وقف الاقتتال في سورية من دون حل سياسي

وقف الاقتتال في سورية من دون حل سياسي

349
تكثر التصريحات التي تتناول صعوبة، بل واستحالة عودة سورية دولة موحدة؛ كما تكثر الدراسات التي تصدر عن مراكز بحثية، وخصوصاً أميركية، تضع تصوراتٍ لحلٍ يدعو إلى وقف إطلاق النار فقط، وعدم الإصرار على الوصول إلى اتفاقٍ سياسيٍّ شاملٍ، في وقت قريب في سورية، لأنه لن يتحقق، وأن قيام دولة موحدة بنظام ديمقراطي غير طائفي هو هدف غير واقعي على المدى القصير، والأمر الممكن هو الفصل بين العملية السياسية ووقف إطلاق النار، والعمل على تحقيق وقف العمليات القتالية، وتقسيم البلاد على طول خطوط النار، ضمن مناطق سيطرة القوى التي تكون ممسكةً بالأرض لحظة نفاذه، من دون أن يكون ذلك جزءًا من أي حل سياسي، أو يترافق معه، وأن يتعامل المجتمع الدولي معها أمراً واقعاً. وبعد ذلك، يتم البحث في الحلول الممكنة خلال أمد زمني مفتوح يستغرق سنوات عديدة.
سعت الإدارة الأميركية الديمقراطية إلى تحقيق هذه الخطوة، لكي تقدم للديمقراطيين بعض النفع في حملة الانتخابات الأميركية الجارية الآن، هذا إن لم يكن استمرار الصراع هو الغاية الأساسية للإدارة الأميركية، وقد سعى الروس إلى استغلال حاجة الأميركيين، وتمسّكوا بطلباتهم، ما اضطر الأميركيين إلى موافقة الروس، وإبرام اتفاق في العاشر من سبتمبر/ أيلول وفق المفهوم الروسي.
تذهب جميع حسابات روسيا في اتجاه إعادة تأهيل النظام، وبقاء بشار الأسد في السلطة، وفي الوقت نفسه، تعلم أن من المستحيل أن يتمكّن نظام الأسد من استعادة السيطرة على سورية كاملةً، وهي تجد أن الأمر الممكن تحقيقه هو السيطرة على أكبر قسم ممكن من “سورية المفيدة”، قبل أن يستقرّ وقف إطلاق النار، مستفيدةً من صمت الجميع عما تقوم به من غاراتٍ واسعةٍ وقصف وتدمير، وقد عملت على المماطلة، وعدم تنفيذ الاتفاق الأخير مع الأميركان، بل صعّدت، بالاشتراك مع طيران النظام، قصفها مناطق المعارضة، وخصوصاً على حلب، بما في ذلك قصف قافلة المساعدات الإنسانية لحلب المحاصرة وقصف المشافي، والغاية هي جعل الحياة مستحيلةً في مناطق سيطرة المعارضة في حلب المحاصرة، لإرغام جميع فصائل المعارضة وسكان مناطقها على مغادرة المدينة، واستعادة السيطرة عليها كاملةً.
وفق منطق الروس والنظام ورغبتهم، يتوقع أن يتم تركيز القصف بعد حلب على منطقة دمشق وريفها، بدءًا بالمعضمية بعد داريا، ثم قدسيا والهامة، وسيتوجّه النظام وحلفاؤه نحو وادي بردى لوصل دمشق بمنطقة سيطرة حزب الله في البقاع اللبناني. وقد تكون الغوطة الشرقية الخطوة التي تليها، ثم قد تكون محافظة درعا والقنيطرة الهدف التالي، ويأملون أن تصبح منطقة سيطرة النظام وحلفائه ممتدةً من درعا والسويداء ومدينة دمشق وغوطتيها والمناطق القريبة منها ومنطقة غرب دمشق ووادي بردى حتى الحدود اللبنانية، وتشمل القلمون ومدينة حمص، والجزء الشرقي من بادية حمص، تصل حتى مدينة تدمر للسيطرة على حقول الغاز الواقعة في هذه المنطقة، إضافة إلى أهمية مدينة تدمر الأثرية، كما تشمل مدينتي حمص وحماه وريفهما الغربي، إضافة إلى الساحل السوري بكامله. هذا ما يحلم به الروس والنظام وايران، ويخططون له، بغض النظر عن مدى واقعيته.
يبدو أن النظام وحلفاءه سلّموا بالتخلي عن شمال حماه وإدلب ومناطق سيطرة داعش في الرقة ودير الزور والبادية السورية الممتدة الى الشرق من تدمر، ومناطق سيطرة قوات حزب الاتحاد الديمقراطي (البي واي دي) الكردي شرق الفرات ومنطقة عفرين شمال غربي سورية.
تدفع روسيا مع النظام الآن إلى عقد جولة جديدة من مفاوضات جنيف 3، وستصر على إشراك مجموعاتٍ أوسع ممن تسميهم معارضةً ممن يوالونها ويوالون النظام، وبمشاركة ما تسمى

منصة موسكو وحميميم وأستانا، ومجموعات نسائية ومدنية متنوعة، إضافة إلى “البي واي دي”، وسيتبعون أسلوب الدورة الماضية نفسه، لدفع الهيئة العليا للمفاوضات إلى الانسحاب، بينما يستمرون هم، كما جرى في المرة السابقة، بتواطؤ من مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، ثم يخرج النظام مع تلك المجموعات “المعارضة” “باتفاقٍ للحل في سورية”، يشكلون بموجبه “حكومة وحدة وطنية” مع برنامج انتقاليٍّ، يتضمن تعديلاتٍ دستورية وانتخابات برلمانية ورئاسية مسبقة الصنع، وفق ما عهدته سورية خمسة عقود منصرمة. وستبارك هذا الاتفاق موسكو والصين وبعض دول العالم، مثل إيران والعراق ولبنان وغيرها، لمنحه شرعيةً دوليةً، مستفيدين من أن نظام الأسد مازال معترفًا به من الأمم المتحدة وفي المنظمات الدولية، ومعظم سفارات سورية في العالم مازالت في يد النظام، وقد تعرض موسكو الاتفاق على مجلس الأمن لاعتماده، وإحراج الأميركان وغيرهم ودفعهم إلى رفضه علناً في معركة دبلوماسية. ويعمل الروس والنظام منذ الآن على مصالحاتٍ مع فصائل المناطق المحاصرة حول دمشق وفي حوران، وسيتخذ بعض الإجراءات، مثل إصدار عفو عام وغيرها من إجراءات.

واقع مثل هذا الحل
هذا الحل هو أولًا نتيجة عجز السياسة الدولية عن وضع حد لهذا الصراع المميت، فسورية ستُمسي مفككةً ومتشظية إلى عدة مناطق نفوذ رئيسة، داخل كل منها مناطق سيطرة ونفوذ فرعية.
مناطق سيطرة النظام وحلفائه، والذي سيبقى مسيطرًا على جزء واسع من غرب سورية، ستكون تحت سيطرة ميليشيات حزب الله والمليشيات العراقية والأفغانية والإيرانية والروسية، مع وجود مركز قيادي يضمن نوعًا من التنسيق، لكن توقف القتال سيؤجج التنافس الذي سيتحول إلى صراع مضبوط بين هذه المليشيات وبين طهران وموسكو، من أجل الإمساك أكثر بتلابيب النظام السوري، وستسعى كل من روسيا وإيران إلى زيادة نفوذها وتوسيع مناطق سيطرتها، وسيمنح توقف القتال أفضليةً للإيرانيين الذين يتحكّمون بجميع المليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية، وحتى مليشيات النظام وقواته. إذًا ستصبح الأفضلية للقوة التي تقبض على الأرض، وليس للتي تطير في السماء، بينما سيتراجع نفوذ الروس، مع تراجع حاجة النظام إلى

قصف الطيران الروسي. من جانب آخر، أغلبية قاطني هذه المناطق هم في داخلهم معارضون لنظام الأسد ولسيطرة إيران وروسيا، فلا يمكن لأي جزءٍ من شعب سورية أن يقبل برضاه ومن غير إرغام، بقاء سلطة الأسد بعد كل هذا القتل والدمار والتهجير، ويدرك كل من لديه عقلٌ ذلك. وفي أي عملية سياسية ديمقراطية، وانتخابات حرة يطبقونها، لن تعيد الأسد إلى السلطة، ولن تنتج سلطةً تابعةً لإيران، إلا إذا طبقوا نموذجًا من الحكم شبيهًا بنظام ولاية الفقيه، مع بقاء المليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية والقوات النظامية الإيرانية والروسية في سورية أمداً طويلاً. ولكن هذا النمط من النظام سيثير عداءً أكبر ضد هذه السلطة، ويوجِد بيئةً حاضنة لعمل المجموعات المعادية لهذه السيطرة، ومهما فعلت إيران لإحداث تغيير ديموغرافي، لن تستطيع أن تغير من واقع الحال كثيراً، أي أن هذه المناطق لن تبقى آمنة.
ستكون مناطق سيطرة قوات “بي واي دي” (جميل باييق وصالح مسلم) مسيطرةً على جزء واسع من شمال سورية، وهي الأكثر مركزيةً، كونها قوة واحدة فرضت سيطرة أحادية مطلقة، وسيكون لهؤلاء مصلحة كبيرة في تفتيت سورية، لأنه الوضع الوحيد الذي يمكّنهم من إقامة كيان مصطنع في شمال سورية. وسينسق هذا الكيان مع النظام وحلفائه. وسيكون بمنزلة قاعدة لحزب العمال الكردستاني (بي كي كي) التركي الذي دخل في صراعٍ مسلح جديد مع الدولة التركية، وسيمنحه هذا قوة كبيرة. ولن يروق هذا الوضع لتركيا، وستقصف هذه المناطق التي سينطلق منها مقاتلو “بي كي كي”، وسيؤدي إلى تصعيد الصراع بينهما، وسيغري هذا الوضع تركيا بتوسيع سيطرتها على مناطق أوسع في شمال سورية.
ستتشظى مناطق سيطرة المعارضة إلى عشرات البقع، تشمل شمال محافظة حماه وإدلب وريف حلب، بعد طرد “داعش” منه بدعم تركي، إضافة إلى مناطق في درعا والقنيطرة وغوطة دمشق ووادي بردى التي يعجز النظام وحلفاؤه من السيطرة عليها. ولكن، ستكون مناطق المعارضة مجزأة، حيث يسيطر على كل منها فصيلٌ مستقل، ومع توقف القتال مع قوات النظام وحلفائه ستنشب صراعات بين هذه الفصائل، إذ ستسعى الفصائل القوية بينها إلى فرض سيطرتها ونفوذها على مناطق الفصائل الصغيرة. ومع توقع استمرار الروس والنظام بقصف مناطق المعارضة، بذريعة مكافحة الإرهاب، ستندفع فصائل كثيرة غاضبة للانضمام إلى جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقًا) التي لن تعدم من يستمر في دعمها وتمويلها. كما سيدفع مجموعات كثيرة من فصائل المعارضة إلى النزول والعمل تحت الأرض، والقيام بتفجيراتٍ عديدة في مناطق سيطرة النظام، ومناطق سيطرة “بي واي دي”، بما يهدّد تحول هذه المنطقة إلى ما يشبه عراقًا آخر.
أما مناطق “داعش” في الرقة ودير الزور والبادية، فيفترض هذا التصور أنها، بعد دحرها، ستكون مناطقها تحت سيطرة من يسارع إلى فرض سيطرته البديلة عليها، سواء كان التحالف الداعم للنظام أم فصائل المعارضة المسلحة أو فصائل “بي واي دي” المسلحة.
باختصار شديد، لن يحمل هذا الحل الاستقرار إلى سورية، ولن يوقف تدفق اللاجئين. ولا يفتقد أصحاب هذا الحل أيّ قيمة أخلاقية وحسب، لكنهم يفتقدون أيضًا القدرة على التقدير الموضوعي والرؤية السليمة، هذا إذا نفينا أنهم يقصدون إحداث مزيد من الفوضى.
هذا الحل وصفة لفوضى طويلة الأمد، وقاعدة لنشاط المجموعات المتطرّفة ونموّها، ولن يكون القضاء على “داعش” نهاية المطاف مع الإرهاب، إذ ستظهر تنظيمات بمسمياتٍ أخرى، فالقضاء على أبو مصعب الزرقاوي في العراق لم يكن نهاية المطاف، مادام الصراع في العراق لم يحل حلًا عادلًا.

هل سيتحقق تفكيك سورية كما يخططون؟
تفتح عوامل عديدة الباب واسعًا أمام إمكانية حصول هذا السيناريو الرهيب. ولكن، ثمة أبواب أخرى قد تجعل احتماله ضعيفًا، وترجّح إمكانية الوصول إلى حل سياسي، يشكل سلطة مركزية تقوم على الشراكة بين النظام والمعارضة والمجتمع، ويضمن وحدة سورية وقيام نظام وطني ديمقراطي يشمل الجميع.
يرجح استمرار السياسة الأميركية في نهجها الحالي سيناريو التفكيك، لكنه سيعد بمنزلة انتصار للروس والإيرانيين. ويُعتقد أن السياسة الأميركية لا يمكن أن تسمح بمثل هذا الانتصار، وقد

بدأت بعض هذه الملامح بالبروز. غضب الأميركيون من عدم التزام الروس باتفاق وقف إطلاق النار، ودعمهم النظام، لتوسيع مناطق سيطرتهم، قبل تثبيت وقف إطلاق النار، فقام الأميركان بتعليق تعاونهم مع الروس في الشأن السوري، وبدأوا مناقشة سيناريوهات مواجهة الوضع في سورية، ولم يوفروا مناقشة سيناريو استخدام القوة العسكرية ضد نظام الأسد، بل دعا المرشح الجمهوري لنيابة دونالد ترامب (مايك بينس)، في مناظرته يوم الثلاثاء 4 سبتمبر/ أيلول مع نظيره الديمقراطي تيم كاين، إلى استخدام ضرباتٍ جوية ضد النظام السوري، لإرغامه على فك الحصار عن حلب، بينما دعا الديمقراطي تيم كاين، إلى إقامة مناطق عازلة آمنة في شمالي سورية. ومن جانبهم، هدّد الروس برد صاعق على أي اعتداءٍ على قوات النظام، وأن الصراع على سورية قد يكون بدايةً لحرب عالمية ثالثة، ونشروا صواريخ إس 300 المضادة للصواريخ في طرطوس. ولكن تهديد الروس هو من قبيل الحرب الكلامية، إذ يعلمون جيدًا أنهم ليسوا أكفاء للغرب عند المواجهة، وأن الصين لن تدخل مع الروس في حربٍ من أجل سورية. وفي المقابل، قد يكون تصعيد الأميركيين مع الروس لغاياتٍ انتخابيةٍ لا أكثر. ولكن ثمّة احتمالًا قويًّا بأن هذا التصعيد بين الروس والأميركان جديّ، قد يدفع الروس إلى رؤيةٍ أكثر واقعية، والتخلي عن تبني تفتيت سورية لإقامة كيان في سورية المفيدة، والقبول بحل سياسي يحقق انتقالاً سياسيًّا، وينتج سلطة بديلة عبر انتخابات حرة، لا يشارك فيها الأسد، وتضمن مصالح الروس في سورية.
لكن هذه كلّها تقديرات غير واضحة المعالم، وننتظر الأيام المقبلة لكي يظهر الموقف جليًا، إذ يقف الصراع على سورية الآن على مفترق طرق.

مركز حرمون للدراسات المعاصرة