعادة نظر في الخرائط المعتمدة راهناً. وكل ذلك يثير حفيظة وهواجس القوى الإقليمية الكبرى التي تدرك قبل غيرها مواطن ضعفها، وتعمل بدأب على منع استغلالها من الآخرين.

لكن تجربة قرن بعد سايكس- بيكو أثبتت أن حالات الإنغلاق والتشنج والصراعات بدرجاتها المختلفة، قد بدّدت الطاقات، وشتّتت الجهود التنموية، وأفسحت المجال أمام أنظمة استبدادية أغرقت مجتمعاتها بالمظالم والفساد.

وما تحتاجه منطقتنا قبل كل شيء هو ترسيخ ثقافة الاعتراف بالآخر المختلف دينياً، أو مذهبياً، أو قومياً- عرقياً، أو فكرياً وجنسياً، واحترام خصوصيته وحقوقه بعقود مكتوبة، واجراءات وممارسات فعلية واقعية، وبناء جسور التواصل والتفاعل معه. وذلك عوضاً عن الهستيريا المدمّرة الطاغية هذه الأيام، والتي تُسبغ قداسات مزيفة على ممارسات وجرائم مدنّسة.

ما نحتاجه هو التعاون الإقليمي لحل المشكلات والقضايا الإقليمية والداخلية لكل دولة، لا السعي المستمر من أجل قمع الإرادات، والتستّر على المشكلات والقضايا، والهروب منها عبر استخدام كل أنواع القمع، وإرغام المطالبين بالحل على السكوت أو الرحيل بكل صيغه.

الأوضاع التي نعيشها سوداوية في جميع أبعادها، ولكن مع ذلك فالعقل يُلزمنا بضرورة عدم قطع الأمل.

عبدالباسط سيدا

صحيفة الحياة اللندنية