تحرير الموصل وهندسة تفجير الأزمات

تحرير الموصل وهندسة تفجير الأزمات

_147750234010

فتحت معركة تحرير الموصل أبواب الصراع بين كل الأطراف الداخلية والخارجية على مصراعيها، ومعها بالطبع مستقبل العراق ككل. لم تكن أطماع كل هذه الأطراف مكشوفة كما هي الآن ومن دون أي تحسّبات أو تحفظات، والكل يأخذ من الموصل ومعركة تحريرها مدخلا لتمرير أو حتى لفرض تلك الأطماع والمصالح التي ترسم في مجملها صورة أو خارطة شديدة القتامة للتحالفات الانتهازية الفاقدة للحد الأدنى من المبادئ والقيم.

وتشير المؤشرات على أرض الواقع إلى أن معركة الموصل سياسية قبل أن تكون عسكرية، بمعنى أن تحرير المدينة يعتمد على الاتفاقات السياسية التي تحصل وراء الكواليس هنا وهناك.

الخطر والتحدي الأكبر في معركة الموصل، كما ترى النخب السياسية، ليسا المواجهة العسكرية ضد فلول تنظيم داعش الإرهابي، بل مرحلة ما بعد داعش سواء في قضية تصفية الحسابات والعمليات الانتقامية أو إعادة إعمار البنى التحتية للمدينة تمهيدا لعودة النازحين.

ومن دون شك، فإن الصراعات تتخذ أكثر من صورة وشكل، داخليا وخارجيا، وهي ليست حربا عسكرية فقط وإنما هي حرب سياسية سمتها المصالح، حيث تدخل دول كثيرة منها إقليمية أو غير إقليمية لرسم جغرافيتها، وربما قد رسمت الخارطة الجديدة لها منذ الآن، وخاصة مستقبل الأقليات في المحافظة وإنشاء محافظات جديدة، مثلما هي حرب مصالح داخلية تتناقض مع الصورة الوطنية التي تطالب بها النخب السياسية الحاكمة. فهناك صراع بين نوري المالكي، رئيس الحكومة السابق (رئيس تحالف دولة القانون أكبر كتلة في البرلمان العراقي) وحيدر العبادي، رئيس الحكومة الحالية الذي ينتمي إلى حزب الدعوة الـذي يقوده نـوري المالكي، ظل يتفـاقم ويتسارع، وكل منهما يحاول توظيف معركة تحرير الموصل لمصلحته. وهناك صراع الأحزاب السنية والشيعة، حيث الشيعة يحاولون منع تقسيم العراق كما يقولون، وبالذات الموصل، بينما الكثير من الأحزاب السنية تحاول إنشاء إقليم الموصل بسبب الاضطهاد الشيعي لها كما تقول، بل إنها تؤيد تدخل تركيا في الصراع مادامت إيران هي الأخرى اللاعب الأساسي في العـراق. وهناك الأكراد الذين اشترطوا تقسيم محافظة نينوى الحالية إلى 3 محافظات منفصلة مقابل مشاركتهم في عملية تحرير نينوى، وبموجب المقترح الكردي سيتم تحويل قضاء سنجار إلى محافظة تابعة لإقليم كردستان، وتحويل المناطق المسيحية والتركمانية في سهل نينوى إلى محافظة في حين يترك للسكان بهذه المحافظة تحديد مصيرهم، سواء بالانضمام إلى إقليم كردستان أو البقاء مع الحكومة الاتحادية.

وإذا كانت إيران تركز على أدوار تقوم بها ميليشيات الحشد الشعبي لتأمين مصالحها في الموصل، سواء من خلال حكومة العبادي أو أي حكومة أخرى بديلة، فإنها وفقا لتقارير عدة، تدفع حزب العمال الكردستاني التركي المسلّح إلى المشاركة في تحرير نينوى، بعد دفعها لإشراك ميليشيات الحشد الشعبي وهو ما يمثل مشكلة سياسية أخرى في خاصرة ملف تحرير الموصل. كما تتخوف الأحزاب السنية من مخطط إيران الساعي إلى إجراء تغييرات ديموغرافية مذهبية لتوفير حاضنة موالية، من خلال مشروعها القديم الجديد المتمثل في إنشاء ممر يبدأ من الحدود الإيرانية-العراقية عبر محافظة ديالى التي تسيطر عليها ميليشيات الحشد الشعبي، مرورا بمناطق جنوب كركوك بعد تحريرها من داعش عبر الشرقاط، وصولا إلى الطرف الغربي من مدينة الموصل وتحديدا إلى نقطة تقرب حوالي 50 ميلا جنوب شرق سنجار التي تعتبر الركن القادم في مشروع الممر البري. وبحسب خبراء، فإذا ما تم مشروع ربط إيران بالبحر الأبيض المتوسط، فإنه يعد بمثابة نصر استراتيجي لطهران، إذ أنه سيعزز من سيطرتها على العراق والشام ويؤكد قوتها وطموحها في المنطقة.

وهناك الأميركان الذين لديهم مطامع إقليمية وخطط لتقسيم العراق وسوريا وبلدان عربية أخرى، وقد عبروا عن أطماعهم في تثبيت وجودهم في العمق العراقي، وبالذات في قاعدة القيارة العسكرية التي تم تحريرها قبل عدة أشهر والتي تبعد 58 كيلومترا جنوب الموصل، وهي موقع استراتيجي شديد الأهمية لمواجهة أي طموحات إيرانية في العراق على حساب النفوذ والمصالح الأميركية. بينما اتخذت تـركيا مسار تحدي الجميع بالإعلان، صراحة، عن إصرارها على إبقاء وجودها العسكري في معسكر بعشيقة، ممّا يجعل المواجهة التركية مع إيران في العراق مكشوفة وبتوريط أميركي، وهي مواجهة ستلقي بظلالها حتما على آفاق التعاون أو الصراع المستقبلي بين تركيا وإيران في سوريا.

وبعكس الآراء الأميركية والغربية القائلة بأن تحرير الموصل (المركز) سيطول، فإنني أرى أن الموصل ستحرر بطريقة أسرع من الفلوجة، بسبب وجود سخط شعبي كبير من الأهالي تجاه تنظيم داعش وممارساته الهمجية ضدهم، خاصة وأن جنوب الموصل وأقضية ونواحي نينوى ستحرر قبل مركز المدينة، مما سيعطي زخما شعبيا مساندا من قبل الأهالي مصحوبا بالحقد والكره ضد داعش، وهذا سيكون عاملا إيجابيا للقوات الأمنية المحررة، خاصة وأن داعش قد انهار معنويا تماما ولم تعد له السيطرة الكاملة على المدينة. المشكلة الرئيسية هي استبعاد أن تبقى الموصل كما هي بعد التحرير، وستحصل فجوة بعد التحرير، وخاصّة القضية الإيزيديّة وكذلك شيعة تلعفر الذين تعرضوا لشرخٍ كبير، فقد سرقت أموالهم وهدّمت بيوتهم وهجّروا من مناطقهم، وهنا يبقى الأمر لمن يتصدّر موقف القيادة في الموصل، وهـذه القيـادة تحتاج إلى قيادة حكيمة تعرف كيف تلملم الجراح، وهو أمر شبه مستحيل في ظل نظام سياسي طائفي وفاسد. ورغم أهمية معركة الموصل في تاريخ العراق باعتبارها تشكّل انعطافة في المسار الأمني الإقليمي والعالمي، إلا أنّ هروب داعش إلى سوريا يعني تكرار سيناريو الموصل 2014. وبعبارة أخرى، فإن تراجع التنظيم نحو سوريا لترتيب صفوفه لا يعني أن خطة تحرير الموصل تسير بشكل جيد وحسب ما خطط لها في جوانبها السياسية والعسكرية. نعم سينتهي داعش عسكريا في العراق عامة وفي الموصل خاصة، ولكن من الناحية الفكرية استطاع داعش أن يزرع أفكاره في عقول الشباب، وهذا لا ينتهي إلا بمحاربته فكريا، لأن هذا السرطان أصبح منتشرا في كل بيت وبين فئات واسعة من الشباب والأطفال في المدن العراقية، ورسم في عقولهم مبادئه وتعليماته. فإذا انتهت المعركة وحسمت بالانتصار العسكري، فإن الفكر الذي يحمله هؤلاء يحتاج إلى سنوات للتخلص منه، فضلا عن ظهور الصراعات والثأر والمحاسبات الكيفية التي ستظهر بعد التحرير وهذه مشكلات أخرى ستكون أخطر مما كان قبل التحرير. ربما سيكون تحرير الموصل بداية لتفجير أزمات جديدة، وربما هي حرب جديدة داخل العراق بين إيران وتركيا ستسمح لأميركا بتنفيذ مخططات التقسيم في المنطقة وإنشاء منطقة سنية تمتد من الموصل إلى الرقة. ولا يستبعد أيضا أن يكون هناك دور سري لروسيا مع الأميركان بدأ في سوريا وسينتهي في العراق. نعم هناك هندسة لتفجير الأزمات تصحبها هندسة أخرى لتقسيم الأراضي والمدن العربية.

د.ياس خضير البياتي

صحيفة العرب اللندنية