معارك بغداد السياسية بعد معركة الموصل

معارك بغداد السياسية بعد معركة الموصل

.

يركز الجميع في العراق الآن -محقين- على المعركة الجارية لطرد تنظيم “داعش” من مدينة الموصل العراقية، بينما يستمر العديد من المحللين في التركيز على التوترات الطائفية بين الشيعة والسنة، وبين الشيعة والأكراد في عراق ما بعد “داعش”. وفي الأثناء، تتخمر في بغداد معركة أخرى، معركة شيعية- شيعية، والتي تشكل تهديداً وجودياً للدولة العراقية. ففي الفترة الأخيرة، أقام البرلمان العراقي قضايا ضد الفساد، وأدان كلا من وزير الدفاع خالد العبيدي بالتقصير (عربي سني)، ووزير المالية هوشيار زيباري (كردي). وبينما كان الوزيران متواطئين في نوع ما من الفساد، قالت وزيرة البرلمان، حنان فتلاوي: “لقد اقتطع كل واحد قطعة من الكعكة وأصبح مسروراً… لقد استفدنا كلنا”. والسؤال هو: لماذا الآن، ولماذا هؤلاء؟
الجواب المتفائل هو أن إجراءات مكافحة الفساد هذه تشكل ملحقاً ضرورياً للمعركة العسكرية ضد “داعش”. ويقول المنطق: إن الحل العسكري ضد “داعش” ليس كافياً. ومن أجل إلحاق هزيمة كاملة بالمجموعة الإرهابية، يحتاج البلد إلى كسب العراقيين المحرومين مجدداً عبر إقناعهم بأن الحكومة المركزية تمثيلية وخاضعة للمساءلة. وهذا صحيح بشكل خاص بالنسبة للمواطنين الذين ربما تبنوا، أو كانوا متعاطفين مع هياكل حكم بديلة مثل “داعش”.
حسب هذه الرؤية، فإن الإجراءات البرلمانية الحالية تظهر القوة المتنامية للدولة العراقية. فمن خلال مساءلة القادة والتحرك ضد الفساد –وهو مصدر معاناة طويلة الأمد عصفت بالشارع العراقي- نرى أن مؤسسات الدولة أخذت بالتحرك للمرة الأولى ضد الشخصيات التي ما تزال مهيمنة منذ العام 2003.
الضغط على الدولة
ولكن، تحت السطح، ثمة حقيقة بديلة تلوح في الأفق. إن الدولة، بقيادة رئيس الوزراء حيدر العبادي، هي ضعيفة في الحقيقة. وبينما يواجه العراق أزمة أمنية (داعش) واقتصادية (الديون)، لم يعد في الدولة وزراء داخلية ودفاع ومالية –وهي الوزارات الثلاث الأكثر أهمية والمناصب ذات الصلة فيما يتعلق بأزمات العراق الراهنة.
تبقى الدولة ضعيفة لأن هناك قوتين شيعيتين قويتين ومتنافستين تضعان العبادي عالقاً بينهما. وبما أن النخبة الشيعية تحكم بغداد راهناً، فإن صراعها الداخلي يشكل أكبر تهديد تواجهه الدولة. وبالنسبة للعديد من صناع السياسة، يكمن العديد من الإجابات المتعلقة بمستقبل السياسة في عراق ما بعد “داعش” في فهم ديناميات هذا المثلث للسلطة، بين القوتين الشيعيتين والدولة نفسها.
القوة الشيعية الأولى هي حركة من الأعلى إلى الأسفل بقيادة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الذي فقد منصبه في العام 2014، لكنه ما يزال يتمتع بالنفوذ. وهو يعمل بنشاط في اتجاه نزع الثقة في إدارة العبادي، على الرغم من أنه ينتسب إلى نفس الحزب السياسي (الدعوة) الذي ينتسب إليه العبادي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المجموعة تضم شخصيات رفيعة من قوة الحشد الشعبي، بمن فيهم هادي العامري ومن منظمة بدر، وقيس الخزعلي وعصائب الحق، وكذلك أبو مهدي، المهندس الذي قاد في السابق كتائب حزب الله -من بين آخرين. وقد رفع القتال ضد “داعش” منزلة هؤلاء القادة الذين استغلوا فتوى آية الله العظمى علي السيستاني مبهمة الصياغة، لتجنيد آلاف المقاتلين الذين انبروا للدفاع عن بغداد. ويبقى هؤلاء أثرياء للغاية ومسلحين جيداً، وهم يدينون بالجزء الضخم من ذلك إلى الدعم الذي يتلقونه من إيران. وهم رابضون في مواقعهم في الخطوط الأمامية، حيث يقاتلون ضد “داعش” بدعم من الدولة.
أما هدف هذا الائتلاف، فهو الظهور مجددا في نهاية المطاف في المشهد السياسي لما بعد “داعش” في الانتخابات المناطقية المقبلة (2017)، والبرلمانية (2018). وقد أصبح هذا واضحا عندما حاول المالكي تشكيل كتلة انتخابية لقوات الحشد الشعبي من أجل المنافسة في الانتخابات المقبلة. وفي الأثناء، ستستمر المجموعة في استخدام حلفاء برلمانيين مثل هيثم الجبوري، الذي يترأس لجنة فساد، لاستهداف المعارضين المحتملين، بما في ذلك الحزب الديمقراطي الكردستاني (أي زيباري)، وقادة سنة كبار بارزين (أي العبيدي) وكذلك الصدريين. وسوف تسعى هذه المجموعة إلى نزع الصدقية عن إدارة العبادي، وربما تجلب رئيس الوزراء نفسه للاستجواب.
القوة الشيعية الثانية هي حركة ما تزال تحتج ضد حكومة العبادي منذ أكثر من عام. وفي الفترة الأخيرة، برز رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر كزعيم لهذه الحركة. ويدعو الصدر إلى إزاحة النخبة القديمة (مثل وزراء المجلس الوزاري لدى العبادي) واستبدالهم بمجلس وزاري من التكنوقراط. وقد تجلى مدى نفوذ الصدر في شهر نيسان (أبريل) الماضي عندما ألهم الآلاف بمداهمة المنطقة الخضراء والبرلمان. وقد أجبر نفوذ المجموعة العبادي على محاولة إجراء تعديل في المجلس الوزاري ثلاث مرات في نيسان (أبريل). ولسوء الطالع، فشل العبادي في كل مرة بسبب نفوذ مجموعة الحشد الشعبي. ومع ذلك، استطاع العبادي بالتدريج تعيين شخصيات من التكنوقراط في ست وزارات. ووفق أحد القادة الصدريين، فإن لدى هذه الحركة الشعبوية أذرع وأموال أقل مما لدى الحشد الشعبي، فيما يعود في الجزء الأكبر منه إلى كونها منتقدة للنفوذ الإيراني في العراق. لكنها تتوافر على قوة في وفرة الأعداد وفي القدرة على تجنيد الملايين، مما يجعل منها تهديداً كبيراً لإدارة العبادي.
تتنافس كلا هاتين القوتين –من غير الدول- ضد بعضهما البعض من أجل الفوز بقصب السبق في السيطرة على الشيعة العراقيين (وبالتالي على السياسة العراقية). وتعود هذه العداوة وراء إلى العام 2008، عندما ألحق رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الهزيمة بجيش المهدي التابع للصدر في عملية “صولة الفرسان”. وفي وقت لاحق، حاول الصدر -لكنه فشل في نهاية المطاف- إزاحة المالكي عن رئاسة الوزراء في العام 2012 من خلال التصويت على الثقة في حكومته في البرلمان.
الاستيلاء على الدولة
في حين يختلف هذان الفصيلان المتنافسان بعدة طرق، فإنهما يشتركان في أهداف متشابهة بالنسبة لعراق ما بعد “داعش”؛ فهما يريدان الاستحواذ على مؤسسات الدولة وتقوية الدولة بمجرد الصعود إلى سدة السلطة. وسوف تكون الخطوة التالية لكلتا المجموعتين هي خوض غمار الانتخابات المناطقية والبرلمانية المقبلة.
يحسب المالكي أن المفتاح لتحقيق النصر في هذه الانتخابات سيكون تشكيل كتلة انتخابية من مختلف فصائل الحشد الشعبي، وهو الأمر الذي يراه معظم العراقيين الشيعة قوة لا تقبل المساس بها، على عكس أي شخصية سياسية أو دينية -ففي العراق، يعتبر انتقاد قوات الحشد الشعبي واحداً من المحظورات بسبب التضحيات التي يقدمها شهداؤها في القتال ضد “داعش”. وإذا لم يتمكن المالكي من عمل ذلك، فمن المرجح أن يلجأ إلى حلفاء شيعة آخرين مثل عمار الحكيم الذي ترقى مؤخراً إلى منصب رئيس التحالف الوطني العراقي.
حتى لو لم ينتهي المطاف بمجموعة المالكي إلى سدة السلطة، فسوف تستمر في العمل خارج إطار الدولة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، من أجل تشكيل هياكل سياسية موازية للضغط على الحكومة ومن أجل إضعاف المنافسين على حد سواء. وعلى سبيل المثال، يريد العديد من قادة قوات الحشد الشعبي مأسسة قواتهم شبه العسكرية في إطار أقسام دائمة تتمتع بشبه حكم ذاتي من الدولة العراقية -حتى أن البعض، بمن فيهم المالكي، دعو إلى تأسيس مؤسسة مشابهة لمؤسسة الحرس الثوري الإيراني. وعلى أي حال، سوف تحاول هذه المجموعة إسكات الحركة الصدرية بمساعدة من الحليف القوي: إيران. ومن المرجح أن تستمر المجموعة في استخدام نفوذها في البرلمان لاستهداف المعارضين، في ضوء الشائعات الراهنة التي تقول إن رئيس الوزراء العراقي الأسبق، إبراهيم الجعفري –وهو شيعي معارض للمالكي- سيكون التالي على قائمة الإبعاد.
على العكس من ذلك، سوف يعمل الصدريون من أجل ضمان أن لا يحوز المالكي وحلفاء قوات الحشد الشعبي على مواقع مؤسسية. وكان الصدر نفسه قد أصدر مؤخراً مرسوماً يحذر فيه من انضمام قوات الحشد الشعبي إلى العملية السياسية. وهو يريد بدلاً من ذلك، إما أن يقوم قادة قوات الحشد الشعبي المتحالفين مع المالكي بإتباع أنفسهم للدولة، أو مواجهة الطرد من العراق.
في الواجهة: السياسات الداخل-شيعية في بغداد
في هذه اللحظة على الأقل، يجد العباد نفسه عالقاً بين هاتين القوتين اللتين تسعيان إلى الاحتفاظ بالسطوة على الدولة. وقد تركت القوتان رئيس الوزراء غير قادر على المحافظة على مجلس وزاري عامل في هذه الأوقات العصيبة.
ومع ذلك، تبقى هاتان القوتان -من غير الدول- غير قابلتين للمساس بهما. ومن غير المرجح على سبيل المثال طرح المزيد من استجوابات الفساد ضد المالكي، الذي يشاع أنه أخذ مليارات الدولارات من الدولة، وليس مجرد ملايين مثل زيباري أو العبيدي. كما يبقىا الصدر أيضاً فوق حكم القانون: فعندما نظم اعتصاماً في المنطقة الخضراء، قبل الضابط الذي كان مسؤولاً عن الأمن في المنطقة الخضراء يده بدلاً من توبيخه على تجاوزاته.
في عراق ما بعد “داعش”، وخاصة في أعقاب العمليتين الانتخابيتين الكبيرتين التاليتين في العامين 2017 و2018، سوف يتحول الانتباه إلى الصراع السياسي الداخلي في بغداد. وسوف تكون لهذا الصراع الداخل-شيعي على السلطة تداعيات رئيسية على عملية تشكيل الحكومة في العام 2018 وعلى مستقبل بناء الدولة في العراق. وسيواجه العبادي صعوبات خطيرة في تأمين رئاسته للوزارة في وجه هذه القوى الأقوى منه.
سوف تكون عملية تشكيل الحكومة هذه جزءً رئيسياً من انتصار سياسي تمس الحاجة إليه من أجل استكمال النصر العسكري على “داعش”. وسوف يترتب على بغداد متابعة عملية سياسية تصل إلى –وتضمن- التمثيل لكل المجتمعات العراقية. وبغير ذلك، وإذا ما استمرت الدولة في الفشل، فإن مجموعات مثل “داعش” أو “القاعدة في العراق” سوف تستمر في الظهور مجدداً. ويجب على صناع السياسة الغربيين أن يفهموا طبيعة الصراع العراقي الداخلي من أجل الاستحواذ على السلطة لضمان عدم عودة “داعش” الذي يعول على فشل الدولة مجدداً في شكل آخر بعد أعوام قليلة على الطريق.

رينارد منصور

صحيفة الغد