الدولة المدنية والفرصة التاريخية

الدولة المدنية والفرصة التاريخية

%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%86%d8%aa%d8%ae%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%8a%d8%a7%d8%a8%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%b1%d8%af%d9%86

كما أننا لا نستطيع ممارسة لعبة كرة القدم من دون رسم الملعب، كذلك لا نستطيع ممارسة العملية السياسية الديمقراطية الصحيحة من دون قواعد تضمن التنافس العادل بين الأحزاب، بناء على أفكار وبرامج ومبادئ عامة تطرحها. ومع أننا ما نزال بعيدين عن حياة ديمقراطية تعددية حزبية، إلا أن المرحلة قد تكون نضجت لتشكيل توافق واسع من مختلف الأطياف السياسية، حول شكل العملية السياسية وقواعدها بناء على مفهوم الدولة المدنية.
وما يوحي بالتفاؤل حول نضوج المرحلة، هو التطور المفاهيمي لدى الكثير من الفرقاء حول مفهوم الدولة المدنية. فالعديد من كُتاب “التيار العلماني” أدركوا ضعف مفهوم العلمانية فيما يتعلق بنقد ظاهرة الاستبداد. وقد تكون تجارب الدول العلمانية الدكتاتورية وفشلها الذريع في المنطقة، قد فرضت هذه المراجعة. فأتى مفهوم الدولة المدنية ليركز على رفض مظاهر الاستبداد والتسلط والإكراه والوصاية، أكان مصدرها مؤسسات الدولة أو المؤسسات الدينية.
في المقابل، فإن العديد من كتاب “التيار الإسلامي” أيضا تصالحوا مع مفهوم الدولة المدنية، لا بل ساهموا في تأصيله إسلاميا، بأن قالوا أن ليس هناك أصلا “دولة دينية” في الإسلام، باستثناء حالات دخيلة، مثل مفهوم ولاية الفقيه.
وخرجت أيضا آراء عديدة تؤكد أن الدستور الأردني منسجم تماما مع مفهوم الدولة المدنية، خصوصا وأنه لا تعارض بين أن يكون دين الدولة هو الإسلام بالمعنى الثقافي الواسع (المادة 2)، وبين أن يكون الشعب هو مصدر السلطات (المادة 1).
وأثبتت الانتخابات الأخيرة على أرض الواقع، وإن بشكل أولي، تعطش فئات واسعة لطروحات منسجمة مع منظومة تحترم سيادة القانون والمساواة بين المواطنين كافة، وتكافؤ الفرص وضمان الحريات واحترام الأديان، من دون إعطاء أي جهة صفة الاحتكار والوصاية على العقل والفكر والممارسة. وأنتجت نشاطا مدنيا باتجاه إيصال الصوت المدني وتعزيز المساءلة. في المقابل، فإن أحداث الأسابيع الماضية الأليمة؛ من اغتيال ناهض حتر وقضية المناهج وغيرها أيضا، ذكّرت الجميع بمخاطر إذكاء خطاب الكراهية وإقصاء الآخر، وانعدام آليات الحوار والتوافق إلا من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.
هذه التحولات، وإن كانت فتية العهد، قد تشكل في مجموعها لحظة تاريخية مهمة يجب التقاطها لتأسيس توافق واسع يشمل المكونات السياسية للدولة. وطبعا، ليس المطلوب هنا الإجماع على كل شيء، كما ليس المطلوب إشراك من لا يؤمن أصلا بالديمقراطية ويصر على احتكار السلطة وإلغاء الآخر؛ أكان جهاديا سلفيا أم جهاديا علمانيا.
المطلوب هو التوافق على القاسم المشترك الأدنى الذي لا يلغي التنافس السياسي، بل بالعكس؛ يشكل منصة رافعة للتنافس السياسي الشريف، وتكوين تعددية حزبية حقيقية تمنح المواطن خيارات برامجية، والقدرة على تشكيل حكومات برلمانية تنفذ خططها وبرامجها وتساءَل وتحاسَب من قبل السلطة التشريعية، وتقيّم من خلال انتخابات دورية تؤدي إلى تداول السلطات، وكل ذلك تحت مظلة الدستور وسيادة القانون.
هل تشكلت نخبة سياسية واعية لأهمية المرحلة؟ وهل هناك إرادة سياسية لاقتناص الفرصة؟ السؤال مطروح ورهن الإجابة العملية. وسوف تثبت الأسابيع والأشهر المقبلة إن كنا قادرين على اقتناص الفرصة التاريخية السانحة أم لا.

د.عمر الرزاز

صحيفة الغد