انسداد دبلوماسي: آفاق انهيار الهدنة في سوريا

انسداد دبلوماسي: آفاق انهيار الهدنة في سوريا

c299dafad2084b789315f91373551192_18

مقدمة

انهار وقف إطلاق النار في سوريا، الذي نتج عن اتفاق روسيّ أميركيّ في 11 سبتمبر/أيلول 2016، وانهارت معه مؤقتًا مجموعة تفاهمات، كان يمكن أن تفضي إلى مرحلة تعاون عسكري مباشر بين موسكو وواشنطن في سوريا.

النص التالي هو قراءة في خلفيات الاتفاق وأسباب ترنحه راهنًا، وما يمكن أن ينتج عن سقوطه بالكامل أو عن العودة إليه والسير في خطوات تنفيذه والولوج إلى مرحلته الثانية وموجباتها لاحقًا.

لافروف كمبادر وكيري كمتلقٍّ

قادت الدبلوماسية الروسية المدعَّمة، منذ 30 سبتمبر/أيلول 2015، بآلاف الغارات الجوية ضد قوى المعارضة السورية المسلحة، حملة على مستويين: مستوى البحث عن حلٍّ سياسي يُبقي الأسد ونظامه مع إدخال شخصيات “مستقلة” و”معارضة” إلى حكومة “وحدة وطنية” تنسف مبدأ انتقال السلطة المنصوص عليه في بيانات جنيف، ومستوى الدفع نحو حلٍّ عسكري يقوم على التقدم الثابت والبطيء لقوات النظام وحلفائه اللبنانيين والعراقيين المدعومين إيرانيًّا، وقضمها التدريجي لمناطق على خط درعا-دمشق-حمص-حماه-حلب، وتحصين “حدود” محافظتي اللاذقية وطرطوس. بمعنى آخر، عمل الروس على كسب الوقت دبلوماسيًّا محاولين فرض منع البحث بمصير الأسد، ودفعوا بموازاة ذلك نحو تنفيذ عمليات عسكرية لا تُبقي أيَّ تواصل ترابي بين المناطق التي تنتشر فيها قوى المعارضة، وتعزل محافظة إدلب عن سواها، بما يمكِّنها من القول لاحقًا: إن سوريا باتت مقسَّمة إلى مناطق يسيطر عليها النظام وفيها المدن الكبرى، ومناطق يسيطر عليها تنظيم الدولة، ومناطق يتوسع فيها الأكراد. أما الباقي، فجيوب معارضة معزولة ومنطقة واحدة واسعة تسيطر عليها جبهة “فتح الشام” (“النصرة” سابقًا)، المتفق بين موسكو وواشنطن على تصنيفها إرهابية. وفي هذا ما يجعل كل مطالبة برحيل الأسد بلا طائل أو مبرر ميداني، وما يمكِّن الروس من تكثيف قصفهم على محافظة إدلب، تاركين للضباط الإيرانيين إدارة العمليات العسكرية ضد الجيوب المعارضة المحاصرة.

من جهتها، لم تبذل واشنطن أي جهد جدي لمواجهة مستويي الحملة الروسية؛ فسياسيًّا، تناقضت التصريحات الأميركية بين الحديث عن مشروطية رحيل الأسد أو القول بأن ذلك سيكون تتويجًا لمرحلة انتقالية يشارك فيها، أو تجنُّب التطرق إلى الأمر برمته بما يوحي بأنه بات موضوعًا غير مطروح راهنًا. أمَّا عسكريًّا، فبعد إصرار على منع تسليم المعارضين صواريخ أرض/جو (كانت كفيلة منذ العام 2012 بتبديل موازين القوى جذريًّا). وبعد رفضٍ لكل بحث في فرض مناطق حظر جوي في سوريا، تعاملت واشنطن مع الشأن العسكري على نحو تجريبي ومن دون حزم يمنع الروس من النجاح في خططهم أو على الأقل يقلِّص فرص ذلك. فبين تزويد بعض الفصائل في الشمال والجنوب بأسلحة خفيفة ومتوسطة تعينها على مواصلة القتال دون قدرة على الحسم، وبين ترك مهمة الدعم الأساسية للحلفاء الإقليميين (تركيا والسعودية وقطر) والسماح بدخول مقنَّن لصواريخ “تاو” المضادة للدروع القادرة على تصعيب مهمة النظام وحلفائه في التقدم، وبين وقف كل دعم للفصائل جنوب البلاد (عبر الاتفاق مع الأردن على إقفال الحدود) بما يُبعد “الخطر” العسكري عن دمشق ويطمئن الروس إلى ذلك، لم تستقر السياسة الميدانية الأميركية على أمر، سوى قصف تنظيم الدولة، وتأمين الغطاء الجوي للمقاتلين الأكراد في الشمال والشمال الشرقي ضده.

وفي الأشهر الأخيرة، بدا أن إدارة أوباما، تسعى إلى أي اتفاق مع الروس يجمِّد الوضع العسكري ويخفِّف الإحراج عن واشنطن نتيجة تزايد الانتقادات لها على سياستها المرتبكة في سوريا، ويعيد الحياة إلى المسار التفاوضي في جنيف حتى وإن لم يتقدم بسرعة. فالتفاوض ولو كان لمجرد التفاوض يبقى في الميزان الأميركي، وعلى نحو ما كان يجري بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ضمانة لعدم التصعيد الميداني ومدعاةً للقول: إن جهدًا دبلوماسيًّا يُبذل وإن بديله حرب ودمار إضافي.

ولعل تطورات شهر أغسطس/آب المنصرم، الذي شهد معركة حلب وتهجير داريا والدخول العسكري التركي إلى الشمال السوري محاربةً لتنظيم الدولة وللقوى الكردية، عجَّل من وتيرة المفاوضات بين وزيري الخارجية الروسي والأمريكي، لافروف وكيري، وأنتج اتفاقًا يحمل الكثير من الالتباسات والنواقص الفادحة، ويعكس تسرعًا “دبلوماسيًّا” أميركيًّا اعترض عليه “البنتاغون”، مقابل نجاح روسي يجعل تنفيذ الاتفاق أو تراجعه يصبَّان في مصلحة الاستراتيجية الروسية في سوريا.

وقد قام الاتفاق على مبادئ تثبيت هدنة عسكرية في مختلف المناطق السورية، باستثناء تلك التي تشهد معارك مع تنظيم الدولة، ووقف جميع الغارات الجوية التي لا تستهدف التنظيم المذكور، وإدخال مساعدات إلى المناطق المحاصرة، وسحب المتقاتلين من محيط طريق الكاستيلو في حلب لتمرير المساعدات إلى الأحياء الشرقية بضمانة برية روسية. وتضمَّن الاتفاق أيضًا تأكيدًا على تأسيس “شراكة” أو تعاون روسي-أميركي يلي ثبات الهدنة ودخول المساعدات، ويستهدف هذه المرة -إضافة إلى تنظيم الدولة و”جيش خالد بن الوليد” المحسوب عليه (والمتواجد في بعض الجيوب في محافظتي درعا والقنيطرة)- تنظيمَ “فتح الشام” ومجموعات “جند الأقصى” و”الحزب الإسلامي التركستاني” في أرياف حلب وإدلب وحماه. ويفترض الاتفاق أن واشنطن ستسعى لإبعاد مَن تُعد فصائل “معتدلة” عن المجموعات المذكورة، خاصة تلك المنضوية في “جيش الفتح” (مع جبهة “فتح الشام”) وتسلم موسكو معلومات حولها لتجنيبها القصف، مقابل ضمان الأخيرة عدم تحليق طيران نظام الأسد في أية منطقة تعاون عسكري روسي-أميركي. وإذ وافقت الخارجية الأميركية ومعها البيت الأبيض على ما ذُكر بعد أن رفضا طلب الروس إضافة “أحرار الشام” و”جيش الإسلام” إلى لائحة القوى “المتطرفة” المستهدفة، تحفَّظت وزارة الدفاع الأميركية على الاتفاق واعتبرته تسليمًا كاملًا بالدور الروسي في سوريا ومساعدةً من دون مقابل لموسكو في خططها وكشفًا لطرق عمل الولايات المتحدة مخابراتيًّا وعسكريًّا على الأرض.

لم يتطرَّق الاتفاق إلى شروط المسار السياسي، باستثناء الدعوة لاستئنافه، وغاب ذِكْر النظام السوري بالتالي عن بنوده، فبدا الأخير وكأنه غير مسؤول عن أية جريمة تستحق التصنيف الإرهابي أو توجب استهدافه (وكذا بالنسبة لحلفائه الإقليميين)، رغم أن تقريرًا أمميًّا، سبق الاتفاق بأيام، اتهم النظام باستخدام الكلور في قصفه المدنيين. وغَيَّب الاتفاق أيضًا كل ذكر لقضية المعتقلين والمخطوفين ولمصير المدنيين المحاصرين واحتمالات تهجيرهم (على نحو ما جرى في داريا). وبدا بالتالي، إضافة إلى فوقيته وانحيازه للنظام وتصنيفه “الجماعات الإرهابية” بما يناسب روسيا وأميركا حصرًا وبمعزل عن كل مجريات على الأرض السورية، متجاهِلًا لأبسط الحقوق الإنسانية للسوريين: الحق في رفع الحصار وليس إدخال المساعدات فحسب، والحق بالتحرر من المعتقلات، وفي مقدمتها “معتقلات النظام” التي ذكر آخر تقارير “منظمة العفو الدولية” قبل أربعة أسابيع أن ثلاثمئة من قاطنيها يموتون كل شهر نتيجة التعذيب والمرض والجوع.

تداعيات الاتفاق ومؤديات انهياره

أدَّى الاتفاق في أسبوعه الأول إلى تراجع العمليات القتالية في معظم الأراضي السورية، والى تراجع القصف الجوي ولو دون إيقافه؛ ما قلَّص أعداد الضحايا المدنيين، وهذه الفائدة الوحيدة منه. في المقابل، لم تدخل المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة بسبب تمنُّع حواجز النظام وحلفائه عن السماح لها بالمرور.

وفَّر الاتفاق للنظام السوري وحلفائه ولبعض قوى المعارضة المسلحة فرصة إعادة تنظيم قواها وانتشارها ميدانيًّا في محيط حلب وعلى مداخلها، وأتاح لروسيا إظهار قيادة دولية للمسار السياسي ولاحتمالات تحويله إلى مسار عسكري مشترك مع الأميركيين. والأهم بالنسبة لموسكو، أنه خلق حالة اضطراب سياسي شديد لدى الفصائل والكتائب السورية المعارضة نتيجة صعوبة الانفكاك الميداني عن “فتح الشام” وما يعنيه ذلك من توتر معها في مناطق لا تتداخل فيها المواقع العسكرية فحسب، بل صلات القربى بين المقاتلين وروابط المكان ومشاعر التعرض المشترك للظلم أيضًا. وهذا يعني أن الانفكاك قد يولِّد صدامات وتشظيًا خطيرًا، في وقت يُعرِّض التمسك بالتحالف الجميع إلى مواجهة القصف الروسي-الأميركي المشترك. كما أن الخلاف بين الخارجية الأميركية و”البنتاغون”، وتمنُّع واشنطن عن نشر نص الاتفاق كاملًا وعن التشاور مع الحلفاء الأوروبيين والإقليميين بشأنه، أظهرا الارتباك الأميركي الذي أحدثته الخطوات الروسية وبيَّنا غياب كل مبادرة قيادية أميركية.

على أن عدم استيفاء أسبوع الهدنة لخطوات إدخال المساعدات المنصوص عليها إلى المناطق المحاصرة وتحميل الأمم المتحدة النظام السوري المسؤولية عن ذلك، ثم الغارة الأميركية في دير الزور التي سقط فيها عشرات الجنود من النظام قتلى وجرحى والتي قالت واشنطن إنها استهدفت بالأساس مواقع لتنظيم الدولة، معطوفةً على الغارتين من القوات الروسية والقوات النظامية السورية على قافلة المساعدات الإنسانية الأممية التي جهَّزها الهلال الأحمر السوري وعلى الوحدة الطبية اللتين قُتِل فيهما أكثر من 20 عامل إغاثة ومسعفًا ومعالِجًا، أدَّى جميعها إلى توقف العمل بالاتفاق الروسي-الأميركي. وقد أعلن نظام الأسد، في 19 سبتمبر/أيلول، انتهاء الهدنة، وباشرت قواته قصف أحياء حلب الشرقية وتنفيذ غارات جوية على العديد من المناطق في الأرياف الحلبية والإدلبية. وتبع ذلك، ابتداء من 22 سبتمبر/أيلول، تصعيد عسكري كبير وكثافة قصف جوي غير مسبوقة من قبل الطيران الروسي، تقدَّمت تحت غطائه قوات النظام وحلفاؤها في منطقة مخيم حندرات (شمال شرق المدينة). وقد سقط خلال القصف المذكور أكثر من مئة وخمسين قتيلًا مدنيًّا، في جرائم حرب إضافية وفي انتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني.

سياسيًّا، ردَّت قوى المعارضة السورية بالقول إنها “لم تعد معنية بالعملية السياسية” في ظل حرب الإبادة التي تتعرض لها حلب. وعلى الأرض، اندمجت في محافظة إدلب كتائب ووحدات عسكرية عديدة (صقور الجبل والفرقة 13 والفرقة الشمالية) ضمن “جيش إدلب الحر”، الذي عاجَلَه الطيران الروسي بالاستهداف المباشر. وبدا أن موسكو تتجه إلى تغيير المعادلة العسكرية في مدينة حلب واستئناف غاراتها الجوية في باقي المناطق بما يعني العودة إلى العمل العسكري لفرض الإرادة السياسية.

ولم ترُدَّ واشنطن على الأمر بأكثر من الاستنكار اللفظي، والدعوة مع باريس ولندن لانعقاد اجتماع لمجلس الأمن في 25 سبتمبر/أيلول. وقد نجم عن الاجتماع إدانة أميركية-فرنسية-بريطانية لجرائم الحرب الروسية ولنظام الأسد في حلب، مقابل دفاع من النظام عن سياساته ومن روسيا عن مواقفها، وتلكؤ من الأمين العام، بان كي مون، ومن المبعوث الخاص إلى سوريا، دي مستورا، في توجيه أصبع الاتهام إلى من ينفِّذ “جرائم الحرب”.

سيناريوهان للأسابيع المقبلة

يتيح ما تقدم ومعه بعض التجارب السابقة القول: إن احتمالات تبديل المقاربات الدولية للمسألة السورية في الأسابيع المقبلة ضئيلة جدًّا، وهذا يعني أننا أمام احتمالين رئيسيين:

الاحتمال الأول: استمرار التصعيد الروسي وسعي موسكو إلى تمكين النظام ومقاتلي حزب الله والميليشيات العراقية والأفغانية والضباط الإيرانيين من تحقيق “إنجاز عسكري” شرقي حلب، بالترافق مع استمرار تنفيذ خطط قضم الأرض وتهجير سكانها (في الوعر في حمص وفي المعضمية والعديد من بلدات جنوب دمشق)، بهدف إعادة البحث السياسي بعد تبدل جديد في موازين القوى لصالح النظام.

وستواجه ذلك نفس المواقف الأميركية غير الحازمة، التي قد تسمح للحلفاء الإقليميين بمدِّ بعض فصائل المعارضة بالسلاح للدفاع عن نفسها، وتندرج في هذا الإطار التقارير التي تتحدث عن سعي القوى الإقليمية المعارضة للنظام السوري إلى إمداد المعارضة بأسلحة نوعية لوقف هجمات النظام وحلفائه بعد ما أثبتت الوقائع فشل رهان واشنطن على الحل الدبلوماسي، لكن ستظل الإدارة الأميركية ترفض “التورط المباشر” والالتزام الواضح إلى حين نهاية عهد الرئيس أوباما أواخر العام الحالي لأنها تفتقد إلى استراتيجية توفِّق بين قتال من تعتبرهم إرهابيين وتغيير النظام السوري.

والاحتمال الثاني: العودة إلى الاتفاق الروسي-الأميركي، والبحث في إعلان هدنة جديدة، مع تركيز هذه المرة على التسريع في الخطوات المفضية إلى تنفيذ العمل العسكري المشترك ضد الجماعات المصنَّفة إرهابية، وتأجيل البحث مجددًا في مصير الأسد. وهذا إن حصل، سيعني ضربًا مشتركًا، روسيًّا-أميركيًّا، لمواقع جيش الفتح في حلب وإدلب وريف حماه، أي في المناطق الواسعة ذات العمق والمفتوحة على الأراضي التركية التي ليس بمقدور النظام وحلفائه استعادتها، وسيعني أيضًا استمرارًا في الضغط لتجميد القتال في الجنوب، والتفرغ لمفاوضة أنقرة على شكل استمرار تدخلها في سوريا وعمقه ودور قواتها في العمليات ضد الدولة في الرقة وتخفيق التوتر بينها وبين الميليشيات الكردية المدعومة من واشنطن.

الخياران المطروحان في الأشهر المقبلة يصبَّان إذًا في صالح السياسة الروسية المتبعة “دبلوماسيًّا” و/أو عسكريًّا. وأي موقف أميركي حاسم في مواجهة ذلك يبدو مستبعدًا في الوضع الراهن. وهذا يفترض بالتالي بحثًا من قبل المعارضة السورية في أشكال تدعيم الصمود العسكري في الفترة المتبقية من العام الحالي وإمكانياته، وسبل إطلاق المبادرات السياسية والقانونية في المحافل الدولية. بمعنى آخر، يتطلب الأمر المزيد من التنسيق العسكري على المستوى الوطني السوري وليس فقط وفق المنطق المناطقي السائد حاليًّا. ويتطلب كذلك توزيع أدوار وتفاهمات ميدانية بين الفصائل المقاتلة لتجنب التوترات ولتصعيب مهمة الاستهداف الأميركي-الروسي المشترك إن حصل. بموازاة ذلك، لابد من التركيز بلغة حقوقية (واستعانةً بالمنظمات الدولية غير الحكومية وبالخبراء القانونيين السوريين وأصدقائهم) على ملفات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها نظام بشار الأسد بما يُبقي إمكانية مقاضاته قائمة، ويُصعِّب كل تطبيع دولي مباشر معه، ويفرض على أي بحث عن حلٍّ سياسي جدِّي لاحق طرحًا واضحًا حول مصيره سياسيًّا وقضائيًّا.

 مركز الجزيرة للدراسات