لماذا ترامب؟

لماذا ترامب؟

160803193458_trump_640x360_reuters_nocredit

في الأسابيع الأخيرة، سافَرتُ إلى الكثير من مختلف أنحاء العالم، وكنت أواجه مرارا وتكرارا أسئلة عن أمرين: هل يُعقَل أن يفوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة؟ وكيف بلغ ترشحه هذا الحد في المقام الأول؟
في الإجابة عن السؤال الأول، أستطيع أن أجزم بأن الاحتمالات تميل بقوة لصالح فوز هيلاري كلينتون بالرئاسة، على الرغم من أن التنبؤات في مجال السياسة تظل أشد صعوبة حتى من التنبؤ الاقتصادي. ومع ذلك، كان التقارب في السباق (على الأقل حتى وقت قريب للغاية) لغزاً غامضاً: فهيلاري كلينتون واحدة من المرشحين الرئاسيين الأكثر تأهيلا والأفضل إعدادا على الإطلاق في الولايات المتحدة، في حين يُعَد ترامب واحدا من المرشحين الأقل تأهيلا والأسوأ إعدادا بما لا يقاس.
لماذا إذن يمارس الأميركيون لعبة الروليت الروسية (وهو ما يعني هنا إعطاء ترامب فرصة من ست فرص للفوز)؟ يسعى المراقبون من خارج الولايات المتحدة إلى معرفة الإجابة عن هذا السؤال، لأن النتيجة سوف تؤثر عليهم هم أيضاً، ولو أنهم لا يملكون القدرة على التأثير عليها.
يقودنا هذا إلى السؤال الثاني: لماذا قَدَّم الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة مرشحا يرفضه حتى زعماء الحزب أنفسهم؟
من الواضح أن عوامل عديدة ساعدت ترامب في التغلب على ستة عشر منافسا جمهوريا رئيسيا وتحقيق ما حققه من تقدم. ولا شك أن الشخصية تمثل أهمية كبيرة، ويبدو أن بعض الناس يتحمسون لشخصية ترامب في تلفزيون الواقع.
ولكن، يبدو أن العديد من العوامل الأساسية ساهمت أيضاً في تقارب السباق. فبادئ ذي بدء، أصبح العديد من الأميركيين الآن أسوأ حالا على المستوى الاقتصادي مما كانوا عليه قبل ربع قرن من الزمن. وعلى سبيل المثال، أصبح الدخل المتوسط الذي يحصل عليه الموظف الذَكَر بدوام كامل الآن أقل مما كان عليه قبل 42 عاماً، وبات من الصعب على نحو متزايد حصول أولئك من ذوي التعليم المحدود على وظيفة بدوام كامل وأجر لائق.
الواقع أن الأجور الحقيقية (المعدلة تبعاً للتضخم) عند القسم الأدنى من سلم توزيع الدخل تظل حيث كانت قبل ستين عاما تقريبا. فليس من المستغرب إذن أن يجد ترامب جمهورا كبيرا متقبلا عندما يقول إن حال الاقتصاد الأميركي سيئ. ولكن ترامب مخطئ في التشخيص والوصفة العلاجية؛ إذ إن أداء الاقتصاد الأميركي ككل كان جيداً طوال العقود الستة المنصرمة: فقد ازداد الناتج المحلي الإجمالي ما يقرب من ستة أضعاف. ولكن ثمار النمو ذهبت إلى قلة قليلة نسبيا عند القمة -أشخاص من أمثال ترامب نفسه، وهو ما يرجع جزئيا إلى التخفيضات الضريبية الضخمة التي يعتزم ترامب توسيعها وتعميقها.
ومن ناحية أخرى، لم تتحقق الإصلاحات التي وعَد الزعماء السياسيون بأنها كفيلة بضمان الرخاء للجميع -مثل التجارة والتحرير المالي. وقد توصل أولئك الذين ركدت مستويات معيشتهم أو انحدرت إلى استنتاج بسيط: فإما أن زعماء أميركا السياسيين كانوا لا يعرفون عن أي شيء يتحدثون أو أنهم كانوا يكذبون (أو الأمرين معاً).
ويريد ترامب إلقاء اللوم عن كل المشاكل التي تواجهها أميركا على التجارة والهجرة. ولكنه مخطئ. ذلك أن الولايات المتحدة كانت لتواجه تراجع الصناعة حتى لو لم تشهد التجارة المزيد من التحرير: فكان تشغيل العمالة في قطاع التصنيع في انحدار على مستوى العالم، مع تجاوز مكاسب الإنتاجية لنمو الطلب.
وحيثما فشلت الاتفاقيات التجارية، فإن هذا لم يكن راجعا إلى تفوق شركاء الولايات المتحدة التجاريون عليها ذكاء أو مكرا؛ بل لأن أجندة الولايات المتحدة التجارية صيغت بما يتفق مع مصالح الشركات. فكان أداء الشركات الأميركية طيباً، والجمهوريون هم الذين منعوا الجهود الرامية إلى ضمان تمكين الأميركيين الذين ساءت أحوالهم بفعل الاتفاقيات التجارية من تقاسم المنافع والفوائد.
وبالتالي، يشعر العديد من الأميركيين بأن قوى خارجة عن نطاق سيطرتهم تتجاذهم، وتقودهم إلى نتائج غير عادلة بكل وضوح. وحتى الافتراضات الراسخة -كاعتبار أميركا أرض الفرص وأن كل جيل يأتي سيكون بالضرورة أفضل حالا من الجيل الذي سبقه- أصبحت موضع تساؤل وتشكيك. وربما مثلت الأزمة المالية العالمية نقطة تحول في نظر العديد من الناخبين: فقد أنقذت حكومتهم المصرفيين الأثرياء الذين دفعوا الولايات المتحدة إلى حافة الخراب، في حين لم تفعل ظاهريا أي شيء تقريبا للتخفيف عن الملايين من الأميركيين العاديين الذين خسروا وظائفهم ومساكنهم. ولم يُنتِج النظام نتائج غير عادلة فحسب، بل بدا وكأنه عازم على القيام بذلك ومجهز له.
الواقع أن دعم ترامب يقوم، جزئياً على الأقل، على الغضب الواسع النطاق النابع من فقدان الثقة في الحكومة. ولكن السياسات التي يقترحها ترامب من شأنها أن تزيد الوضع سوءا على سوء. فمن المؤكد أن جرعة أخرى من الاقتصاد القائم على تقاطر الفوائد إلى أسفل كذلك النوع الذي يعد به، جنباً إلى جنب مع التخفيضات الضريبية التي تستهدف بشكل كامل تقريبا الأميركيين الأثرياء والشركات، من شأنها أن تُفضي إلى نتائج ليست أفضل من النتائج التي أفضت إليها عندما جُرِّبَت من قَبل.
الواقع أن خوض حرب تجارية مع الصين والمكسيك وغيرهما من شركاء الولايات المتحدة التجاريين، كما يَعِد ترامب، من شأنه أن يجعل كل الأميركيين أكثر فقرا وأن يخلق عراقيل جديدة تحول دون تمكين التعاون العالمي اللازم لمعالجة مشاكل عالمية حساسة، كتلك التي يفرضها تنظيم الدولة الإسلامية، والإرهاب العالمي، وتغير المناخ. ومن الواضح أن استخدام الأموال التي يمكن استثمارها في التكنولوجيا أو التعليم أو أجبنية الأساسية لبناء جدار بين الولايات المتحدة والمكسيك يُعَد إهداراً شديداً للموارد.
ينبغي للنخب السياسية في الولايات المتحدة أن تُصغي إلى رسالتين: الأولى أن نظريات أصولية السوق النيو-ليبرالية التبسيطية التي صاغت قدراً كبيراً من السياسة الاقتصادية خلال العقود الأربعة الماضية مُضَلِّلة تماما، حيث يأتي نمو الناتج المحلي الإجمالي على حساب فجوة التفاوت التي اتسعت حتى بلغت عنان السماء. ولم تنجح سياسات تقاطر الفوائد إلى أسفل، ولن تنجح. فالأسواق لا توجد في فراغ. وقد نجحت إلى حد كبير “ثورة” تاتشر-ريجان، التي أعادت تدوين القواعد وأعادت هيكلة الأسواق لمصلحة أولئك على القمة، في زيادة اتساع فجوة التفاوت، ولكنها فشلت كل الفشل في أداء مهمتها المتمثلة في زيادة النمو.
يقودنا هذا إلى الرسالة الثانية: إننا في احتياج إلى إعادة كتابة قواعد الاقتصاد مرة أخرى، وهذه المرة لضمان استفادة المواطنين العاديين. ولابد من تحميل الساسة الذين يتجاهلون هذا الدرس في الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم المسؤولية عن أفعالهم. صحيح أن التغيير ينطوي على مخاطر، ولكن ظاهرة ترامب -وأكثر من بعض المخاطر المماثلة في أوروبا- كشفت عن مخاطر أعظم كثيراً قد تترتب على الفشل في الاستجابة لهذه الرسالة: انقسام المجتمعات، وتقويض الديمقراطيات، وإضعاف الاقتصادات.

جوزيف ستيغليتز

صحيفة الغد