تطوّر تمويل الإرهاب: تجفيف مصادر “الدولة الإسلامية”

تطوّر تمويل الإرهاب: تجفيف مصادر “الدولة الإسلامية”

gaza-moneychangersap01102102091-639x405

“في 13 تشرين الأول/أكتوبر، ألقى دانيال غليزر، مساعد وزير الخزانة الأمريكي لشؤون تمويل الإرهاب لدى “مكتب الإرهاب والاستخبارات المالية”، خطابه الأحدث ضمن سلسلة المحاضرات في إطار برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب الطويل الأمد في معهد واشنطن. وفي ما يلي تقرير موجز عن ملاحظاته”.

تواجه وزارة الخزانة الأمريكية تحديًا فريدًا من نوعه في تقويض مصادر تمويل “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش). ففي حين تركّز تدابير مكافحة تمويل الإرهاب التقليدية على منع ممولي الإرهاب من الوصول إلى النظام المالي العالمي وتجفيف المنابع الرئيسية لتمويل التنظيمات الإرهابية، تمثّل قدرة “داعش” على تمويل نفسه تحديًا نوعيًا مختلفًا يتطلب مقاربة مغايرة نوعيًا.

فثروة “داعش” تتأتى بشكل رئيسي من ثلاثة مصادر. أولًا، النفط والغاز في الأراضي التي يسيطر عليها بحيث أدرّ بيع هذه الموارد نحو 500 مليون دولار خلال عام 2015 من خلال عمليات بيع داخلية بشكل أساسي. ثانيًا، فرض الضرائب والابتزاز. فبصفته كيانًا يملك أراض، يجمع التنظيم ضرائب مختلفة ورسومًا من السكان الخاضعين لسيطرته، وبلغت قيمتها 360 مليون دولار خلال عام 2015. ثالثًا، عندما استولى “داعش” على الموصل في عام 2014، نجح في نهب أكثر من 500 مليون دولار نقدًا من خزانات المصرف المركزي. غير أن هذا المصدر ليس منبع تمويل متجددًا. وعمومًا، تفوق الثروة الهائلة التي جمعها “داعش” من هذه المصادر التمويل الخارجي والأنشطة غير الشرعية الأخرى إلى حدّ كبير.

ونظرًا إلى أهمية الأراضي بالنسبة لتمويل “داعش”، تتطلّب المشكلة حلًا عسكريًا. في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، أطلق التحالف العالمي لمكافحة تنظيم “داعش” حملة جوية حملت اسم “الموجة العارمة 2” استهدفت قدرة التنظيم على استخراج النفط والغاز وتكريرهما ونقلهما. وقد حقّقت هذه الحملة نجاحًا ملحوظًا لجهة تقليص أرباح النفط التي يجنيها التنظيم من أراضيه.

وبعدما خسر “داعش” سيطرته على بعض الأراضي وبالتالي على مصادر النفط، أقدم على زيادة الضرائب المفروضة على السكان المحليين. ولكن قدرته على درّ العائدات من خلال الضرائب محدودة أيضًا بما أن الأموال التي تتدفق إلى أراضيه محدودة. وتعمل وزارة الخزانة منذ بعض الوقت مع الحكومة العراقية لخفض السيولة في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم. وقبل نحو عام، توقفت بغداد عن صرف رواتب الموظفين الحكوميين في هذه المناطق وأبقتها عوضًا عن ذلك مجمّدة، علمًا بأنها كانت تُرسل سابقًا نحو ملياري دولار سنويًا إلى الأراضي التي يسيطر علها “داعش”. وحتى في ظل تقديرات متحفظة تشكّل معدل ضرائب بنسبة 10 في المائة، كان المبلغ يُعدّ مصدر دخل كبير للتنظيم. كما شنّ التحالف ضربات جوية على مواقع يحتفظ فيها “داعش” بالأموال النقدية، ما تسبّب بإتلاف ملايين لا تحصى من الدولارات.

وخلّفت هذه التدابير آثارًا – فقد عانى التنظيم من ضائقة مالية. في أواخر عام 2015، خفض قادة “داعش” في الرقة السورية الرواتب الشهرية لكافة المقاتلين في المحافظة بنسبة 50 في المائة، ولم يكن أولئك حتمًا أول المتأثرين بمساعي التنظيم لتقليص النفقات. هذا ويستشري الفساد الداخلي أيضًا، ما يدفع بالقادة إلى إطلاق حملات لمكافحة الفساد. كما ازدادت أيضًا الغرامات الاعتباطية وبات عبء الضرائب أثقل. وتُعتبر كل هذه التطورات مؤشرات واضحة على محنة التنظيم في وقت يكافح فيه للتعويض عن الأموال التي خسرها.

غير أن خزانات “داعش” لن تنضب بالكامل، لذا تواصل وزارة الخزانة جهودها الرامية إلى منع التنظيم من نقل أمواله واستخدامها. وتبدأ هذه الجهود مع العراقيين. فقد كانت وزارة الخزانة تتعاون عن كثب مع الحكومة العراقية التي تولي هذه المسألة اهتمامًا خاصًا. وكان نحو 90 فرعًا من المصارف العراقية يشغّل عملياته في أراضٍ خاضعة للتنظيم عندما استولى عليها في بادئ الأمر، بيد أن وزارة الخزانة عملت مع العراقيين لقطع صلة هذه الفروع بالمراكز الرئيسية للمصارف بشكل كامل، ما صعّب على التنظيم النفاذ إلى النظام المالي.

لكن يكمن مصدر القلق الرئيسي في العراق في استغلال “داعش” لمكاتب الصرافة التي يناهز عددها 1900 مكتب وهو عدد ضخم يزيد من صعوبة تنظيمها بشكل فعال. وعلى المدى الطويل، يحتاج العراق إلى تقليص هذا القطاع لخفض عدد مكاتب الصرافة إلى مستوى يمكن مراقبته إلى حدّ معقول. أما التحديات الكامنة على المدى القصير فتتمثّل بالإجراءات التي يجب اتخاذها على صعيد مكاتب الصرافة العاملة ضمن أراضي التنظيم. أصدر المصرف المركزي العراقي لائحة علنية ضمّت أكثر من مئة مؤسسة مماثلة كما وضعت وزارة الخزانة ترتيبات ناشطة لتبادل المعلومات مع مسؤولين عراقيين بهدف تحذيرهم من أي مكاتب صرافة مثيرة للشبهات. ويمكن إضافة كيانات إلى هذه اللائحة أو إزالتها متى تمّ تحرير الأراضي. ويتعيّن على المؤسسات المالية حول العالم الرجوع إلى هذه اللائحة لتجنّب مزاولة أي أعمال مع أي مكتب صرافة مُدرج على اللائحة السوداء. ولغاية الآن، منع المصرف المركزي هذه المكاتب من النفاذ إلى ملايين الدولارات، في مؤشر واضح على التزام العراق بهذه المسألة.

اتخذ المصرف المركزي أيضًا خطوات لتحسين قوانين النظام المالي في العراق فاعتمد قوانين لمحاربة تبييض الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب ووضع أنظمة لتطبيقها. وفضلًا عن اتخاذ خطوات استثنائية لضمان تنظيم المصارف في بغداد بشكل مناسب، أرسل فرقًا إلى أماكن على غرار كركوك في “إقليم كردستان” للتأكد من وجود نظام متجانس لمكافحة تبييض الأموال. وخلال الفترة المقبلة، سيتعيّن على الحكومة العراقية أن تجعل من هذا النهج أكثر من مجرد مسعى يقوم به المصرف المركزي إذ يجب أن تشارك فيه أجهزة إنفاذ القوانين ووزارة المالية ووزارة العدل وأجهزة الأمن. ومن أجل التشجيع على اعتماد هذه المقاربة التي تشمل كافة أقسام الحكومة، ساعدت وزارة الخزانة على إنشاء “اللجنة الأمريكية-العراقية لمكافحة تمويل الإرهاب” التي تضمّ كافة الجهات المعنية هذه.

وبالرغم من أن هذا المسعى يبدأ في العراق، إلا أنه من دون شكّ لا ينتهي فيه. فسوريا تطرح مجموعة مختلفة تمامًا من المشاكل. لكن بسبب عزل القطاع المالي السوري عن النظام الدولي منذ فترة من الزمن، لم يعد نظامًا جذابًا بالنسبة لتنظيم “داعش” لنقل الأموال إليه. تربط الشبكات المالية غير الرسمية سوريا بشركائها التجاريين التقليديين في المنطقة الذين تتواصل معهم وزارة الخزانة بشأن المخاوف ذات صلة. وعاد نظام الأسد أيضًا بالنفع على “داعش” من خلال صفقات الغاز المبنية على تبادل الخدمات.

وفي حين تواصل وزارة الخزانة العمل عن كثب مع شركاء إقليميين لضمان عدم نفاذ “داعش” إلى الأنظمة المالية المحلية أو العالمية، لا بدّ من الإشارة إلى أن النجاح العسكري سيعزّز صوابية هذا العمل وأهميته. وبينما تتحوّل “داعش” من شبه دولة إلى منظمة عالمية مشتتة، قد يزيد التنظيم اعتماده على النظام المالي العالمي لجمع المال ونقله. فيطرح إذًا السؤال التالي نفسه: هل يتّجه نحو التمويل الخارجي؟ ما من مستوى تمويل خارجي عالمي يمكنه مجاراة مبلغ المليار دولار أو أكثر الذي قد يجنيه التنظيم خلال سيطرته على الأراضي في العراق كما يفعل في سوريا. مع ذلك، فإن الانتقال إلى مرحلة ما يسمى بالوجود “ما بعد الخلافة” يُجبر التحالف على بذل جهود أكبر لضمان عدم إمكانية “داعش” الاعتماد على وسائل تقليدية لتمويل الإرهاب على غرار الهبات الأجنبية واستغلال المنظمات الخيرية.

يُذكر أنه خارج سوريا والعراق، لا تتمتع فروع “داعش” المختلفة بالقدرة على إنتاج مواردها الخاصة كما يفعل “داعش” في معاقله الرئيسية. فالتنظيم في ليبيا لا يجني الأموال من نفط البلاد بل يركّز على تدمير البنية التحتية للنفط فيها بدلًا من الاستفادة ماليًا منها. كما أن الثروات داخل الفروع نفسها ضئيلة – ففي حين ضمت خزانات المصرف المركزي في الموصل مثلًا مبلغ نصف مليار دولار نقدًا، وجدت قوات “داعش” في سرت الليبية حوالى 4 ملايين دولار فقط. وهذه مشكلة مختلفة بشكل نوعي. ورغم ذلك، تتمكّن فروع “داعش” من تمويل نفسها إلى حدّ ما عبر الجرائم وابتزاز السكان المحليين، كما لا تزال تتلقى الأموال من قيادة التنظيم.

هذا وتتطلّب منظمات إرهابية أخرى تعمل في العراق وسوريا اهتمامًا كبيرًا بدورها. “فجبهة النصرة” – وهي عمليًا فرع تنظيم “القاعدة” في سوريا – هي منظمة خطيرة تشكّل تهديدًا بالنسبة للولايات المتحدة. يمكنها الحصول على مبالغ محدّدة من المال من الأراضي التي تسيطر عليها ولكن ليس بقدر ما يفعل “داعش”. ويفرض ذلك استخدام الاستراتيجية التقليدية التي تلجأ إليها وزارة الخزانة: العمل مع الشركاء للحرص على عدم نفاذ المنظمات الإرهابية إلى النظام المالي. وقد تمّ إحراز الكثير من التقدّم من أجل تحقيق هذه الغاية في بلدان مثل قطر والكويت، لكن الممولين الأفراد يواصلون العمل في منطقة الخليج، ولا بدّ من معالجة هذه المسألة بشكل طارئ. فمساعي قطر الأخيرة الرامية إلى محاكمة ممولي الإرهاب جنائيًا تمثّل مؤشرًا فعليًا على الإرادة السياسية للتعامل مع هذه المشكلة.

ومن بين الجماعات الأخرى التي تشكّل مبعث قلق، “حزب الله” الذي تموّله إيران بشكل رئيسي. وتسعى وزارة الخزانة جاهدةً إلى عزل الحزب عن النظام المالي العالمي وتثني على المصارف اللبنانية لتعاونها الجيد منذ إقرار “قانون مكافحة تمويل «حزب الله» دولياً” في عام 2015. فقد تمّ التصدي لنفاذ هذه الجماعة إلى النظام المالي اللبناني بطريقة لم يعتقد الكثيرون أنها ممكنة. وفي هذا الشأن، من المهم التمييز بين لبنان و”حزب الله” حيث أن القانون والتدابير الأمريكية اللاحقة المتخذة لتطبيقه لا تستهدف لبنان بل هي خطوة لوقف تمويل “حزب الله”. مع ذلك، يتلقى الحزب معظم أمواله من إيران، وهي مصدر دخل يصعب وقفه. ومن المرجّح أن تواصل “فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية” في تعاملاتها مع طهران رفض إدخال استثناءات على قوانينها لمحاربة تمويل الإرهاب، كما فعلت في الماضي.   

دانيال غليزر

معهد واشنطن