أميركا: أمّة لا غنى عنها، أم شريك لا غنى عنه؟

أميركا: أمّة لا غنى عنها، أم شريك لا غنى عنه؟

%d8%ac%d8%b9%d9%84%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%88%d9%84%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%85%d9%85-%d8%b4%d8%b1%d9%8a%d9%83%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%b5%d9%84%d8%ad%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%81

لعل من الأشياء العديدة الغريبة المتعلقة بالانتخابات الأميركية الراهنة، هو أن القتال على السياسة الخارجية قد انتهى، سواء قبلنا بذلك أم لم نقبل، بحقيقة أن العالم قد تغير منذ أن وضعت وزيرة الخارجية الأميركية قبل 18 عاماً مصطلح “دولة لا يمكن الاستغناء عنها”.
فقد أعيد تعريف أميركا ودورها العالمي خلال تلك الأعوام الثمانية عشر؛ ولم نعد الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها، وإنما الشريك الذي لا يمكن الاستغناء عنه، وثمة فارق فلسفي بين الفكرتين. فالأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها -مثل رائد الأعمال الشخصي، أي دونالد ترامب- تخوض مغامرات مستقلة لحماية مكانتها الخاصة. أما الشريك الذي لا يمكن الاستغناء عنه، فيقود ويخوض غمار المخاطر لحماية استقرار شبكته -عالم المشروع التجاري الجديد- ويعمل على تنمية تلك الشبكة.
يعد عالم المشروع المشترك مرادفاً للمفهوم التجاري للمشاريع المشتركة -شراكات براغماتية تتعهد فيها شركات (متنافسة أحياناً) بأن تقوم بشكل مشترك بتنفيذ استثمار من أجل جني أرباح متبادلة؛ حيث تسهم كل واحدة بالأصول وتتقاسم المخاطر. وينبع عالم المشروع المشترك من الاعتماد الاقتصادي المعولم بين البلدان، مما يبدل المفهوم التقليدي للسيادة.
في العام 1848، عندما كانت انجلترا في أوج قوتها العالمية، قال وزير الخارجية البريطاني في حينه، لورد بالميرسون، في كلمة له أمام البرلمان، إنه لا يوجد لبريطانيا “حلفاء أبديون أو أعداء سرمديون، إن مصالحنا هي الأبدية والسرمدية”. وما تزال كلمات بالميرسون تستخدم على مدار الأعوام الـ168 الأخيرة، باعتبارها من البيانات القطعية حول كيف تستطيع القوة الواحدة أن تناور لحماية مصالحها في العالم.
لكن كلماته لم تعد تبدو بالصواب نفسه اليوم. وإذا كان الموضوع يقود عالماً معولماً مرتبطاً ببعضه بعضا، فإن ضيق عبارة بالميرسون يكون قديماً مثل المركنتالية (نظام اقتصادي من أهدافه تعزيز ثروة الأمة من خلال التنظيم الصارم لكامل الاقتصاد القومي).
مع تطور أوضاع معينة، بطبيعة الحال، سوف يتصرف كل بلد بالطريقة التي يرى أنها تخدم مصالحه الخاصة، لا أكثر ولا أقل، وفق حكم بالميرسون. لكن الاختلافات الآن بين الدول المعولمة ذات المشاريع المشتركة هي من طبقتين. أولاً، أصبح الاهتمام بالذات لا يعني نجاح بلدك وحسب، وإنما النجاح والرفاه الاقتصادي لشركائك -سواء كانوا الصين أو ألمانيا أو اليابان. ثانياً، وهذا مهم، يستند النجاح إلى استقرار النظام. فالاستقرار هو المفتاح الواضح، ومن دونه لا يؤتي أي تحالف اقتصادي عالمي أو سياسي أكله ولا ينمو. كما أن الافتقار إلى الاستقرار في أي جزء من النظام يهدد الكوكب برمته.
فلنفكر في هذا بالرجوع إلى نظرية الشبكة الحديثة. يجب أن توجد السلطة اليوم في قيادة الشبكة -والتي يمكن أن تسمى في نظرية الشبكة “العقدة المركزية”. ويصبح هذا أكثر تعقيداً بكثير ويتطلب استراتيجية أكثر لباقة بكثير من بناء ائتلاف بين الراغبين. والعقدة المركزية هي النقطة التي تلتقي عندها الخطوط الأكثر أهمية، ثم يجري الانتقال إلى الربط مع العقد والخطوط الأخرى. لكن قيادة الشبكة توحي أيضاً بتركيز على الرفاه الاقتصادي والسياسي لقائد الشبكة. وإذا كانت العقدة المركزية غير صحية، فعندها ستكون الشبكة كلها هشة. وهو ما يعيدنا إلى السؤال: هل الولايات المتحدة على مستوى قيادة عالم يخوض مشروعاً مشتركاً؟
هل يستطيع أبناء الشعب الأميركي الذين يسمعون باستمرار منذ العام 1945 أن أميركا هي الزعيم المفرد للعالم الحر والذين صاغوا هويتهم الشخصية حول ذلك المفهوم، هل يستطيعون الآن القبول بمطالب العولمة بالمزيد من العلاقات الدولية المترابطة والمتعالقة؟ أم أن هذا الاقتراح يصبح بمثابة تصغير وتخويف على حد سواء؟ سياسياً، بمصطلحات السياسة الخارجية، فإن هيبة أن تكون الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها، أو الشرطي العالمي، مع الإيحاءات القومية التي جاءت مع هذه الفكرة، قد عرضت تغذية إيجابية كافية لتثبيط حلم أميركا المتكرر بالانعزالية. ولكن، ومع تلاشي تلك التغذية، فإن الخوف من التغيير يترجم نفسه مباشرة في شكل بناء الأسوار، وهو بالضبط عكس السياسة الخارجية التي تحتاجها أميركا للاستمرار في الازدهار والنمو.
تماماً مثلما عمدت الولايات المتحدة إلى تحرير نفسها من الاعتماد على الطاقة، وهي حالة أجبرت السياسية الخارجية على التركيز بشكلِ غير متكافئ على مناطق إنتاج الطاقة، فإن الأفول البطيء خلال الأعوام الأربعين الماضية لمكانة السوق القاري المنعزل للولايات المتحدة، جلب تحديات سياسة خارجية يصعب تعريفها. وفي حين أن ما يحدث في حقول النفط النيجيرية أو السعودية يصبح أقل أهمية بالنسبة لأميركا، فإن ما يحدث في مجالات أكثر ربحية بكثير، مثل العقار في بكين أو أعمال البنك المركزي الأوروبي، يصبح أكثر أهمية.
لم تعد البيئة الجيوسياسية اليوم، عديمة الشكل والفوضوية، تستدعي وجود قائد عالمي مفرد، وإنما تستدعي بدلاً من ذلك وجود شريك مدير لتوجيه وتعزيز الاستقرار في داخل النظام -الشريك الذي لا يمكن الاستغناء عنه في النظام الشبكي للعلاقات المتبادلة.
ولكن، سياسياً وثقافياً، هل تستطيع أميركا التي اعتادت أن تكون مهيمنة، أن تتأقلم الآن وتغير دورها ليصبح دور الشريك الذي لا يمكن الاستغناء عنه في عالم معولم صاحب مشروع مشترك؟ أو، كثقافة، هل هناك حاجة إلى الدقة والوضوح لقيادة العالم الشبكي متعدد الأقطاب الذي أصبح لدينا الآن؟ في ظل إدارة أوباما ومع بعض المحاذير، شرعت سياستنا الخارجية في التأقلم مع نموذج المشروع المشترك. والسؤال الآن هو ما إذا كان الشعب الأميركي، المتلقي والمنشئ لسياسته الخارجية، سيوافق على الاستمرار في سياسة خارجية تستند إلى الواقعية الاقتصادية. هل سيفهم أنه من خلال التراجع بعيداً عن دور الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها فإن أميركا لا تظهر ضعفاً، وإنما على العكس تماماً تظهر تفهماً واضحاً للمحددات والفرص في عالم معولم بمشروع مشترك؟ أم هل سيطالب الشعب الأميركي، الخائف من التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية الحادة التي جلبتها العولمة بأن تعود السياسة الخارجية الأميركية إلى رؤية “الولد الجيد/السيئ” القديمة للعالم؟

إدوارد غولدبرغ

صحيفة الغد