ما بعد “داعش”.. الارهاب الصامت

ما بعد “داعش”.. الارهاب الصامت

داعش

هدى النعيمي*

افضى تمدد “داعش” في منطقة شرق المتوسط وتحديدا بين العراق وسوريا، واحتمال انتشار تهديداته إلى خارج الاقليم، الى اصدار القرار 2170 ، تحت الفصل السابع قائلاً: ادان فيه مجلس الأمن الدولي “بأشد العبارات الهجمات الإرهابية التي يشنها تنظيم “دولة العراق والشام” (داعش وجبهة النصرة في كل من العراق وسوريا) محذراً من خطر “الايديولوجيا المتطرفة التي يتبنيانها على المنطقة”.

ولا شك ان الحرب على (داعش) وأخواتها، ضرورة قصوى، ينبغي أن تتوحد الجهود والإرادات لمواجهتها،وليس بخاف على احد مدى خطورتها ودموية ممارساتها، التي تعكس ملمحاً بربرياً سيئاً، لا يمت للقيم الإسلامية الحقيقية بصلة. الا ان القرار الاممي اغفل الكثير من التنظيمات الإرهابية القائمة في المنطقة، واعتمد على محاربة تنظيمات محدّدة بعينها، بما يخدم مشاريع سياسية لصالح دول في المنطقة وخارجها، فالميليشيات الإرهابية في العراق وسوريا ولبنان، لا تقل عن (داعش) إجراماً بحق الإنسانية، كما تجاوز القرار إرهاب الدولة الذي يمارسه نظام الأسد منذ ثلاث سنوات ونصف، كما سبق وأن تجاوز إرهاب الكيان الإسرائيلي.

وبمقدورنا ان نفسر هذه الازدواجية الاممية بانها من باب الارهاب الصامت، الذي تمكن من الاستقواء بدولة اقليمية، ليسبغ شرعية ما على حركته، لتنشط مجموعات ارهابية دون ان تخشى من المحاسبة الدولية.ونسوق هنا الوصف الدقيق لصحيفة “الغارديان” البريطانية الذي جاء في تقريرها المطول المنشور بتاريخ 25/8/2014 عن الجرائم الميليشياوية في محافظة ديالى، بأنها ليست أقل سوءاً من أفعال ما يعرف بتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”، مقارناً تشابه الافعال والممارسات لـ(داعش) واخواتها، بما يقابلها من ميليشيات شيعية.

ومع أن قرار مكافحة الارهاب هذا، قد يكون منطقياً إلا أنه لم يأخذ بعين الاعتبار عدداً من الحقائق منها: إنّ الفوضى التي تعيشها المنطقة وتحديدا في العراق وسوريا ناجمة في احد جوانبها عن تدخلات ايران وهيمنتها على معادلات السياسة العراقية، ودعمها لنظام بشار الاسد، وانخراطها في المشهدين العراقي والسوري، ما ادى إلى تعزيز المناخ الطائفي، لتشهد المنطقة حرباً طائفية آخذة بالتصاعد.

ومن زاوية المصالح، فمن الواضح ان شعوب المنطقة هي الاكثر تضرراً من عمليات التنظيمات الإرهابية، فيما افادت إيران وحلفاؤها، من تلك التنظيمات في تعزيز مكانتها الاقليمية والدولية من جهة، وأكسبتها شرعية دولية في محيط كاد أن يلفظها. وتبدو ايران اليوم حليفاً في جبهة مكافحة الارهاب العالمية، من خلال توظيف ارهاب (داعش) لمصلحتها، بل ان مقاربة تحليلية تقول: ان هذا الفصيل الارهابي انما هو صناعة ايرانية- علوية، تدلل عليها المخرجات التي انتهت اليها الاحداث بعد العاشر من حزيران/ يونيو الماضي، إذ ان انطلاق الحراك العسكري في المحافظات السنية، قد اوجد تراجعاً في النفوذ الايراني، اثر سلسلة الهزائم التي مني بها الجيش الحكومي، لتصبح اكثر من ثلث البلاد خارج اطار السلطة في بغداد.

ومن هنا فان ثمة استدارة تحققت لجهة تحقيق تحالف امريكي-ايراني بخصوص التصدي للإرهاب، وبذلك وفرت (داعش) الذريعة المناسبة لتدخل الحرس الثوري الايراني في العراق، وقبلها في سوريا، ليكون النظام الايراني شريكاً في الحرب على القتلة الذين يجزون أعناق الخصوم بالسكاكين. ولان (داعش) افاد ايضاً في تجييش الطوائف، وفي تخريب الثورات التي بدأت سلمية،ليكون الاستبداد خياراً امثل في حال التخيير بينه وبين الارهاب.

بينما تقف نظرية مؤامرة اخرى تتهم السعوديّة والولايات المتحدة وقطر وتركيا، بتمويل “داعش” وتسليحها، افشالاً للمشروع “المقاوم” الذي تنهض به ايران، وتخريب للنظام “الديمقراطي” الناشئ في العراق، غافلة عن الاستبداد والعنف الوحشي الذي عرفه العراقيون في ظل حكم المالكي الطائفي، وتعكس هذه الرؤى صدعاً اخر بين قوى ودول اقليمية تتنافس في صراع جيواستراتيجي بالمنطقة، على السيادة في الخليج العربي وبلاد الشام، والتي تحولت في بعض مواجهاتها الى جزءٍ من النزاع السنّي- الشيعي في الإقليم.

ولهذا لم تعد الميليشيات الطائفية متسترة بغطاء الجيش والشرطة، كما كانت تفعل سابقاً، بل بات وجودها واضحاً، فهي تستخدم آليات الحكومة ومواردها ومقراتها. وبعضها يتحرك تحت قيادة مطلوبين للعدالة مثل واثق البطاط زعيم “حزب الله” المطلوب من قبل القضاء المحلي والانتربول بتهمة قصف أراضٍ سعودية العام الماضي، والقيادي بجيش المهدي أبو درع المطلوب اميركياً وعراقياً بتهمة ارتكاب جرائم طائفية في العام 2006. وتشير معلومات إلى اعتماد شبه كامل من الدولة عليها في الخطوط الأمامية للقوات المواجهة لمسلحي (داعش) بمحافظات صلاح الدين (شمال) وديالى (شرق) وحتى في بغداد.

ومما لاشك فيه ان غياب رؤية استراتيجية امريكية عن كيفية التعاطي مع العراق، سمح لقاسم سليماني، قائد قوة القدس استغلال الفرصة للتغلغل فيه، وتكييف سياساته حسب الهوى الايراني،بحيث ادار الصراع في انفراد شبه تام، في ظل محدودية الدور الامريكي، الذي عانى ضعفا وتخبطا في ادارة المشهد العراقي.

ومنذ 10/6/2014، صار الاعتماد جلياً على الأذرع الطائفية المسلحة، فضلاً عن “الحشد الشعبي”، وما يحدث اليوم يعد لحظة مثالية وفرصة مواتية لن تفرط بها ايران، حيث الاحتقان الطائفي بلغ اقصاه، لدفع المتطوعين الشيعة للانخراط في هذه القوات شبه النظامية، دفاعاَ عن المذهب، ولإعادة الأمور الى نصابها بعد ان خرجت نطاق السيطرة الإيرانية في بغداد.

ونستدل على التدخل العسكري الإيراني في العراق تحديداً بما اعلنت عنه وكالة الانباء الرسمية الايرانية “ايرنا” في 5 تموز/يوليو 2014 عن مقتل أول طيار إيراني برتبة عقيد من منتسبي الحرس الثوري، وكان شارك في المعارك الدائرة في العراق بين القوات الحكومية والمقاتلين في المحافظات المنتفضة. وفي السياق ذاته اعترفت وسائل اعلام إيرانية  آخر بمقتل عقيد من قوات النخبة التابعة للحرس الثوري، إذ قالت عنه إنه قتل خلال المعارك في مدينة سامراء، دفاعاً عن المقدسات الشيعية.

ولقد نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في تقرير نشرته في 26/6/2014 عن مسؤولين أمريكيين قولهم إن إيران أرسلت طائرات الاستطلاع دون طيار فوق العراق من مطار في بغداد، كما تزود العراق سراً بأطنان من المعدات العسكرية والإمدادات وغيرها من المساعدات، علاوة على نشرها وحدة للاستخبارات لأغراض الاتصالات وجمع المعلومات، وتم توزيع تقريباً عشرة ضباط من فيلق القدس لتقديم المشورة للقادة الميدانيين.

ووفقاً لمصادر مخابراتية فان فك الحصار عن مدينة آمرلي قام به 1500 عنصر من الحرس الثوري الايراني من قوات (قرار كاي رمضان) قرب منطقة قادركرم، التي تقع في قضاء طوزخرماتوبشمال شرقي العراق وتتبع محافظة صلاح الدين، مدعومة بـ 4000 من قوات “الحشد الشعبي” الميلشياوية، اللافت ان هناك حالة من التنسيق بين الادارة الامريكية وايران، حول كيفية احباط الهجوم الحالي، واستعادة المدن التي سقطت في يد “التحالف السني بقيادة داعش” على حد وصفهم، وهو اعتراف امريكي واضح بإيران قوة اقليمية عظمى وشريكاً استراتيجياً في المنطقة.وهو تنسيق لن يتوقف عند الحدود العراقية بل سيتمدد الى سوريا وربما الى مناطق اخرى.

في خطوة اخرى ذات دلالة، فان مشاركة طائرات “الدونز” الامريكية قوات الحرس الثوري التي قامت بفك حصار آمرلي، في القاء مساعدات انسانية، يعد متغيراً حاكماً في مسار العلاقات الامريكية –الايرانية. ومزيد من شيطنة السنّة، وما يروج عن دعمهم لـ(داعش) الارهابية، سيكون رصيداً مضافاً لجهة تعزيز الرؤية الغربية حيال ايران كدولة ذرائعية، تعتمد الواقعية السياسية في مقارباتها المتعددة.

إذ اوضح الناطق باسم البنتاغون، جون كيربي، ان أهداف الغزو الاميركي المتجدّد هو ان “القوات العسكرية الاميركية ستمضي في مهامها بالمواجهة المباشرة ضدّ (داعش) اينما نجده يهدّد قواتنا ومنشآتنا.” وبعبارة اخرى، جاء تطبيق “سياسة الحرب الكونية على الارهاب” في مصلحة ايران التي عززت من مكانتها كقوة اقليمية متنفذة، تكسب جولاتها المتعددة، وتفرض على دول الاقليم والعالم، القبول بخياراتها، فهي تملك مشروعاً وتتحرك بخطوات ثابتة ومدروسة في الوصول الى غاياتها.

ومن جهة اخرى فان التخلخل الذي اصاب علاقات ايران بإقليم كردستان، جرى سد ثغراته مع تهديدات (داعش) للإقليم، لتجد الولايات المتحدة نفسها الآن على نفس الجانب مع إيران حلقة الوصل بينهما، امن الكرد والحفاظ على منجزاتهم، لتكون الأسلحة الأميركية والإيرانية جنبًا إلى جنب في أيدي مقاتلي البشمركة،فالتحالفات الإقليمية اليوم تشهد تغييراً واضحاً، بعد ان اوجدت ( داعش)، واقعاً جديداً في الشرق الأوسط.

ويبقى امر مهم اخر لابد من وضعه في الاعتبار هو ان مكافحة الارهاب، لن يكتب لها النجاح مالم تكن في سياق بيئة غير منحازة تتصدى لكل التنظيمات المتطرفة على اختلاف تلاوينها وانتماءاتها، وان عدم ادراج الميليشيات الطائفية بانها جماعات ارهابية، سيرفع من حدة الكراهية حيال الولايات المتحدة والغرب في المنطقة، التي ما زالت قاسماً مشتركاً بين معظم الشعوب الاسلامية.