روســيا الباحثة عن عظمتها المفتقدة ومصالحها بعد الحرب الباردة

روســيا الباحثة عن عظمتها المفتقدة ومصالحها بعد الحرب الباردة

349

تبدو العـودة المفاجئة لروسيا ما بعد السوفييتية إلى مقدمة المسرح الدولي قـد أخـذت الدبلوماسية الغربية على حين غـرة، إذ باتت عنصر تغيير كبير الشـأن في المشـهد الجيو- اسـتراتيجي الدولي. وتبـدي موسكو البوتينية على نحـو مكشوف، وبصورة تزداد وضوحاً يومـاً بعـد يوم، تصميمها على رفض النظام العالمي الذي انبثق منذ نهاية الحرب الباردة، وجرى إهمـال مصالحها فيه.
وبخلاف المشكلات الملموسة التي يحدثها هذا السلوك الذي تصفه سائر العواصم الغربية بالسلوك “المهدّد”، فإن ضلوع روسـيا، سياسياً أو عسـكرياً، في النزاعات التي تنشب خارج حـدودهـا ـــ سـواء في “الخارج القريب” مثل جورجيا وأوكرانيا، أو في مناطق أخرى من العالم، كما في سـورية بخاصة، إنمـا يطرح أسـئلة أكثر جسـامة. مـا هي طموحات موسـكو الاسـتراتيجية الحقيقية، وكيف وبأي وسـائل تعتزم تحقيقها؟
وإذا كان ارتباك المستشاريات والدوائر السياسية الغربية إزاء “المسـألة الروسية” الجديدة، بديهياً، فإن أسبابه تظلّ عصيّةً على الفهم؛ فقـد يمكن، في النهاية، أن يُقال عن بلـدٍ مثل روسـيا أي كلام كان، إلا أن تكون وافـداً جـديداً على المسرح الدولي. ومـا كان لـ”عودتها” إلى المحافل الدولية، وحضورها بين الأمم الكبرى، أن يعتبر بالأمـر الشاذ أو غـير الطبيعي، وإنمـا الشـاذ هـو غيابها.

الخطاب غير المتوقع لبوتين
تبـدو روسيا وكأنها دخلت، مع تواري الاتحـاد السـوفييتي، “في وضعية الاصطفاف والتبعية”، وقبلت بأن تلعب دور حجر الداما أو “البيدق” الذي خصّها الظافرون الكبار في الحرب الباردة بـه في رقعة الشطرنج الدولية. ولهـذا، فإن الخطاب غـير المتوقع الذي ألقاه فلاديمير بوتين في ميونخ، في فبراير/ شباط2007، إبّان المؤتمـر بشأن المسائل الأمنية، أحدث ضجةً غـير متوقعة. فقـد تعمّـد الرجل الاسـتفزاز، وراح يُـذكـِّر بالخطاب الذي ألقـاه ونستون تشرشل في مدينة فولتون في ولاية أركنساس الأميركية في مارس/ آذار 1946، عشـية الحرب الباردة؛ فقـد توجّه إلى الزعمـاء الغربيين، وأعلن خصوصاً: “يجاهدون ليفرضوا علينا خطوطاً فاصلة، وجدراناً جديدة. وحتى لو كانت خطوطاً وجدراناً افتراضية، فإنهـا لن تلبث أن تقسّم قارتنا إلى دوائر ومقصورات”.

اعتـبرت “غضبة” فلاديمير بوتين، في حينه، تمريناً بلاغياً يؤديّه بعض من تبقوا من أيام الحـرب الباردة، فمـا كان يسـع شـركاء روسـيا الغربيين أن يتخيّلوا أن الرئيس الروسي الذي كان أنهى لتوه ولايته الثانية، سيسعه أن يعـود مجـدّداً إلى الكرملين؛ وأهملوا الرسـالة المزدوجة التي كان يحملها الخطاب، والتي كانت تعكس حنق الروس من معاملتهم على أنهم خاسرو الحـرب الباردة، وتصميم روسـيا الجـديدة على رفض النظام الدولي الذي يفرضه الغربيون.
بعـد ذلك بتسع سـنوات، في فبراير/ شباط 2016، جاء دور الرئيس ديمتري ميدفيديف، الذي عـاد ليصبح رئيس حكومة الرئيس بوتين المنتخب لولاية ثالثة، بأن ينـدّد أمام حشدٍ من المشدوهين، في مؤتمـر ميونخ نفسه، بخطـر انزلاق العالم نحـو حربٍ باردةٍ جديدة، بل وسـاخنة. ولم يتردّد الخطيب المذكور بمقارنة الوضع الدولي العام 2016، بأزمة صواريخ كوبـا لعام 1962: “لا أحـد يريـد الحـرب. لكن أميركا الشـمالية والاتحـاد الأوروبي وروسـيا يتجهـون نحـو الحرب، ويسـيرون إليهـا في خطٍ مستقيم”.
هل كان ذلك مزايـدة لفظية، خـدعة سياسية، أم معاينة محزنة للواقع؟ الواقع أن العلاقات بين روسيا المـا بعـد سوفييتية والغرب، انتقلت، في أقل من خمسة وعشرين عـامـاً، من نشـوة انتهاء الحرب الباردة إلى عتبة النزاع المعمم. والحق هـو أنـه يكفي، لفهم ذلك، العودة إلى حصيلة أو محصّلة “نتاج” روسيا المـا بعـد سوفييتية.
انفجـار الاتحـاد السـوفييتي والإفلاس المعترف بـه للمشروع الشيوعي، أغرقا روسيا في أزمة ثلاثية الأبعاد: سياسية، اقتصادية، وكذلك في أزمة هويةٍ. شعر روس كثيرون بأن زعماءهم خانوهم سياسياً، وخيّبوا آمالهم بنمطهم الاقتصادي المغالي في الليبرالية، فباتوا وقـد زالت أوهامهم من الديموقراطية القناع، أو الديموقراطية الواجهة.
ومن الجانب الغربي، أخلّ القوم بين أنفسهم ومراودة تفسير سقوط النظام الاشتراكي في الاتحـاد السـوفييتي، الذي جاء نتيجة سـيروراتٍ داخلية، بأنـه مجـرد اسـتسلام لخصم اسـتراتيجي. أفضى هـذا التفسـير الخاطئ إلى نتائج سيّئة؛ ذلك أن سياسة البلدان الغربية إزاء روســيا الجـديدة ظلّت رهينة تيارين إيديولوجيين قويين (المحافظون الجـدد الأميركيون، وممثلو “أوروبا الجـديدة” في الشـرق) الذين لم يكونوا مهتمين، كلٌ لأسبابٍ تختلف عن الآخـر، بتشـجيع التقارب بين روسيا وأوروبا.
وإذا كانت بواعث البولونيين والهنغاريين والبلطيق وشـعوبٍ أخرى انعتقت لتوهـا من السـيطرة السـوفييتية، بديهية، إلا أن مواقف الصقور الأميركيين كانت تعكس عجزهم عن الخـروج من أغلال الحرب الباردة، فقـد عاشـوا نهاية تلك الحرب، كما لو كانت ترجمةً لحلمهم في ترسيخ سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على العالم، نهائياً وإلى الأبـد.
تستعيد هذه “الأطلسـية الجـديدة” اسـتراتيجية “الاحـتواء” القديمة التي ولِـدت غـداة الحـرب العالمية الثانية. أمـا منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحـاد الأوروبي، فسـارعا إلى ملء “الفراغ الاسـتراتيجي” الذي أوجده تواري الاتحـاد السـوفييتي في شـرق أوروبا. وهكـذا، فإن “دزينة” من البلدان التحقت، خلال عشـرين سـنة، بالتحالف الأطلسي، مقربين بذلك هـذا الحلف من حـدود روسـيا. وكان ينبغي للأخـيرة أن تقف وتشاهد، عاجزةً، تصرفات منظمة حلف شمال الأطلسي، أو بعضٍ من أعضائه، وترى الأعمال أحادية الجانب لبلدانٍ كانت هي حاضرة فيها: في البلقان (يوغوسـلافيا وكوسوفو) وفي الشـرق الأوسط (أفغانستان، العـراق، ليبيـا).
ارتكب القادة الغربيون خطأً جسـيماً، حين اعتقدوا أن روسيا نفسـها، وبما هي حقيقة تاريخية واقتصادية واســتراتيجية وثقافية، سـتختفي عن المسـرح الدولي، مع زوال الاتحـاد السـوفييتي؛ ثم استثار التحوّل الما بعـد سوفييتي الصعب، لدى بعضهم، بعض مشـاعر الحنين إلى الحقبة المنصرمة؛ كما أثار، لدى بعضٍ آخـر، أهـواءً قومية وأحلاماً ثأرية. كان هـذا الإحباط يدفع المراقبين المتنبهين إلى مقارنة روسـيا سنوات 2000، بألمانيا الفايمارية، أي ألمانيا سنوات 1920.
وفلاديمير بوتين الذي يعتبر كما نعلم، “زوال الاتحـاد السـوفييتي أعظم كارثة جيوبوليتيكية في القرن العشرين”، هـو ممثل هـذا الماضي السـوفييتي، والناطق باسم الإهانات التي تعرّض لهـا المجتمع الروسي. وقـد فهم بادئاً، كاسـتراتيجي ماهر وبراغماتي، أن على روسيا أن تتمسّك، من أجل اللعب في ساحة الكبار، بشـركائها الغربيين.

هكـذا، فقـد رأينـا “فلاديميرات بوتين” عدّة يتعاقبون، الواحـد بعـد الآخـر، على المسرح السياسي خلال بضع سـنوات: بوتين “الأميركي” في لحظة “11 سـبتمبر” في العام 2001، المسـتعد لأن يعرض على الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، تعاونه الكامل في وجه القاعدة؛ ثم بوتين “الأوروبي” الذي يشـارك الرئيس الفرنسي جاك شـيراك والمستشار الألماني غيرهارد شـرويدر رفضهما التدخل الأنكلوسـاكسوني في العـراق. والحـال هـو أن أياً من المحاولتين (لا الأميركية ولا الأوروبية) أتاحت لـه مأسسة علاقات سياسية ذات ديمومةٍ مع الغربيين، تسمح بإدماج روسيا المـا بعـد سوفييتية في نادي “أصحاب القرار” الضيّق. وقـد استخلص الرئيس الروسي من هـذه التجربة درسـاً في السياسة الواقعية، اعتباراً من اللحظة التي تتوقف فيها روسيا اللاشـيوعية عن أن تمثل تهـديداً وجودياً للغرب، فإنهـا، خلافاً للاتحـاد السـوفييتي، لا تعود تهمّ هذا الغرب، لا هي، ولا همومها الاسـتراتيجية.

فشـــل المشــروع الأور – آسـيوي
وإذا كان بوتين قـد انتظر عام 2007 ليتحدّى النظام الدولي على نحـوٍ مكشـوف، فذلك لأسباب عـدّة، أولها، أن الزعيم الروسي اضطر لانتظار اللحظة التي تصبح فيها “روسـياه” هـو قادرة على المطالبة بالمكانة التي تعـود إليهـا تحت الشمس، كمـا أن السـنوات التي مرّت أقنعت الزعيم الروسـي بعجـز الغربيين عن إدارة الأزمات الدولية الجسيمة التي كان يعتبر أنهم مسـؤولون عن اسـتحداثها، ولاسـيما في الشـرق الأوسط، إدارة ذات فعالية. من هنـا، كانت مطالبته بإعادة تحـديد قـواعـد اللعبة.
لم تكن روسـيا في المنطلق تريد مطلقاً أن تشنّ حرباً باردة على الغـرب، فلا هي كانت تريـد قطع علاقاتها الاقتصادية مع الاتحـاد الأوروبي، ولا أن ترفض اقتـراحاً توفيقياً تصالحياً من الرئيس الأميركي الجـديد يومها، باراك أوبامـا، يهـدف إلى “جبر الكسر” في العلاقات الأميركية الروسية. وحتى الحدث العابر الذي تعرّضت لـه هذه العلاقات، والمتمثل باندلاع الحرب الروسية الجيورجية عام 2008، مـا كان لهـا أن تحدث اضطراباً جدياً في العلاقات بين الروس والغربيين، الواعين للعصبية الروسية إزاء إعلان الرئيس الجورجي، ميخائيل ساكاشفيلي، عن رغبته بالالتحاق بمنظمة حلف شمال الأطلسي.
غـير أنّ أحـداً لم يفعل شـيئاً في هـذه الحقبة للحيلولة دون الانزلاق نحـو القطيعة. وقـد كان نشـر الجانب الأميركي عناصر من النظام المضاد للقذائف الصاروخية “الباليستية” (ABM) العتيد (الذي لطالما كان بالنسبة للروس بمثابة التلويح بإشارة خطر والمبادرة ببادرة استفزاز) ومواصلة الأميركيين نصبه، والاقتراب بـه من الحدود الروسية في أوروبا الشـرقية، ليفاقم الأمور. وأمـا الاتحـاد الأوروبي، فإنـه لم يعـر أي انتباه لمبادرة “هلسنكي II”، ولا لاسـتخلاص وصوغ منظومة إجمالية “للأمن الجماعي الأورو- أطلسي” التي عرضها ميدفيديف إثر النزاع الروسي- الجيورجي. كمـا أن لجنة بروكسيل لم تستطع أن تعرض على روسيا الشـراكة الاقتصادية التي كانت ترغب بها، والتي كانت تحتاج إليها حاجةً حيويةً لتأمين تحديث البلاد. فكان يكفي، في هـذا السياق، أن تنشب أزمة جديدة، حتى ولو كانت أطرافية، لتحطّم نهائياً مـا كان قـد تبقى من ثقةٍ بين روسيا ونظرائها: وهـذا مـا عناه التدخل في ليبيا العام 2011.

وقـد فسـرت روسـيا النتيجة التي أفضت إليها هـذه العملية، مع التصفية العنيفة لمعمر القذافي، بأنهـا نمط “تغيير نظام” يمكن أن ينال منها هي ذات يوم. وكانت هـذه القراءة “الذُهانية الهذيانية الاضطهادية” تعكس هاجس القادة الروس الذين كانوا يرون يـد الغرب في كل مكان، من الانتفاضات الشعبية في “الربيع العربي”، إلى الثورات “الملوّنة” في الأطراف المتاخمة لبلدانهم.
وكانت النتيجة الأولى للحدث الليبي قرار فلاديمير بوتين، غـير المتوقع، حتى من روسٍ كثيرين، اسـتبعاد ميدفيديف “الضعيف” الذي ترك نفسه يقع ضحية خداع الغربيين، وأخيراً العودة إلى قيادة البلاد رئيساً لولاية ثالثة.
هنـا، جاءت تظاهرات الشارع المهمة في موسكو ومدن روسيا الكبرى الأخـرى التي قامت بها المعارضة، وغـذّت بدورها العقد المعادية للغرب لدى السلطات الروسية، وأسهمت في تصلّب النظام على أساس قومي.
وفي الميدان الدبلوماسي، لم يكن فلاديمير بوتين يريـد التصالح مع نظامٍ دوليٍّ لا تلعب فيه موسـكو سوى دور ثانوي، وتكون مكرهةً على الانصياع لقواعـد لا يحترمها قادة العالم أنفسهم. وبهـذا، تعرّض توجّه السياسة الخارجية لتغييرات جذرية، فمشروعات التوأمة السياسية مع الاتحـاد الأوروبي، أو مقترحات “هلسنكيII” التي صاغها ميدفيديف، جرى التخلي عنها. وبدلاً من روسيا التي طالما أحبت أوروبـا، سُـــنَّةً وتقليداً (أي منذ بطرس الأكبر حتى ميخائيل غورباتشيف ومشـروعه في “الدار المشتركة”)، فإن العالم سـيكتشف روسيا “الأوراســية”.
وكما لو أن الأمـر كان أمـر تطبيق مبـدأ مونرو الأميركي الشهير، بعد وفاة صاحبه بقرنين، على الفضاء الما بعـد سوفييتي (لمنع التدخّل هنـا، مثلمـا منعت الولايات المتحدة أيام مونرو من التدخل في قارتها ودائرة نفوذها)، فإن اسـتراتيجية الاتحـاد “الأورآسـيوي” الذي أعلنه بوتين في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، كان يفترض بـه أن يجمع حول روسيا النواة الصلبة من الاتحـاد السـوفييتي السابق: روسيا البيضاء، كازاخستان، وبالتأكيد أوكرانيا. كان رجل موسكو القوي يريـد، في الواقع، أن يحمي مـا تبقّى من الحـيِّز أو من “الفضاء” الموالي للسـوفييت، من محاولات “القضم” التي تأتي في آنٍ معـاً، من الغرب (الاتحـاد الأوروبي، منظمة حلف شمال الأطلسي) أو من الشـرق (الصين وشــهوتها الجارفة لبلدان آسيا الوسطى). ووفقاً لموسكو، كان ينبغي للاتحاد الأورو – آسـيوي أن يصبح قطباً جديداً جيو- استراتيجياً مسـتقلاً قادراً على منافسة مراكز القوى الأخرى.
يبقى أنـه، حتى لو أنكر القادة الروس عزمهم على إعادة بناء الاتحـاد السـوفييتي السابق، فإن مشـروع بوتين “الدفاعي” الأوراسـي، يثير الريب والشكوك لدى الغربيين، بحيث أن وزيرة خارجية الولايات المتحدة حينذاك، هيلاري كلينتون، لم تتردّد في الخطاب الذي ألقته في ديسمبر/ كانون الأول 2012، أمام منظمة الأمن والتعاون الأوروبي (OSCE) من وصف مشـروع الاتحاد الأوراسـي، بأنـه محـاولة إعادة “سفيتة”، وتعهـّدت “بإفشـاله”.
والحـال أن مشروع بوتين الكبير تبدّد وذهب ضحية عاملين، لم يتوقعهما الرئيس الروسي: الانهيار الذريع لأسـعار برميل النفط والثاني الردّة الأوكرانية.
“خسـارة” أوكرانيـا، القطعة الرئيسة من حلم بوتين جرى الإعلان عنها في أفق توقيع الرئيس الأوكراني حينذاك، فيكتور إيانوكوفيتش، لاتفاق شـراكةٍ بين بلده والاتحـاد الأوروبي، في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2013. ومن هنا، محاولة الرئيس الروسي الغاضب إنقاذ اتحاده في اللحظة الأخـيرة، بعرض 15 مليار من المعونة في 17 ديسـمبر 2013، غيـر أن التغيير المفاجئ في موقف إيانوكوفيتش أثاراندلاع بركان ميدان، فبعـد ذلك بشـهرين، اسـتولت شريحة راديكالية من المجتمع الأوكراني، هي أكثر عـداء للروس مما هي موالية للأوروبيين، على مقاليد الأمـور في كييف. ومنـذ ذلك التاريخ، أصبحت الأزمة الأوكرانية التي كانت، في البداية، نزاعاً “عائليا” روسياً – أوكرانياً بالنسـبة إلى موسـكو، مسـألة تندرج في جدول أعمـال العلاقات الإسـتراتيجية مع الغرب.
وفي سياق انهيار أسـعار النفط الذي أعلن سقوط الاقتصاد الروسي، استغلت السـلطات الروسية الأزمة الأوكرانية لتوسّع قاعدتها الوطنية بتعبئة المشـاعر القومية ضد “التهديدات الخارجية”. ولم يتردّد بوتين، وهـو يقـدّم روسـيا هـدفاً يســتهدفه الغربيون، بالتذكير بالسنن والتقاليد الإمبراطورية الروسية. ففي خطابه السـنوي أمام مجلس الدومـا في 2014، عمد إلى التأكيد على وجـه الخصوص على: “سياسة احـتواء روسـيا التي تواصلت في القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، ولا تزال تتواصل. إنهم مـا فتئوا يحـاولون دفعنـا إلى زاويةٍ وحشرنا فيها، لأن لنـا موقفاً مسـتقلاً، ندافع عنه، ولأننـا نسمّي الأشـياء بأسـمائها، ولا نلعب لعبة المنافقين والمرائين”. هـذه الرواية للتاريخ التي تقـدّم روسـيا “قوة عظمى منعزلة متوحدة”، محاطة بالأعـداء الأزليين، لأنهـا فخورة ومسـتقلة، تسمح للرئيس الروسي بأن يبـرّر عزلته على المسـرح الدولي، وأن يشـيد بالمشـاعر القومية، ويزيد من لحمة المجتمع، في جـوٍ يذكّر بأجواء “القلعة المحـاصرة”.

هرب إلى الوراء
وإذ جرى توقيع العقوبات على روسيا، واسـتبعدت من مجموعة الدول الصناعية الثماني (G8)، وفقدت ورقتها الاسـتراتيجية الرابحة التي هي وضعيتها قوة طاقوية عظمى، فإن روسيا بوتين تحـاول الإفلات في ضربٍ من “الهـرب إلى الوراء”: محاولة العودة إلى عالم عظمتها السـالفة، عنـدمـا كانت لا تزال ســوفييتية، وتؤخـذ بمـزيـدٍ من الاعتبار، لأنهـا كانت تخيف. وفي حنينها إلى زمن العالم ثنائي القطبية، الذي كان الاتحـاد السـوفييتي فيه “جبّاراً” شـان الولايات المتحدة، فإنهـا لا تتردّد في الاسـتدارة نحـو الحجة الرئيسة المسـتخدمة في لعبة “الكباش”، أو ليّ الذراع بين القوتين الأعظم في فترة الحرب الباردة ـــ الخوف النووي أو الرعب النووي. وقـد سبق أصلاً أن جرت العودة، في العقيدة العسكرية الروسية التي تقرّرت في العام 2010، إلى الحق في “الضربة النووية الوقائية أو الاسـتباقية”.. وجاء في سياق هذه العقيدة أن “من حق روسـيا اسـتخدام السـلاح النووي من أجل حماية نفسـها وحلفائها، أو في حال التعرّض لتهديدات بتـدمير الدولة”.
وقد سبق لفلاديمير بوتين أن قام، إبّان ولايته الرئاسية الثانية (2004-2008)، بحملة تحديث للجيش الروسي؛ فبدلاً من الفِرق التي لا تسـتطيع العمل إلّا بالتعبئة الكثيفة للجند الاحتياطيين رديئي التحضير، فإنـه جرى إنشـاء وحدات متحركة، وألوية أصغر حجمـاً. وفي العام 2011، جرى الإعلان عن برنامج إعادة تسلح يمتد إلى العام 2020، وقيمته 718 مليار دولار. وفي 31 ديسـمبر/ كانون الأول 2015، وافق الرئيس الروسي على عقيدة أمن قومي “للمدى الطويل”، تؤكـد منزلة روسيا ومرتبتها “واحـدةً من القوى العظمى القيادية العالمية”.
والظـاهـر أنـه إذا كان هـدف بوتين إعادة بلاده إلى المسرح العالمي، بالتعادل والتساوي مع الولايات المتحدة، كما في زمن الحـرب الباردة، فإنـه لا يتردّد في العودة بالعالم إلى الـوراء، إلى حقبة بات الكثيرون يعتبرونها غابرة متصرّمة.
هكـذا، فإنـه خلافاً لإعـلان غورباتشـيف في مالطة في ديسـمبر 1989، في لقائه مع جورج بوش (الأب)، أن قادة الاتحـاد السـوفييتي لم يعـودوا يعتبرون الولايات المتحدة خصمـاً لهم، فإن العقيدة العسـكرية الروسية باتت تشـير، بعـد “تجديدها”، إلى الولايات المتحدة “تهديداً لأمن البلاد”. كمـا أن الرئيس أوبامـا لا يتردّد بوضع روسـيا على لائحـة المخاطر الثلاثة الأولى التي تهدّد الأمن القومي الأميركي، يلي فيروس إيبولا، لكنه يتقدم على خطر “الدولة الإسـلامية”. أمـا رئيس الأركان الأميركي، مارتن ديمبسي، فراح يقارن في منتدى أبسـن، في 24 يوليو/ تموز 2014، “عدوان بوتين على أوكرانيـا بغـزو هتلر وسـتالين لبولونيا العام 1939”.
ينطلق الصقور في كلا المعسكرين، ممن يحنّون إلى حقبة الحرب الباردة، وبحماسةٍ، في مباشرة الإيماء بإيماءاتٍ منسية، والتأشير بإشــارات مهجورة، فوزارة الدفاع الروسية تكشف النقاب عن خطط لنشر صواريخ “إسكندر” المضادّة للصواريخ، في كالينينغراد، أي في المسورة الروسية التي تقع على ساحل البلطيق. أمـا قيادة حلف الناتو، فتعلن عن برنامج لنشر قوات تدخل سـريع، وبناء قـواعـد عسـكرية جديدة في البلدان الأعضاء في المنظمة، على أساس وجود “جبهة شـرقية” افتراضية؛ بل إن لـواءً مدرعـاً أميركياً سينشر في أوروبا الشـرقية، للمرة الأولى منـذ نهاية الحـرب الباردة.
وإذا كانت حرب الكلمات هـذه تثير الشـواغل، إلًا أنـه لا ينبغي الخطأ في اكتناه الدلالة الحقيقية لهـذا التصعيد في التوتر، فالمسـألة من الجانب الروسي ليست مسـألة التحضير لحرب عالمية ثالثة، أو لأزمة كوبا جـديدة، وإنمـا هي حرب أعصاب. “العصر الذهبي” للحرب الباردة التي يحلم بهـا الروس هي حقبة السيادة المشتركة أو الحقبة التشاركية (الكوندومينيوم) السوفييتية الأميركية التي رسـّختها اتفاقات نيكسـون – بريجنيف في 1972، وكانت تضمن لكل فريق، عبر التأكيد على تسـاويهما النووي، حـريـة التصرف في منطقة نفوذه.
ويقينـاً أن روسيا التي تجـد نفسـها في وضعيةٍ دفاعيةٍ تدافع فيها عن “الخطوط الحمـر” التي تعتبرها حيويةً لأمنها (القوقاز، القرم)، إلّا أنهـا تسـتطيع البرهنة عن تروّيها، وأن تتلافى حدوث قطيعةٍ لا عـودة عنها مع العالم الغربي، بإرسـال علاماتٍ عن عزمها على العودة إلى التعاون المخلص، عنـدمـا تؤخـذ مصالحها بالاعتبار، ذلك أن الكرملين واعٍ أن آفاق الانتعاش الاقتصادي في روسيا ترتبط بالتعاون مع أوروبا والولايات المتحدة.
وبمجرد الحصول على ضماناتٍ من الغربيين، تضمن عدم دخول أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الأمـر الذي أكدتـه تصريحات الرئيس الفرنسي فرانسـوا هـولانـد والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وتضمن قيام ضرب من الفيدرالية فيها، يضمن احـترام الاسـتقلال الذاتي للمناطق الناطقة باللغة الروسية، فإن بوتين يبـدو مسـتعداً لضمان وحدة أراضي هـذا البلد. وكذلك الأمـر فيما عنى العمل العسكري الروسي في سـورية.
دخلت روسـيا في النزاع السـوري في 30 سـبتمبر/ أيلول 2015، مسـتخدمة قوتها هناك اسـتخداماً أخـّاذاً. ومـا أدهش الغربيين حينها هـو الانطلاق المفاجئ للعملية، مثلما كانوا مندهشين بعـد ذلك بخمسة أشـهر، من الإعلان الذي لم يكن متوقعـاً لوقفها، غـير أن منطق هـذا السـيناريو يصير أدنى إلى الفهم وأقرب، إذا مـا انتبهنا إلى أن الدعم الذي قـدّمه الجيش الروسي لنظام بشـار الأسـد لا يمثل، بالنسبة إلى الرئيس الروسي، هـدفاً عسـكرياً أو اسـتراتيجياً، وإنمـا هـو وسـيلة لتسـجيل نقاط سياسية محدّدة تمـامـاً. فقـد توصلت روسـيا، بهـذه العملية، إلى أن تصير لاعباً لا يمكن الالتفاف عليه في إدارة أزمة دوليةٍ جسـيمة. وقد أظهرت حرب بوتين الكثيفة الخاطفة في سـورية أنـه كان للعمل الفعّال الذي أدّاه العسكريون الروس، خلال بضعة أشـهر، فعالية تفوق التي أظهـرها الغربيون في أربع سـنوات. وهـو بهـذا يبيّن أن مُـرَكـَّبَهُ العسكري الصناعي حقّق قفزة نوعية في مجال التحديث، ما جعل طموحات موسـكو السياسية الجـديدة أكثر صدقيّة.
وقد تمكّن بوتين من حمل واشــنطن على العودة إلى صيغة “جنيف 2” التي تقضي بحصول مفاوضاتٍ بين نظام الأسـد والمعارضة، عنـدما فرض نفسـه شـريكاً سياسياً لا غنى عنه. وعلى هـذا، فإن الانتصار الأخّاذ الذي حققه بوتين، هـو العودة إلى الإدارة ثنائية الأطراف للنزاع السـوري، أي بين الروس والأميركيين، محجّماً الأوروبيين الذين تحـوّلوا ممثلين ثانويين صامتين (أو كومبارس). وهـذه كلها تغيرات يشـهد عليها قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بتاريخ 23 فبراير/ شباط 2016، على أساس مشروع روسي – أميركي مشـترك. وهكـذا، تخرج موسـكو من لعبة المقامرة العسكرية السياسية هذه، قوة عظمى، يجب أخـذها بالاعتبار.
ثم إن واقعة تمكّن الروس والأميركيين من التغلّب على تبايناتهم، وتنسيق مجهوداتهم في الصراع ضد “الدولة الإسـلامية”، تشير بوضوح إلى أن ثمـّة فرصة لوضع حـدّ لفترة التجميد التي كانت بين الطرفين اللذين تواجها فيما مضى من أيام الحرب الباردة. وعلى هـذا، من الممكن الاعتقاد بأن الروس والأميركيين قـد يجـدون وسـيلةً لوضع منافساتهم وسخطهم المتبادل جانباً، من أجل إيجاد الوسائل لقيام تعاون جدّي في الموضوعات ذات الاهتمام المشـترك،

كانتشار السلاح النووي، وخطر وصول يد المتطرفين إلى أســلحة التدمير الشامل، وكذلك لأزمـة المنـاخ والاحتباس الحراري خصوصاً. ثم إن توقيع اتفاق تفكيك أسلحة النظام السـوري الكيماوية في 14 سـبتمبر 2013، والحل الذي تمّ إيجـاده للنووي الإيراني يؤكـد أن ذلك ممكن.
في المقابل، إذا مـا ضيَّع الغرب مرة جـديدة فرصة إرسـاء روسـيا، وربطها بباقي أوروبا، فإن نتائج ذلك بالنسبة للوضع الدولي، ولتطوّر البلاد الداخلي، سـتكون مأسويةً، ذلك أن روسـيا توشك أن تعاود الانتكاس والانكفاء إلى الاكتفاء الذاتي، وإلى أحلام الثأر التاريخية الغائمة الملتبسـة من بقية العالم.
وإذا مـا شجعها نجـاح عمليتها في سـورية، واستفادت من تهافت السياسة الغربية، فإنه قـد يحلو لموسـكو أن تتخيّل أن روسيا تسـتطيع، وهي قطب القوة الثاني في العالم، أن تملي القواعـد الجـديدة للعب على الســياسـة الدولية. وعلى أي حال، سـبق لوزير الخارجية الروسي، سـيرغي لافروف، أن أشـار، في مؤتمـر صحفي، إلى الوضع المسـتجد في علاقات روسيا مع شركائها الغربيين، إذ صرّح إنه لا عودة إلى “الأعمـال (بزنس) كالمعتاد”، أي أن روسـيا لم تعـد تشـعر بأنها مرتبطة ببعض الاتفاقات السـابقة، طالما لم يُعـد التفاوض عليها مجـدّداً، على أساس الحقيقة العيانية الجديدة والواقع الطارئ المستجد. ووفقـاً للافروف، المسـألة هنا حقيقة عالَم أو واقع عالَم “متعدّد المراكز”، سـيكون الغرب مضطراً للاسـتكانة إليه والقبول بـه، عاجلاً أم آجلاً؛ ثم إنّ تزايـد لجوء موسـكو إلى أدوات “القوة الصلبة” يجعل من سـلوكها على المسرح الدولي شـيئاً يصعب التنبؤ بـه.
وإذ اعتبر نظام بوتين نفسـه في حالـة حربٍ سياسية مع الغرب، فإنه لا يتردّد في البحث عن دعـم لدى مختلف التيـارات السياسية والأنظمة المستعدة للاعتراض على النظام الدولي الحالي. والمسـألة هنا هي مسـألة تحالف يضمّ مـا هبّ ودبّ، ويتكوّن من تياراتٍ قوميةٍ وسياديّةٍ من مختلف المشارب والاتجاهات، ومن قادة أنظمة سلطوية أو متسلّطة، تجـد، في روسـيا الحالية، ليس مجرد حليفٍ ظرفي وحسب، بل ومثالاً تتقلده.”المشـروع المحافظ” البوتيني، يُغري أقصى اليمين الأوروبي، والتيارات المعادية للغرب في مناطق أخرى من العالم.
وهكـذا، فإنـه بعـد الثـورة الروسـية التي “هزّت أركان العالم” في العام 1917، هـا هي روســيا البوتينية تسـتعد لقيـادة “ثورة مضـادة محافظة”، تؤلّف بين قوى رجعية ومعادية للديمقراطية، وتعارض مسـار العولمة أو سيرورتها، وتعتبرها إمـا غطاء لمؤامرة غربيّة أو تهديداً للقيم القومية التقليدية أو انتهاكـاّ للنفوذ ومواقعها فيه.
وقـد يبـدو هـذا مثل معارك تجاوزها الزمن، تخوضها قوى الماضي في وجه مسيرة التاريخ المحتومة، غـير أن المشهد السياسي العالمي معقد. والعالم الذي هـو قيـد الانبثاق تحت أنظارنا، هـو أبعـد من أن يكون وحيد اللون، كمـا يشاء دعاة “العولمة السـعيدة” ومروجوهـا، مـا يعني أن دور الغرب كتجسيد طبيعي لتقدم البشرية يلقى مزيـداً من المعارضة والاعتراض.
لا زال العالم الجديد يبحث عن نفسه، ويحاول تحديد ذاته، وإيجاد تعريف لها. لم يتحدّد خيار روسـيا في هـذا المسار، وهذه السيرورة، نهائياً. وهي تتردّد بين العودة إلى تحالف طبيعي مع أوروبا ومراودة تكوين كتلة معادية للغرب مع الصين، وأفق التموضع ناطقاً رمزياً باسم الدول الصاعدة.
وللغرب المصلحة كل المصلحة في أن يأخـذ روسيا إلى جانبه في هذا المسـار؛ ذلك أنـه إذا مـا انقطعت علاقاته بروسيا، انقطاع رباطات مدفع، بما يجعله يفلت من الموقع الذي يحتله على سطح سفينة إبّان هبوب العاصفة، ويتركه يتدحرج في كل اتجاه، فإنـه يوشك أن يُحدث أضراراً، وأن يشكّل خطراً على المحيطين بـه.

أندريه غراتشيف

صحيفة العربي الجديد