عشرون عاماً لهدم مستوطنة “عامونا”

عشرون عاماً لهدم مستوطنة “عامونا”

jerusalemgivathamatossettlementisraeljewishmanrtr48nol-639x405

أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قراراً يستوجب من السلطات الإسرائيلية إخلاء بؤرة “عامونا” غير الشرعية بالقرب من مستوطنة “عوفرا” بحلول نهاية عام 2016. وقد يبدو هذا القرار حاسماً وقطعياً، ولكن المحكمة سبق وأن قضت بهدم “عامونا” ثلاث مرات منذ عام 1997. فالمحاولة التي أجريت في عام 2006 لإخراج 35 عائلة من تلك البؤرة الاستيطانية أسفرت عن إصابة أكثر من 200 شخص بجروح جرّاء المواجهات العنيفة التي وقعت بين4,000  محتج وعشرة آلاف عنصر من الشرطة. وبينما واجهت شرطة مكافحة الشغب معارضة بالأسلاك الشائكة والحجارة، عثر المحققون على حامض وبطاطا مدججة بالمسامير على مقربة من موقع الحادثة. وقد هدمت الشرطة تسعة مبانٍ، إلا أن هذا المجتمع نما إلى أربعين عائلة. ومنذ ذلك الحين لم تحاول إسرائيل تنفيذ عملية إخلاء مماثلة، وبذلك أصبحت “عامونا” رمزاً لقوة الحركة الاستيطانية.

لقد رص الناشطون صفوفهم من جديد للاعتراض على إزالة مستوطنة “عامونا”، مما أرغم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على تقديم التماس لتمديد مهلة الهدم ستة أشهر بعد أن رفض المدافعون عن المستوطنين خطة نقل هذه البؤرة الاستيطانية. وهدد حزب “البيت اليهودي” وبعضٌ من أعضاء حزب “الليكود” بإسقاط الحكومة إذا لم يتم سن مشروع قانون يجعل “عامونا” شرعية، وليس إزالتها، مما يترك نتنياهو أمام معضلة. ومرة أخرى، أصبحت قدرة الحكومة الإسرائيلية على تنفيذ قرارات المحاكم موضع شك بشأن مصير أقل من 50 عائلة تعيش في “عامونا”.

وتفضّل الغالبية الساحقة من المستوطنين الحل السياسي، ولكن هناك مجموعة فرعية متطرفة تهدد بارتكاب أعمال عنف في تلك المستوطنة وغيرها. إن إرث العنف بين اليهود يجعل من تلك الأقلية الصغيرة مصدر تهديد بشكل خاص، وحتى زعماء المستوطنين المنتمين إلى التيار السائد استفادوا من هذه المشاعر لتعزيز نفوذهم السياسي. ولهذا السبب بدأت الحكومة تستعد لأعمال العنف اليهودية التي ستوجَّه ضد الفلسطينيين وعناصر الشرطة الإسرائيليين خلال عملية إخلاء “عامونا” المزمعة في شهر كانون الأول/ديسمبر. ولهذا السبب يجب منذ الآن بدء التحضيرات لأي عمليات إخلاء محتملة في المستقبل.

وفي سياق إخلاء “عامونا” أو غيرها من المستوطنات في المستقبل، ثمة ثلاث جماعات سبق لها اللجوء إلى العنف في الماضي ومن الممكن أن تشكل تهديداً عنيفاً في سيناريو الإخلاء. وأولى هذه الجماعات هي مجموعة الشباب المتطرفين المعروفين بـ”شباب التلال” [“فتيان التلال”]، حيث يستطيع هؤلاء المماطلة في الإخلاء عبر تنفيذ ما يعرف بهجمات “بطاقة الثمن” ضد الفلسطينيين أو الشرطة الإسرائيلية. ويشار إلى أن “شباب التلال” هم مجموعة من الشبان والشابات الإسرائيليين المتحدرين عموماً من إسرائيل ذاتها والساخطين على التيار الرئيسي في المجتمع الإسرائيلي. وحيث يبلغ عددهم بضع مئات من [المتطرفين]، يعبّر “فتيان التلال” عن رفضهم للأصول الاجتماعية عبر تطويل شعرهم وارتداء قلنسوة (“كيباه”) فريدة من الصوف السميك وتعاطي المخدرات. ومع أنهم لا يتلقون دعماً من أي مؤسسة رسمية، إلا أن الأمر لا يخلو من بعض الدعم الإيجابي من الحاخامات والشعب ككل، بينما تساندهم شبكة غير محكمة في ترابطها داخل إسرائيل كما أن المعاهد الدينية اليهودية أمثال معهد “عود يوسف حاي” في مستوطنة “يتسهار” غالباً ما تشكل مصدراً للمنضمّين إلى صفوفهم. كما وأن الشخصيات التي تؤثر في “شباب التلال” على غرار الحاخام إسحق غينسبرغ أصبحت مقتنعة بعد الانسحاب من غزة أن الدولة ليست سبيلاً إلى الإصلاح الديني، وباتت اليوم تنادي بالعنف باعتباره “تأكيداً على الذات” وأداةً لإضعاف الدولة.

أما المجموعة الثانية من الأشخاص المحتمل تورّطها في أعمال العنف فتأتي من هوامش مجتمع اليهود المتشديين المتطرفين. فوفقاً لأحد المصادر الحكومية الإسرائيلية، تعيش جماعة “شبابنيكيم” حياةً علمانية منبوذةً من حياة اليهود المتشددين كونها تقوم بالاختلاط بالنساء وارتياد أماكن الترفيه العامة ومشاهدة التلفزيون. وفي حين أن هؤلاء الرجال ينبذون الحياة التقليدية لليهود المتشديين، إلا أن تعليمهم الرديء وغير الديني لم يمنحهم المهارات اللازمة للنجاح في عالم العلمانية. ولذلك أصبح “الشبابنيكيم” كسالى، كما يمارسون الجرائم الصغيرة ويتعاطون المخدرات.

إلا أن بعضهم يذهب إلى أبعد من ذلك، أي إلى حد الانخراط في هجمات إرهابية ضد الفلسطينيين. وأحد الأمثلة على ذلك هو اختطاف محمد أبو خضير وقتله في حادثةٍ ساهمت في إطلاق شرارة “حرب غزة” عام 2014. فقد افتُرض أن جريمة القتل تلك جاءت انتقاماً لمقتل ثلاثة صبيان إسرائيليين على يد جهات فلسطينية، إلا أن أن طبيعتها المرتجلة تشير إلى أنها جريمة متقنة وقعت استغلالاً لفرصة سانحة نجمت عن الملل وليس الأيديولوجيا. ولا شك في وجود كراهية ضد الفلسطينيين في الأساس، لكن خيار اللجوء إلى العنف هو خيار انتهازي. ولذلك من الممكن أن تشكل الانسحابات من المستوطنات حافزاً أمام “الشبابنيكيم” للسعي وراء مثل هذه الفرص.

غير أن مصدر التهديد الأخير ينبع من منظمات “مستولدة” تشبه المنظمات السرية اليهودية. وتتألف هذه المجموعات الصغيرة من رجال يتمتعون بتدريب متقن وسلاح وافر وحافز ضخم ويعيشون في الضفة الغربية وإسرائيل ذاتها. وبوسع هؤلاء رصّ الصفوف لشنّ هجومٍ مدمر على “الحرم الشريف” أو حماية المستوطنات من الفلسطينيين أو معارضة الجهود التي تبذلها الدولة لتقليص عدد المستوطنات. صحيحٌ أنه لا يوجد اليوم أي منظمات سرية، ولكن مثل هذه المنظمات سبق أن انبثقث ردّاً على مبادرة حكومية.

وتستطيع هذه الجماعات الاستفادة من القوة البشرية وموارد قوة الدفاع الذاتي للمستوطنات المؤلفة من2,000  متطوع في جميع أنحاء الضفة الغربية، وهؤلاء مزودين ببنادق آلية وسترات مضادة للرصاص وأجهزة اتصال، علماً بأن الكثيرين منهم يملكون آليات مدرعة وذخائر ويتمتعون بتدريب متقدم على الأسلحة. ومن المستبعد أن يتحول الجنود القدامى – الذين تلقوا تدريبهم وتجهيزهم من الدولة – ضد إسرائيل بشكل جماعي، إلا أنه من الممكن لفرقٍ فردية أن تنشق عنهم أو من الممكن أن تنشق خلايا عن هذه الفرق وتستحوذ على المعدات. كما أن منظمة “لاهافا” اليمينية المتطرفة تقيم مخيمات صيفية للشباب تعلّمهم خلالها الفنون القتالية وكيفية الصمود أمام الاستجواب، وبذلك يمكن أن توفر المجندين لجماعة متشددة أو تصلح نموذجاً تحتذيه تلك الجماعة.

وإذا حدث أن وجّهت أي من هذه الجماعات سلاحها ضد الفلسطينيين أو الإسرائيليين خلال إخلاء إحدى المستوطنات، فسوف تكون لها نتائج كارثية. ذلك أن الاعتداء على الفلسطينيين قد يستحث أعمالاً إرهابية انتقامية تستدعي بدورها تدخل الدولة وتؤدي إلى وقف أعمال الإخلاء. فالأعمال الإرهابية التي ارتكبها الفلسطينيون في تسعينات القرن العشرين خلّفت هذه العواقب على عملية السلام في أوسلو. فضلاً عن ذلك، من شأن العنف بين اليهود – وإن كان محدوداً – أن يشكك في تماسك الحكم في إسرائيل كونه يؤدي إلى تبلور الخلاف بين مناصري الدولة والمتدينين. وفي المقابل، قد يؤدي العنف بين اليهود إلى حشد معارضة شعبية ضد المدافعين عن المستوطنين، مع احتمال أن يُترجم ذلك إلى تأييدٍ لإزالة المستوطنات بشكل أوسع. إلا أن المجتمع الإسرائيلي سيكون في غاية الانقسام خلال عمليات الانسحاب من المستوطنات، الأمر الذي سيحدّ من قدرته على التعاضد في وجه المتطرفين.

وفي الواقع أن العنف الناشئ عن المتطرفين الهامشيين المناصرين للمستوطنين يثير خوف السياسيين الإسرائيليين بكافة أطيافهم. فالإسرائيليون الملمّون بالتاريخ يخشون أن يتسبب القتال بإضعاف إسرائيل وتدميرها تماماً كما حدث في الحروب الأهلية القديمة التي فتحت المجال أمام الغزو الروماني لفلسطين وإنهاء السيادة اليهودية عليها حتى عام 1948. كما أن كل مواجهة عنيفة ضخمة طوال تاريخ إسرائيل بين الدولة والمعارضين من اليمين المتطرف – أي حادثة “عامونا” عام 2006، والانسحاب من قطاع غزة عام 2005، وحادثة “التلينا” عام 1949 – أثارت شبح الحرب بين الأشقاء داخل المجتمع اليهودي.

وهذه هي المخاوف التي يستغلها المدافعون عن المستوطنين. فنواة النفوذ السياسي لدى التيار الرئيسي من المستوطنين تكمن في اختيارهم التصويت للسياسيين المستعدين لتقديم الدعم الاقتصادي للمشروع الاستيطاني في الضفة الغربية وتأمين الحراسة العسكرية له ومدّه بالبنى التحتية اللازمة. وعندما تفكّر الحكومة في إزالة مستوطنة أو بؤرة استيطانية، عمد المتطرفون المؤيدون للمستوطنين إلى التلويح بخطر العنف بين اليهود من أجل تعزيز نفوذهم السياسي. فقبل تجميد الحركة الاستيطانية عام 2009، هدد أيضاً زعماء المستوطنات العاديين في “مجلس ييشع [أي يهودا وشومرون أو الضفة الغربية]” بالرد بحوادث مشابهة لحادثة “عامونا” ولكن أكثر عنفاً من حوادث “غزة” البشعة، في حين أن الحاخام الأكبر في “كريات أربع” الذي يحظى باحترام واسع قال لأتباعه إنه “إذا استخدموا القوة ضدنا فعلينا استخدام القوة ضدهم”. ولذلك تتضخم مخاوف الإسرائيليين المعتدلين بسبب زعماء المستوطنين الذين يهددون باندلاع صراع طاحن ويمنحون أقلية عنيفة نفوذاً حقيقياً في المناقشات التي تدور حول عمليات الإخلاء، حتى وإن لم تتم مناقشتها بشكل واضح.

وبالنسبة لبعض قادة المستوطنين، فإن إزالة البؤر الاستيطانية، حتى الصغيرة منها، تشكل فرصة لإرساء سابقة وتلقين الحكومة درساً عن التكاليف السياسية الباهظة وربما أيضاً التكاليف المادية لعملية الإخلاء المقبلة. وهناك أيضاً دوافع سياسية خاصة بزعماء المستوطنين لمعارضة أعمال الهدم، فهم يخاطرون بفقدان مصداقيتهم أمام المتشددين إذا أما تحدثوا بلغة التهدئة. بالإضافة إلى ذلك، قد يعتقدون أن معارضة إزالة البؤر الاستيطانية توفر الخيار الأفضل لتفادي تفكك الحركة الاستيطانية. وعلى كل حال، فإن الإرهاب اليهودي، على غرار الشبكة السرية اليهودية و”شباب التلال”، قد نشأ في النهاية بعد توقيع معاهدة السلام مع مصر والانسحاب من غزة.

ونادراً ما يدين زعماء التيار الرئيسي من المستوطنين أعمال العنف، ولكن معارضتهم لانسحابات الدولة [من المستوطنات] تساعد على تمكين المتشددين. وهناك أغلبية كبيرة من المستوطنين وزعمائهم يتبعون الدين للدولة ويعتبرونها وسيلة للخلاص ويخشون العنف بين اليهود. كما أنهم يدركون أن تأييد العنف قد يهدد الدعم السياسي وسخاء الحكومة اللذين يعتمدان عليهما. ومع ذلك، لا يزال الزعماء على المستويين العام والخاص يستنكرون عمليات الإخلاء ويقيمون احتجاجات ضخمة ويدعون أحياناً إلى العنف. وهذا ما يمنح المتطرفين من أنصار العنف غطاءً سياسياً كونه يجعل العنف يبدو مقبولاً.

وفي حين من المستبعد أن يُعرب زعماء المستوطنين المنتمين إلى التيار السائد عن دعمهم لأعمال العنف في “عامونا” ضد حكومة يمينية متطرفة، إلا أنه من الممكن أن ن تبقى مؤسسات الدفاع الإسرائيلية قادرة على اتخاذ الخطوات اللازمة لتقييد الجماعات الراديكالية في “عامونا” وعمليات الإخلاء في المستقبل، من بينها تلك التي تصاحب تطبيق حل الدولتين. أولاً، بإمكان إسرائيل أن تدرس عمليات الانسحاب السابقة لصياغة الخطط، حيث أن تحديد عدد الجنود المطلوب وتقييم التهديدات المحتملة هما خطوتان تقللان من احتمال وقوع العنف. إن المسألة التي لها أهمية خاصة في هذا الشأن هي الحد من قدرة المتظاهرين غير المقيمين على دخول المواقع المزمع إخلاؤها، وإبقاء هؤلاء المحتجين بعيداً عن مواقع أخرى بعد أن تم إخلاءها سابقاً.

ثانياً، بإمكان المسؤولين الإسرائيليين توسيع نطاق تواصلهم مع مجتمعات المستوطنين. وقد سبق للمحادثات مع قادة اليمين المتطرف أن نجحت في استنباط إدانات لعمليات شملت اغتيال رئيس الوزراء أو مسؤولين، وهذا من شأنه الحد من العنف المتطرف. كما أن رفع مستوى الثقة قد يساعد المدّعين العامين على جمع الأدلة والشهود عند محاكمة الإرهابيين اليهود. إن نسبة الإدانة الحالية البالغة 7,4 في المائة تخلق ثقافة الإفلات من العقاب وبالتالي تُضعف قدرة القوات الإسرائيلية على ردع العنف خلال أعمال الإخلاء. بالإضافة إلى ذلك، من شأن إعادة دمج “شباب التلال” و”الشبابنيكيم” في المجتمع عن طريق الخدمة العسكرية أو الخدمات الاجتماعية أن تساهم أيضاً في تجفيف نبع المتشددين المحتملين.

وأخيراً، بإمكان الحكومة الإسرائيلية التفكير في استراتيجيات لجعل أي انسحابٍ يتمتع بأكبر قدر ممكن من الشرعية ويبدو منصفاً قدر الإمكان. ويشار هنا إلى أن الحكومة المنبثقة عن استفتاء وطني أو عن وحدة وطنية قادرة على إظهار دعم المجتمع لها أكثر من قرار تنفيذي أو غالبية برلمانية بسيطة. كما أن تحضير حزمة من التعويضات والخطط لإدارة المستوطنات من شأنه التخفيف من مخاوف الانتقال. وكذلك يستطيع صانعو السياسات تعبئة الداعمين للانسحاب إلى صفّهم تفادياً لخروجهم من النقاش الشعبي. فإذا رأى اليمينيون أن الانسحاب يحظى بدعم شعبي كبير، ستعلو أصوات المستوطنين المعتدلين غير العنيفين وسيزيد احتمال توحيد الجمهور ضد المتطرفين بفعل خطر العنف بين اليهود كما وستنشأ حالة من المرونة في أعقاب الهجمات الإرهابية الفلسطينية.

إن المخاوف السياسية قد تدفع الائتلاف اليميني في إسرائيل إلى تفادي المواجهة بشأن “عامونا”، فيحرم بذلك المتطرفين من فرصة رمزية لممارسة العنف. إلا أن الرضوخ لنفوذ المستوطنين وأسلحة المتطرفين قد يثير مزيداً من الشكوك في قدرة إسرائيل على تنفيذ عمليات الانسحاب في الوقت الحالي وفي إطار اتفاق لحل الدولتين.

 ميتشل هوخبرغ

 معهد واشنطن