الموصل.. بين الناب والمخلب

الموصل.. بين الناب والمخلب

tigris_river_mosul

بين مآتم الفرح واحتفالات الحزن، يراوح الكائن العربي مرتبكاً، يتساءل على أي شاطئ من شواطئ المشاعر يرسو، مع قرب “تحرير” الموصل، أو قرب “احتلالها”، وهل عليه أن يبتهج أو يبتئس لحال مدينةٍ تستجير من “الرمضاء بالنار”، بعد أن امتزجت صورتا “البطل” و”الخصم” لتصبحا وجهين لرايةٍ سوداء واحدة.
في الخريف العربي الذي قلب وجه المجنّ لربيعٍ لم يختلف عنه إلا بالاسم، تتساقط المدن، واحدة تلو أخرى، مرّة بيد “داعش الخصم”، وأخرى بيد “داعش النظام”، ليصبح التحرير رديفاً للاحتلال، والاحتلالُ قريناً للتحرير، ولا فرق بين السلاحين، الأبيض والأسود، ما دام القتيل واحداً، وأعني به تلك الحرية التي تجرأ الإنسان العربي على طلبها، فأطبقت عليه السماء والأرض، الأنظمة والمعارضة، وأحلاف “الناتو” وفلول “وارسو”، وما بينهما من دولٍ رهنت دوام حرياتها بوأد الحرية العربية وحدها.
أتُرانا أخطأنا، حين خرجنا إلى الميادين، يوماً، طلباً للحرية؟ هناك من يحاول إقناعنا بذلك، لا بالحوار طبعاً، بل بالرصاص والقنابل والبراميل، والفوسفور المشتعل. وهناك من يودّ أن يقول لنا إن “داعش” هي الثمرة الوحيدة التي أنتجها ربيعنا الذي تغنّينا به، وأسقطنا أنظمةً لأجله، ويريد منا أن نعتذر عن حريتنا، لقاء تطهيرنا من ذنوبنا التي اقترفناها بحق أنظمةٍ لم نكن نستحقها.
هناك من يستميت لإقناعنا بأننا اقترفنا أضخم إثم تاريخي في حياتنا، حين قرّرنا ذات “مراهقة”، أن ننادي بسقوط أنظمةٍ وأقنعةٍ، وعلينا أن ندفع الثمن من جلودنا ولحوم أطفالنا، ومن جثثهم الطافية على أسطح البحار، ويودّ أن يسقطَ في روعنا أن الوطن لم يعد يتّسع لنا، أما البقاء فللأنظمة وحدها.
سيّان إن أقمنا مآتم الندب أو صالات الفرح، حزناً أو ابتهاجاً على سقوط الموصل أو تحريرها. وسيّان لو بكينا فرحاً، أو ضحكنا حزناً، لأن الموصل تختصر فصلين في فصلٍ عربي واحد، لا يسبق أحدهما الآخر، بل يتزامنان معاً، في دورةٍ لم تشأ لها المواسم أن تكتمل، ولأنها مثالٌ دمويٌّ بسيطٌ على شوط الحرية العربي، ذي النهايات المتحرّكة.
لا وصل يوصلنا إلى “الموصل” التي توشك أن تتحرّر من احتلالٍ لتسقط في آخر، فتستبدل الناب بالمخلب، والسكّين بالبلطة، حيث لا فرق بين حشدٍ داعشي، وحشدٍ شعبي، ما دام الطرفان يحتفلان بأعراس الدم، وابتكار أبشع أساليب الموت، وما دامت “الطائفة” هي الشعار والراية.
وعلى غرار الموصل، تنتظر الرقة السورية دور سقوطها الخريفي، أيضاً، وحلب أيضاً، وهو المصير ذاته الذي تنتظره كل المدن العربية التي جازفت بالخروج على أنظمتها، فوجدت نفسها أسيرة أنظمة صغرى أشدّ استبداداً، يتمثل معظمها بمليشيات تشكلت على عجل، غايتها السلب والنهب والترويع، ليضيع بينها الثوار الحقيقيون، ويختلط المقاتل باللص، والثائر بالمقامر، كاختلاط الفصول العربية ذاتها.
على أننا لن نحتفل ولن نبتئس لسقوط (أو تحرير) الموصل وسواها، لأننا أدركنا الدوامة التي يُراد زجّنا فيها لتبرئة الأنظمة العربية، وإظهارها بمظهر “المنقذ”، ولن نعود إلى حظائرها كمذنبين يطلبون الغفران، لأننا نعلم جيداً أنها دوامةٌ مصطنعة، أبطالها “داعشان”، وكلاهما من صنع الأنظمة نفسها، حتى وإن خرج الولد عن طاعة أبيه، بعد أن اشتدّت بلطته، واحتدّت سكّينه، بل سنواصل احتشادنا في الميادين، منادين بسقوط الطرفين معاً، ولن نعتذر عن حريةٍ دفعنا في سبيلها نصف شوط من الدماء والقتل والتهجير والإبادة، ونصف شعبٍ من شعوبنا يهيم على وجهه في موانئ العالم ومنافيه، وأعني به الشعب السوري، ومثله من العراقيين والمصريين والليبيين، لأننا وحدنا سنكون أسياد فصولنا، ولن نقبل أن نظلّ لقمةً سائغةً بين الناب والمخلب.

باسل طلوزي

صحيفة العربي الجديد