المشهد العراقي أكثر انقساماً بعد الموصل

المشهد العراقي أكثر انقساماً بعد الموصل

.
يبدو التحالف في العراق بين بغداد وأربيل والقوى السنية ضرورياً، لكنه في متنه هش وقابل للانفراط، بُعيد تحرير مدينة الموصل من تنظيم الدولة الإسلامية، ذلك أن البنيان المصلحيّ بين القوى المؤتلفة لمحاربة التنظيم قائم على اعتبارات مرحلة الحرب وتأجيل النقاش بشكل (وتصور) إدارة البقاع العربية السنية إلى اليوم التالي لانفضاض الحرب المباشرة.
في هذه الغضون، تقوم أربيل بتجميع القوى السنية القومية والعشائرية على هدي تحالفٍ متين مع أنقرة، الساعية إلى النفاذ إلى الموصل، واعتبار ما يحصل من عمليات إعادة رسم الخرائط فرصةً تاريخيةً لتركيا، للنفاذ إلى الداخل السني، وإلى (ولاية الموصل) التي طالما شكلت هاجساً تركيّاً منذ ترسيم الحدود، بحسب “سايكس – بيكو”، وما تبعها من ترسيمات لاحقة.
تسعى تركيا وأربيل إلى تمكين الفريق العروبي السني الذي يشكل الأخوان أسامة وأثيل النُجيفي أبرز أعمدته، من حكم الموصل مجدداً، ودعم التوجه السياسي الناشئ لدى سياسيي الموصل والجغرافية العربية السنية العراقية الراغبة بالحكم الذاتي، والتخلص من سطوة المركز الذي احتكرته القوى الطائفية الشيعية، بشكلٍ لا يقبل الشراكات، ولا يقبل التغيير بالوسائل الديمقراطية التقليدية. وعليه، ستكون انتخابات المحافظات المقبلة فرصةً كبيرة للمكون السني، باستعادة توازنها المفقود، ودائماً على أساس صيغة إبعاد الحكم الطائفي الشيعي المتغوّل عن الحواضر والجغرافية السنية، ربما تأثّراً بالتجربة الكردية في اللامركزية، أي على قاعدة الندّية مع بغداد.
وإذا كانت الموصل بعيدةً عن تركيا، من حيث إنها مدينة عراقية، وثاني أكبر مدن عراق سايكس بيكو، وحيث إنها فارقت الدولة العثمانية، منذ بدايات القرن العشرين، فإنها بعيدةٌ بالمقدار نفسه عن العراق الحالي، ذي اللون الشيعي المخيف، وغير المطمئن للشريك السني المهمّش، والمتروك لمواجهاتٍ متكرّرة مع القوى الراديكالية الإسلامية (السنية والشيعية) المتوالدة منذ الاحتلال الأميركي للعراق 2003، وما التراشق الإعلامي بين الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ورئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، إلا صدى للأصوات المتضاربة والمتعارضة داخل الموصل وبشأن مصير المحافظة، وصدى آخر لمصالح إقليمية أوسع، تشكل إيران وتركيا أبرز محاورها.
في ظل كل المشاهد العيانيّة للصراع على الأفضليّة في إدارة الموصل، تبدو الخلافات داخل

البيوت السياسية العراقية مهمةً في فهم مآلات حكم الموصل، وسيرورة الأحداث الأمنية اللاحقة، ذلك أن سعي رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، إلى العودة إلى الحكم، متسلّحاً بالخطاب الطائفي، المعطوف على دعمٍ إيراني ودعم المليشيات الشيعية، بل وإصرار المالكي على ضعف حكومة العبادي، وعدم قدرتها على إدارة الأزمة بالشكل المطلوب، يفرض على الأخير إيقاعاً يدعوه إلى ممالأة السياسات الإيرانية والطائفية في البلاد، الأمر الذي قد يدفع الموصل، ومناطق أخرى في العراق، إلى دوامات عنفٍ جديدة. وبالتالي، لا يمكننا الحديث عن استتباب سريعٍ للأمن، حال هزيمة الدولة الإسلامية، ولعل تصريحات العبادي المتكرّرة لجهة أن من سيتولى الأمن داخل الموصل هم قوات الجيش والشرطة العراقيين لا تلقى الكثير من المصداقية لدى الأوساط السنية، ولا حتى القبول لدى الأوساط الشيعية الراغبة في خوض المغامرة إلى آخرها، أي تمكين الحشد الشعبي من السيطرة على المحافظة برمتها، وصولاً إلى “مواجهة” القوات التركية المتمركزة في نقطة بعشيقة العسكرية.
وفوق ذلك، تسير حكومة العبادي نحو مواجهة مشكلات إنسانية كبيرة، ناجمة عن الحرب، مثل حال مشكلة النازحين الذي قد يبلغ عددهم المليون نازح، وعلى مقربة من فصل الشتاء القاسي، بحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، في ظل فشل الحكومات العراقية في احتواء مشكلات مشابهة، وإن كانت أخف مما ينتظر نازحو الموصل.
في إزاء ذلك، لا يبدو البيت الكردستاني في حال أحسن من نظيره الشيعي، فمسألة دخول قوات البشمركة إلى مركز المدينة، أو أجزاء منها، بغية تمكين القوات المحلية من حكم المحافظة (عسكريين وشرطة من أبناء المحافظة تلقوا تدريبات على يد الجيش التركي) أمر بعيد المنال، لجهة الخلاف بين القوى الكردستانية التي تختلف في رؤيتها مع البرزاني الذي تجمعه وشائج وعلاقات إستراتيجية واقتصادية مع الحكومة التركية الراغبة في إدارة الموصل بالوكالة، من خلال حلفائها من العرب السنة، ذلك أن شركاء البرزاني الكردستانيين يؤيدون تصوّر بغداد لشكل الحكم في الموصل، على ضوء تنافسية حزبية كردية – كردية، تعمد إلى تقليل نفوذ البرزاني وشعبيته المتناميين منذ بدء المواجهة المسلحة مع تنظيم الدولة الإسلامية.
لا تستثني الخلافات داخل البيوت السياسية (الطائفية والعرقية) العرب السنة من الانقسام

الحاصل، إذ إننا أمام ظاهرةٍ جديدةٍ، يمكن أن نسميها (سنة أربيل) أي المجتمعين، أو الموجودين في أربيل، والمعارضين لحكم بغداد من الراغبين بدور تركي أكبر في العراق السني، و(سنة بغداد) الموالين للحكومة، وسياسات المركزة وتأييد الجيش العراقي.
وبين كل الخصومات والانقسامات التي قد تظهر بشكل أكبر مع انتهاء عملية استعادة الموصل، ستبقى أميركا في مرحلة اللعب المستمر داخل العراق، ومواجهة التكتيكات والاستراتيجيات المحلية والإقليمية المتنافسة. وستبقى سياسة الإرضاءات استمراراً لنهج الإدارة الأميركية التي فشلت سابقاً في طي العراق تحت جناحيها الواسعين.
ويبدو أنّ العمليات العسكرية والأمنية في العراق ستبقى القاعدة المستمرة للتهرب من الاستحقاقات الوطنية الأخرى، ووسيلة فُضلى لدى الطبقة السياسية العراقية، ومن خلفها الدول الإقليمية المتنافسة، وأن عملية البناء السياسي ستبقى هامشيةً ومؤجلةً، كما كانت قبل أزمة الموصل. لذا، لن يتغيّر الكثير في المشهد العراقي، كما يتمنى متفائلون. وليس الأمر قتلاً للتفاؤل، بقدر ما هو إمعانٌ في قراءة مشهدٍ مؤلم، يدعو إلى التشاؤم المستمر.

شورش درويش
صحيفة العربي الجديد