حرب الشيشان.. أيقونة ثابتة لدى بوتين يكررها في سوريا

حرب الشيشان.. أيقونة ثابتة لدى بوتين يكررها في سوريا

Second Chechnyan War

تشابهت العديد من العوامل المشتركة بين الجرائم الإنسانية المُرتكبة في مدينة حلب السورية، و”جروزني” عاصمة الشيشان، فقد عانت الشيشان من نفس ظروف سوريا الوحشية في مطلع الألفية الجديدة، لكن في سوريا، حاول زعماء الغرب إنقاذ السوريين المحاصرين، عكس ما حدث في الشيشان، حيث حاولت قلة من الدبلوماسيين مساعدة هذا الشعب منذ عقد ونصف تقريبًا، عندما تحرك فلاديمير بوتين -بعد أشهر من توليه مقاليد الحكم في روسيا- حتى يعيد سيطرة بلاده على الشيشان -التي انفصلت عن موسكو بعد حرب قصيرة بغيضة في منتصف التسعينيات- ولم يهتم العالم وقتها بالمجازر الإنسانية التي تسبب بها بوتين في الشيشان.

فيما عدا ذلك، تتشابه صور المعاناة في البلدين، فبوتين كان يعلم، مثلما كان يعلم في أثناء حربه ضد الشيشان، أنه لن يستطيع الانتصار هو وحلفاؤه عن طريق الحرب البرية، لذلك لجأ إلى حل هذه المشكلة عن طريق القصف الجوي.

وبالطبع هذا الأسلوب ليس حكرًا على بوتين وحده، حيث يحاول الزعماء الغربيون حل القضايا المعقدة، دون المخاطرة بأي اتصال مباشر مع العدو، لكن يختلف بوتين عن غيره من منافسيه، فلا يضغط أي صحفي أو سياسي أو ناشط في روسيا على بوتين لإنقاذ مواطني حلب، تمامًا كما لم يكن هناك أي متعاطف روسي واحد مع معاناة الشعب الشيشاني، المُحاصر في جرووني أثناء قصف الصواريخ للمدينة.

فمثل هذا الهدوء المنتشر على الجبهة الداخلية، يساعد أي شخص يسعى إلى الفوز في صراع ما، فستكون صاحب مركز قوي إذا ما فجرت مستشفيات عديدة، دون تدخل يذكر من مواطنيك ليوقفوا أعمالك الوحشية.. هذا واستطاع بوتين تحقيق النصر في الشيشان، بسبب قصف جروزني دون هوادة أو أي رحمة.

فوجئ كل من زار الشيشان، عقب الحرب الروسية، بمظاهر الدمار التي لحقت بها؛ فأصبحت عبارة عن فدادين من الأبنية المهدّمة، والمصانع المدقوقة على الأرض، والأسوار المخترقة، مع أن العديد من الناس يرون أن الدول الغربية تتساوى مع روسيا في أعمالهم السيئة تجاه الإنسانية، لكن لا بد أن نعترف أن الدول الغربية ليست بنفس قدر الوحشية الروسية: فأي حكومة غربية تتجرأ على التسبب فيما قام به بوتين، سواء في جروزني أو في حلب؟

فلا حاجة إلى مثل هذه الوحشية لتستفيد الحكومة السورية من دروس نظيرتها الروسية، فيما يخص القمع الداخلي للشعوب، فهي لا تحتاجها، لكن من الممكن أن توفر روسيا العديد من الموارد المفيدة، التي لم تراها سوريا من قبل، وإذا تمسك السوريون المعتدلون ببلدهم، وهي نوعية الأشخاص المسالمين التي يسعى الغرب لمساعدتهم، فمن المؤكد أن روسيا ستساعد نظام بشار الأسد للقضاء عليهم.. فهو ما فعله بوتين في الشيشان، حيث عكفت أجهزة الأمن على انتقاء كل من استطاعت التفاوض معهم.

واستطاع زعماء المتمردين المتعصبين، مواصلة مسيرتهم لفترة أطول، مستمدين قدرتهم على البقاء من طاقة الغضب تجاه القمع الروسي، حيث استغل المتمردون النساء المتأثرات بالصدمة النفسية، جرّاء خسارتهم لعائلاتهم، لتفجير أنفسهن في شوارع موسكو، أو مهاجمة أهداف سهلة من المدارس والمسارح والحفلات الغنائية بروسيا، وكلما زادت مثل هذه الأعمال وحشية، مُنِح بوتين مزيدًا من الشرعية من حلفائه؛ لزيادة الأعمال الوحشية ضد الشيشان، وضمان تعاطف أقل من مؤيديه تجاه ضحاياه.

وعلى الرغم من عدم حاجة بوتين للقلق من الرأي العام الداخلي في روسيا، فإنه في حاجة ماسة إلى رأي العالمي، فآراء الناقدين الأجانب المعترضة على سياساته في الشيشان، أثّرت فيه بقدرٍ كبيرٍ، ولكي ينال بوتين الرضا الدولي، سيحاول إضفاء الشرعية على انتصاره في سوريا، إذا ما نجح في تحقيق عملية السلام بها، حتى إن كان هدم حلب هو ثمن تحقيق السلام في سوريا.

يتناقش المسؤولون الروسيون عن خوض بشار الأسد، رئيس سوريا، الإنتخابات الرئاسية، بمجرد اعتماده دستورًا جديدًا، تمامًا مثلما حدث في الشيشان، بعد اعتماد  دستور جديد وأجريت انتخابات رئاسية في العام 2003، بالتزامن مع توقف الحرب، فتم إقصاء كل ناخب معروف بين الشعب، هدد الناخب المفضل لدى بوتين، فنعلم جميعنا من سيصل للرئاسة حتى قبل أن تجرى الانتخابات.

يعلم بوتين جيدًا أهمية رسالة الصحافة، ففي بداية الأمر، سعت حكومته إلى ترهيب الصحفيين الناقدين لسياساته، وسيطر على وسائل الإعلام المنافسة، لكن بعد استقرار الحالة العامة في الشيشان، افتتح في العام 2005 قناة تلفيزيونية جديدة عرفت باسم “روسيا توداي”.

فقناة “روسيا توداي” المعروفة بـ”RT”، تمثل نقطة تواصل تهتم بالأصوات المُهمّشة، التي تتجاهلها ما يسمى بـ”وسائط الإعلام الرئيسية”، حيث تعرض القناة حقائق تتعامل معها بطريقة غير مناسبة، لتقص قصة ما، لتشوه صورة الغرب كعناصر فاسدة، واصفة إياهم بالازدواجية أو المنسحبين.

فنجاح “RT” يُعكّر صفو المعلومات العديدة المُجمعة، مهتمةً فقط باستمرار عرض رسالة بوتين: من اعتباره للتفجيرات السورية في مصلحة السوريين أنفسهم، تمامًا مثلما برر تفجيراته للشيشان، فالحرب بالنسبة له، هي الطريق السليم للوصول إلى السلام، وظهر ترامب في العام الحالي عبرالقناة، مثلما فعل العديد من السياسيين البارزين من بريطانيا ومناطق أخرى، لإثبات صحة الفكرة التي تنص على كون الحقائق والوقائع المعروفة للعالم، ما هي إلا ضرب من الخيال.

يصف مؤيدو بوتين عادة بلاعب الشطرنج، بسبب أسلوبه الاستراتيجي في الضغط على خصومه، لكن مثل هذا الوصف لقدراته مُبالغ فيه، فأي سياسي متوسط الذكاء يستطيع القيام بما يفعله بوتين، إذا ما وفرت له وسائل إعلامية متواطئة معه، وسيطر على ثلاثة جهات حكومية، مثلما هو الحال مع بوتين، لكنه قد يشبه لاعبي الشطرنج في إصراره على ربط القضايا المتفرقة ببعضها البعض: أوكرانيا وسوريا والاتفاقية المشتركة بين روسيا وأمريكا للتخلص من المواد المشعة، فكل ما ذكر هي قطع على طاولة الشطرنج، يمكن التضحية بها لصالح اللاعب، بوتين.

فإذا أتاحت تفجيراته أسر مربع على طاولة الشطرنج الخاصة به “المسمية بسوريا”، سينادي معجبوه الغربيون بذكائه وعظمته، حتى إن كان نجاحه نتيجة لضعفه، مثلما هو ناتج عن قوته، وإن افترضنا أن بوتين ينظر إلى العالم بكونه لعبة شطرنج، فهذا يعني أنه يرى أن هذه الطاولة مليئة بالعساكر، عوضًا عن الشعوب.

وفي خريف العام 2003، اعتقد بوتين أنه نجح في إقناع الحكومة الأوكرانية برفض اتفاقية تجارية مع الاتحاد الأوروبي، والانضمام إلى مشروع روسي بدلا منه، بمنحهم 15 مليار دولار، لكن الشعب الأوكراني رفض اللعب معه في تلك الخطة، رافضين أن يتحولوا إلى عساكره في اللعبة، فقد نجحت الثورة الأوكرانية في إسقاط حلفاء بوتين في مدينة كييف، عاصمة أوكرانيا، فتحولت خططه للنصر إلى هزيمة استراتيجية.

وبعد مرور العديد من الأعوام، منذ أن بدأ بوتين حرب الشيشيان في العام 1999، أمر بقتل زعماء الشيشان وفرض عملية سلام جديدة، عن طريق رجل قوي محلي، فتحولت أساليب استخدام الوحشية الضرورية من وجهة نظره، لتحقيق الامن والنظام، بعد هروب ثلث سكان الشيشان قبل الحرب، المطالبين باللجوء في أوروبا، وها هي تكررت الهجرات الجماعية في يومنا هذا، ومازالت تعتمد الشيشان على دعم سنوي مقدم من موسكو، ومازالت عملية السلام قائمة، على مشارف الانهيار بخطوة واحدة من الفوضى.

من الممكن أن يؤدي قصف بوتين لحلب إلى خضوعها لسيطرة بشار الأسد، عن طريق انتخابات رئاسية زائفة، ليتمكن بوتين من عرض حل القضية السورية، لكن ما لا يعلمه بوتين وبشار، أنك لا يمكن أن تجبر من قتلتهم، وتسببت في معاناة من بقيوا أحياء، على أن يحبوك، ولن ينجح أي نظام يؤسسه بوتين، طالما فشل في استيعاب أن رغبات الأشخاص الخاصة، أهم من رغباته هو.

الجزيرة