روسيا تعزز صعودها

روسيا تعزز صعودها

download

ليست روسيا دولة عادية، أو مجرد قوة كبيرة. عبر التاريخ وجدت روسيا لتكون لاعباً مؤثراً في التوازنات الدولية. موقعها الجغرافي الطرفي نسبياً كان يحول دون تأثيرها الكامل أحياناً، في مجريات السياسات الدولية. لكن الولايات المتحدة لم يحل موقعها البعيد من أن تصبح القوة الأولى في العالم عبر شبكة من ركائز القوة، ولا سيما الفضاء والأساطيل البحرية والتكنولوجيا.
روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي نزلت إلى حضيض لم تعهده في تاريخها. كان بوريس يلتسين رمزاً للتراجع الروسي بتأثره بالغرب، بحيث فتح بوابات بلاده ومجتمعه أمام التأثيرات الغربية السطحية التي لا تنتمي إلى عوامل بناء القوة الغربية.
لكن روسيا سرعان ما نجحت بعد رحيل بوريس يلتسين في العودة إلى طريق التقدم والقوة. وكان ذلك بفضل قيادة زعيمها الجديد فلاديمير بوتين. لم يكن متوقعاً من مسؤول استخبارات سابق في الاتحاد السوفييتي أن يكون بهذا القدر من الذكاء، والعزيمة، والتصميم لانتشال بلاده من نادي الدول غير المؤثرة، وهي التي تملك كل عناصر القوى العظمى.
نجح بوتين في توظيف هذه العوامل. وخلال سنوات قليلة عاد بروسيا إلى نادي الأقوياء، ومن ثم إلى نادي الثنائية القطبية التي لم تصل إلى حد التساوي مع القوة الأولى في العالم، لكنها وصلت اليوم إلى مرتبة تكاد توازيها لجهة الدور الذي تلعبه.
إذا جلنا في موقع روسيا من الدول في العالم لوجدنا أنها البلد الوحيد في العالم الذي له علاقات جيدة مع جميع القوى والدول في العالم، ولا سيما في منطقة معقدة ومتشعبة مثل الشرق الأوسط.
بالأمس، حط بوتين في تركيا. وتركيا بلد أطلسي، وعدو تاريخي لروسيا، ونقيض لها في حلف شمال الأطلسي. وبينهما من الحروب والحساسيات ما لم يشهده بلدان من قبل. مع ذلك نجح بوتين في أن ينتقل بالعلاقات مع تركيا في السنوات الأخيرة إلى نموذج للشراكة بين بلدين. ورغم إسقاط تركيا للطائرة الروسية في 24 نوفمبر2015 وتأثيرها في العلاقات الثنائية فإنها سرعان ما عادت إلى سابق عهدها، أو تكاد.
وروسيا هي البلد الوحيد في المحور المؤلف من إيران وسوريا، الذي له علاقات مميزة مع «إسرائيل». ويكاد رئيس وزراء العدو يداوم على زيارة روسيا كل بضعة أسابيع.
ورغم أن هناك خلافات حول العديد من القضايا بين روسيا والسعودية، فإن الاتصالات والزيارات بين مسؤولي البلدين قائمة. لا يوجد بلد من تركيا إلى اليونان وقبرص إلى العراق وسوريا والأردن والخليج و«إسرائيل»، وصولاً إلى أجنحة كثيرة في المعارضة السورية، كما الأكراد السوريين والعراقيين، ليس لروسيا معها اتصالات أو علاقات.
هذا بالطبع يضيف إلى القوة الروسية عوامل تأثير إضافية. لكن أيضاً تواصل روسيا إحراز مكاسب بالنقاط في أكثر من مجال وساحة.
فالاتفاق الروسي – السوري لتواجد جوي عسكري روسي دائم في سوريا كما إنشاء قاعدة بحرية دائمة في طرطوس، فضلاً عن نصب أحدث منظومات الدفاع الجوي الروسي في سوريا حوّل سوريا إلى ساحة ثابتة وقاعدة صلبة للنفوذ الروسي في الشرق الأوسط.
ولم تعد روسيا بهذه الخطوات خارج التواجد في البحر المتوسط أي في المياه الدافئة. حيث كان لها حضور في ليبيا والجزائر. ولكن بعد العديد من التطورات، ولا سيما في ليبيا وسقوط القذافي وخديعة الغرب لروسيا في ليبيا، لم يعد لروسيا أي فرصة للتساهل، وعزمت على أن تمسك بسوريا مهما كلف الأمر.
والعلاقات الروسية مع تركيا تحولت إلى ورقة بيد روسيا ضد أوروبا والولايات المتحدة. ومن أبرز مؤشرات ذلك التوقيع على اتفاقية مد خط أنابيب «السيل التركي» للغاز الطبيعي من روسيا عبر البحر الأسود مباشرة إلى تركيا غربي إسطنبول. وهذا يمكّن روسيا من الاستغناء عن خط الأنابيب المار بأوكرانيا عند الضرورة.
أيضاً، فإن الاستثمارات الروسية في تركيا وإنشاء مفاعل نووي في مرسين سيزيد من ارتباط تركيا بروسيا، وهذا مكسب روسي في مواجهة العقوبات الغربية عليه.
أيضاً، فإن روسيا عرضت تزويد تركيا بمنظومة دفاع صاروخية رغم ارتباط تركيا بحلف شمال الأطلسي.
وما ساعد على تصاعد القوة الروسية هو الاستراتيجية الأمريكية في عدم التورط المباشر لجنودها على الأرض بعد انسحابهم من العراق.
ومن خلال المناظرة الأخيرة بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، لا يبدو إن لدى المرشحين أي خطة قوية لوقف المد الروسي المرشح من حيث المبدأ للمزيد من التمدد والتوسع.

محمد نور الدين

صحيفة الخليج