هل يكون “الكسب” في الموصل “خسارة”؟

هل يكون “الكسب” في الموصل “خسارة”؟

download

مؤخراً، بدأ القتال لتحرير الموصل. وفي الحقيقة، بدأ بجولة جديدة من الضربات الجوية بقيادة الولايات المتحدة قبل الإعلان العراقي عن أن عناصر متنوعة من القوات البرية العراقية مستعدة للانخراط. وسيكون من أكثر العناصر حساسية بالنسبة للولايات المتحدة إلحاق الهزيمة بالإرهاب والتطرف الإسلامي العنيف، بالإضافة إلى المساعدة في نجاح الجهود المستقبلية الأميركية لجلب بعض عناصر الاستقرار لشرق أوسط يصبح أقل استقراراً على نحو متزايد.
لا توجد طريقة لمعرفة كيف ستكون حدة القتال أو كم هو تصميم مجموعة “داعش” على التشبث بالمدينة. ومن المثير للدهشة أن التقييمات عن حجم قوتها تشير إلى أنه منخفض، وربما لا يتجاوز 4500 مقاتل فعلي. لكن المجموعة كان أمامها أشهر للاستعداد، وأظهرت بوضوح كبير كم هي راغبة في التضحية بمقاتليها بزجهم في الهجمات الانتحارية وفي حرب استنزاف عندما تختار ذلك. كما أنها راغبة كثيراً في استخدام المدنيين كدروع بشرية وأدوات حرب. وعليها أيضاً أن تدرس الكيفية التي تمكنها من الاحتفاظ بمواقعها في سورية والمحافظة على ولاء مقاتليها، إذا لم تحول معركة الموصل إلى معركة طويلة كلما أمكنها. ولا يقدم التراجع الكثير من الأمن على ضوء خسارة “داعش” لأي طريق آمن عبر تركيا. كما أن التقدم العراقي الناجح الذي يشمل الموصل وباقي محافظة نينوى سوف يحتوي أي قدرة على تجنيد متطوعين حديثين والحصول على أموال وإمدادات.
وفي الأثناء، من المرجح أن يكون “الكسب” في الموصل نسبياً بدرجة عالية، وأن ينطوي على مواجهة تحديات رئيسية على صعيد الوحدة العراقية. فلدى كل العناصر المختلفة من القوات العراقية أهداف ومرامٍ مختلفة. وهذا ما يفسر استهلاك الولايات المتحدة الكثير من الوقت مسبقاً في العمل بهدوء على إقناع الأكراد بالمساعدة من دون محاولة الاستحواذ على أراض جديدة، وفي حث قوات الحكومة المركزية العراقية على تولي الجهد العسكري الرئيسي، وفي خلق بعض عناصر الميليشيات السنية، وفي الحد من دور المليشيات الشيعية. وتواجه كل من الحكومة المركزية في العراق والولايات المتحدة تقريباً القدر نفسه من التهديد من “حلفائهما” مما تواجهانه من “داعش” -تجنب الانقلاب على بعضهم بعضاً أو محاولة استغلال الانتصار على “داعش” لمصالحها الخاصة على حساب الوحدة العراقية.
لدى كل فصيل رئيسي منخرط في القتال ضد “داعش” أولوياته الخاصة وأهدافه المتناقضة. فالمحافظ السني السابق لنينوى -المحافظة التي تشكل الموصل جزءاً منها- يريد أن يجعلها جيباً عربياً سنياً. والأكراد -المنقسمون على بعضهم- لديهم طموحاتهم الخاصة ويتحدثون عن الاستقلال. ويظل الجيش العراقي ضعيفاً ومفتقراً إلى اليقين، كما أن الشرطة غير فعالة ومنقسمة على أساس خطوط طائفية وقبلية. ويذكر في هذا المقام أن بعض المليشيات الشيعية كانت قد أساءت معاملة مدنيين من العرب السنة في عمليات سابقة، وهي متطرفة وفق ما تراه حقاً لها.
ستكون بعض وقائع القتال قاتمة، بغض النظر عن مدى جهوزية القوات المنخرطة وكم هي راغبة في التعاون. ومن الممكن أن ينهار “داعش” تحت وطأة الضغط، لكن الأكثر احتمالاً أن تكون الموصل مسرحاً لمأساة إنسانية أخرى في الصراع العراقي-السوري، إما فيما يتعلق بالقتال الفعلي أو في التداعيات الطويلة، حين تمس الحاجة لإعادة البناء والتعافي. وكان لدى “داعش” أشهر سلفاً لتحويل الموصل إلى حصن من السيارات الملغمة والقنابل، ولوضع استراتيجية تقوم على استخدام الدروع البشرية واستغلال السكان. ولدى العراق القليل من الموارد المدنية الفائضة والقدرة المحدودة لإدارة الأمور.
من الواضح أيضاً أن الاستعدادات للتعامل مع التداعيات المدنية والإنسانية للقتال قد لا تكون مناسبة، ولا يمكن جعلها كذلك. فهناك ببساطة الكثير جداً من التوترات الفصائلية المتناقضة والكثير جداً من المحدوديات التي تقف في وجه الخيارات المدنية إذا حدث أي شيء وفق تقديرات أسوأ السيناريوهات بالنسبة للأشخاص المشردين والضرر الجانبي وإساءة معاملة المدنيين . وكل ما يمكن فعله هو مراعاة الأمانة في مخاطبة هذه المشاكل وتقديم أفضل خيارات المساعدة الممكنة. وفي الأثناء، تظل الحرب جحيماً، ولا تفعل الجهود لوصف “الثورة في الشؤون العسكرية” كطريقة للحد من تداعياتها الإنسانية سوى نزع الصدقية عنها أكثر من التغطية عليها.
تشكل الحكومة العراقية أيضاً تهديداً “محتملاً”، وهي تتوافر على قيادة جيدة متمثلة في قمتها، ممثلة برئيس الوزراء حيدر العبادي. لكن معظم الحكومة المدنية يظل فاسداً وساعياً إلى خدمة الذات ومنقسماً بشكل عميق. كما أن قدرتها على التعامل مع مليون مدني أو أكثر عالقين في القتال أو مشردين من ديارهم غير يقينية في أفضل الحالات. وتفشل الحكومة في أغلب الأحيان في الاستجابة للانتصارات العسكرية، أو تقوم بقطع وعود دراماتيكية ثم تفشل في التنفيذ.
في حالة الموصل، يمكن لهذا الفشل أن يدفع بأعداد ضخمة من المدنيين العرب السنة إلى التوجه نحو المناطق الشيعية أو الكردية المتوترة أصلاً والمفلسة من الناحية الفعلية بسبب انخفاض عوائد النفط، والتي لديها القليل من الفائض للإسكان أو لسعة البنية التحتية. ومن شأن هذا أن يفاقِم المشاكل الطائفية والإثنية.
لا بد أن تكون حكومة العبادي والولايات المتحدة قد درستا هذا الوضع، لكن قدرتهما على المواكبة تبدو غير يقينية، بحيث يمكن أن تقود في نهاية المطاف إلى المزيد من التوتر الطائفي والعرقي والاقتتال.
في الحقيقة، قد لا يتعلق الواقع الأكثر حساسية في المعركة بما إذا هزمت “داعش”، وإنما بما إذا كان باستطاعة الفصائل العراقية المنقسمة بشكل عميق أن تتعاون إذا كسبت المعركة. ومن الممكن أن يكون البديل أسوأ من “داعش”: السنة في مواجهة الشيعة؛ والعرب في مواجهة الأكراد، بينما تتنافس تركيا وإيران ودول عربية في الخارج وروسيا من أجل تحقيق غاياتها الخاصة. ومن الممكن أن يقسم “الكسب” العراق بسهولة كبيرة بشكل دائم و/أو أن يتحول إلى أشكال جديدة من الصراع الأهلي. وتكمن المشكلة في الافتقار إلى بيانات عامة تتمتع بالصدقية حول كيفية رد فعل الحكومتين العراقية والأميركية على إلحاق الهزيمة بـ”داعش”.
يظل التوقيت المناسب والنجاح الفعلي حاسمين. ولا يمكن تسييس هذه المعركة بأمان. وسوف يؤثر أي انتكاس رئيسي في القتال من أجل الموصل على مستقبل الاستقرار لكل عنصر سياسي في العراق وعلى النجاح المستقبلي لجهد الولايات المتحدة لخلق قوات أمن عراقية فعالة، وعلى المدارك العالمية لمستقبل “داعش” والحركات الإسلامية العنيفة الأخرى. وهنا يكون وجود ثقة أكيدة في الجيش الأميركي أمراً حاسماً. وإذا كانت الإيجازات العسكرية الأميركية تبدو غامضة قليلاً في بعض الأحيان، فلأنها يجب أن تكون كذلك. ومن شأن التركيز على الأوصاف المسهبة للتقدم والمشاكل أن يضعف الثقة العراقية والنفوذ الأميركي، وأن يقدم معلومات كثيرة ربما تحكون مفيدة للدواعش.
وفي الأثناء، من الممكن أن ينطوي النجاح الفعلي خلال الأشهر المتبقية من هذا العام على قيمة كبيرة إذا كان من الممكن ضمان هذا النجاح. أولاً، يعتمد نجاح نظام العبادي في صبغ السياسة العراقية بصبغة الاعتدال وتوحيد العراق كأمة، على النجاح في هزيمة الموصل وفي إظهار أن الحكومة ستبذل قصارى جهودها لمساعدة مدنيي الموصل.
تشكل الموصل هي المركز السكاني الرئيسي الوحيد في المناطق العربية السنية إلى الغرب من بغداد. وكان القتال في الأنبار قد أثر على جزء ضئيل من السكان. وإذا استطاعت الحكومة المركزية أن تتولى زمام قيادة القتال في الموصل والإظهار بأنها تهتم بأمن ومستقبل العرب السنة في العراق -بينما تتجنب أي مزيد من الاشتباك أو التوتر مع الأكراد- فإنها ستستطيع بذلك تعزيز مصداقيتها ووضعها كحكومة مركزية.
ثانياً، سيفعل هذا النوع من النجاح في الموصل والعراق الكثير لاستعادة المصداقية والنفوذ الأميركيين. ومن شأنه أن يوازي النجاح الروسي في سورية وأن يحد من دور إيران، وأن يستعيد درجة من الثقة عند الحلفاء العرب الآخرين. وهناك خيارات “أقل سوءاً” فقط بقيت في سورية، ومن المؤكد أن المأساة الإنسانية هناك ستصبح أكثر سوءاً قبل أن تصبح أفضل.
كلما تسارع فشل “داعش” في العراق أصبح أكثر هشاشة في سورية -من حيث المال والمتطوعين والمعنويات والمصداقية. وإذا فشل “داعش” في سورية أيضاً، فربما يكون هناك على الأقل بعض الخيارات لدعم قوات الثوار العرب التي يمكن الوثوق بها والمساعدة في تقديم المزيد من مساعدات الإغاثة. وعلى العكس من ذلك، كلما طال أمد “داعش” في الاستعداد في سورية، سيكون من المرجح أن تصبح الأشياء أسوأ في شرقي سورية -ومن المؤكد تقريباً أن تستغلها روسيا والعراق والأسد.
ثالثاً، بغض النظر عن الذي سيفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، سيكون الوضع الأميركي أفضل بكثير إذا تم كسب المعركة الأكثر حسما في العراق أصلاً. وستكون قضية تقديم مساعدات مدنية للعراق أكثر قوة بكثير، كما سيكون النفوذ والمصداقية الأميركيين في العراق أقوى بكثير. وستتعزز قضية شراكة ناشطة وذات معنى وجدوى مع الدول العربية المعتدلة، والمؤمل أن تكون سابقة التعامل مع المحصلة المدنية في الموصل نبراساً للمساعدة في التعامل مع المأساة الإنسانية في سورية -وهو جهد يبدو الآن وكأنه سيبدأ بعد أكثر من عام، وسيتطلب دعماً لعقد أو أكثر.

أنتوني كوردسمان

صحيفة الغد