الخلافة المتداعية: “السيارات المفخخة هي نسخة داعش من الغارات الجوية”

الخلافة المتداعية: “السيارات المفخخة هي نسخة داعش من الغارات الجوية”

Iraqi security forces display vehicles, weapons and ammunition they confiscated from the Sunni militant group 'Islamic State in Iraq and the Levant' (ISIL), in Samarra, June 6, 2014. Iraqi helicopters bombed the city of Samarra after insurgents overran parts of it early on Thursday, bringing them within striking distance of a Shi'ite shrine the destruction of which in a 2006 attack unleashed a bitter sectarian war. The offensive is part of an escalating conflict between Iraq's Shi'ite Muslim-led government and Sunni Islamist militants who have been regaining momentum in the past year, particularly in the west of the country bordering Syria. REUTERS/Stringer (IRAQ - Tags: CIVIL UNREST CONFLICT MILITARY CRIME LAW POLITICS)

نوران، قرب الموصل – اهتزت الشاحنة المضروبة وارتدت عبر الميدان، مثيرة سحبا من الغبار قبل أن تزعق وتتوقف بجانب مبنى مهجور. وقفز رامي الرشاش الآلي من الخلف، صارخا في مجموعة من مقاتلي البشمركة طالباً المساعدة. صاح بهم: “أصابنا رصاص قناص. هذا الرجل يحتاج إلى المساعدة. بسرعة”.
سحب مقاتلان الجندي المصاب من الشاحنة. وبملامح عابسة بفعل الألم الذي تصنعه الرصاصة التي حطمت وركه، تمكن من رفع إصبعين داميين ليرسم إشارة نصر عرجاء، ثم تراجع متمدداً على فراش في الجزء الخلفي من سيارة إسعاف مؤقتة لم تلبث حتى انطلقت متقافزة عبر حقول العشب الذهبي نحو مستشفى ميداني قريب.
تحت المضايقة المستمرة من نيران القناصة، والاضطرار إلى التباطؤ بفعل انتحاريي “داعش”، تكبدت القوات الكردية والعراقية خسائر فادحة بينما تحاول شق طريقها بالقتال نحو مدينة الموصل الرئيسية، ثاني أكبر مدن العراق، والمكان الذي أعلن فيه الجهاديون أولاً عن إنشاء “خلافتهم” قبل عامين.
وأظهرت القرى التي سيطر عليها الجيش العراقي والميليشيات الشيعية حديثا على الطرق المؤدية إلى شمال الموصل علامات انسحاب متسرع للجهاديين. فقد تم التخلي عن مخابئ السلاح، وما تزال أواني الطعام غير المأكول في مكانها على المواقد، كما سُلبت العيادات الطبية من الإمدادات. وكانت هناك علامات، أيضاً، على الدفاعات التي حفرها مقاتلو “داعش” لتفادي الضربات الجوية: الأنفاق العميقة الواسعة تحت الأرض، مع مساحات كافية للنوم وتناول الطعام، والتي أُخفيت أفواهها في داخل المباني ذات الطابق الواحد. ويُعتقد أن المتشددين حفروا شبكة من الأنفاق المماثلة تحت الموصل أيضاً.
على الجبهة في نوران
سرعان ما تلاشت أي شكوك حول رغبة “داعش” في الوقوف والقتال في اليوم الرابع من العملية. وتجمع  الآلاف من مقاتلي البشمركة تحت ضوء القمر الساطع فوق خط التلال المتربة على بعد نحو 14 كيلومتراً شمال شرق الموصل، استعداداً لبدء المرحلة الثانية من تقدمهم. وبينما يتحلقون حول نيران المعسكر، حيث يحترق وقود من البلاستيك لدرء البرد ليلاً، ركع بعض المقاتلين لأداء الصلاة بينما أجرى آخرون المكالمات الهاتفية الأخيرة مع أسرهم قبل الانطلاق في الهجوم. وقال أحدهم لوالدته: “أنا بخير. لست في أي مكان قريب من الجبهة، أعدك بذلك”.
ومع بزوغ الفجر، فتحت جرافة ثغرة في الجدار الرملي العالي الذي كان يميز خط الجبهة الكردية مع “داعش” خلال السنتين الماضيتين –منذ اجتاح المتشددون هذه المنطقة بسرعة البرق. وتدفقت المركبات المدرعة والدبابات والمشاة من خلال الفجوة، بينما قصفت المدفعية مقاتلي “داعش” في سلسلة القرى القابعة في السهل المغبر في الأسفل. وأصابت العديد من الغارات الجوية المباني الواقعة على طول الطريق الرئيسي المؤدي إلى الموصل، مرسلة قطعاً من الخرسانة وأعمدة الدخان الرمادي إلى السماء. وانحدرت طائرة استطلاع صغيرة من دون طيار بشكل مُنذر فوق مواقع البشمرغة، قبل أن يتم إسقاطها بعد لحظات بصليات مدوية من نيران الأسلحة الالية.
عانقت مجموعة صغيرة من رجال الميليشيات الكردية المسلحين تسليحاً خفيفاً خط التلال الشمالي قبل أن يهبطوا إلى قرية نوران المهجورة للاستيلاء على أعلى المباني هناك. وسرعان ما رفرفت الأعلام الخضراء والبيضاء والحمراء للقوات الكردية في مهب الريح. وقال آسان عبد السلام، وهو مقاتل يبلغ من العمر 41 عاماً، من مواليد الموصل، بينما يراقب التقدم من موقع صغير على قمة التل: “لقد انتظرنا وقتاً طويلاً لتحرير هذه القرى. القتال سيكون صعباً. نحن نعلم أنهم [داعش] يخططون لاستخدام المفجرين الانتحاريين والقناصة لاستهدافنا”.
وفي غضون ساعات أثبتت كلماته صحتها. فقد أعاقت نيران القناصة من المباني داخل قرية الفاضلية التقدم الكردي. وانطلاقا من بساتين الزيتون الكثيفة، حاول مفجرون انتحاريون يستقلون سيارات مموهة محملة بالمتفجرات ضرب الرتل الكردي. وقد انقلبت بعض مركبات الانتحاريين المثقلة بالألواح المدرعة المثبتة عليها أثناء اندفاعها عبر الحقول. وأصابت القوات الكردية عربتين أخريين بالصواريخ المضادة للدبابات والرشاشات الثقيلة، لكن العديد من المفخخات انفجرت في أماكن قريبة بما فيه الكفاية من الخطوط الكردية وقتلت اثنين من مقاتليهم على الأقل، وجرحت أكثر من 10 آخرين.
وقال أحد قادة البشمرغة لدى عودته من الجبهة، منهكاً من قتال اليوم: “هذه السيارات المفخخة هي نسخة داعش من الغارات الجوية. إنها أكبر من أي شيء رأيناه”.
أبعد إلى الجنوب، أصبحت القوات الخاصة العراقية متورطة في قتال شرس بنفس المقدار بينما تحاول طرد مقاتلي “داعش” من قرية برطلة المسيحية. وفي غضون ساعات، كانت الكثير من مركباتها تسير على الإطارات الحديدية (الجنطات) بعد أن أطلقت النار على إطارات الكاوتشوك. واندفعت سيارة ملغومة من زقاق ضيق وانفجرت قريباً من إحدى الدبابات، فجرحت عدداً من الجنود بينما كانوا يحفرون مواقع دفاعية. وفي مكان قريب، اصطدمت عربة مدرعة بقنبلة مزروعة على جانب الطريق، وأسفر الانفجار عن مقتل خبير تفكيك متفجرات أميركي –وهو الجندي الأميركي الرابع الذي يقتل في هذه المعركة ضد “داعش”. و قال أحد الشهود أنه شاهد في مستشفى ميداني قريب ما لا يقل عن 50 إصابة، بعضها تتضمن فقدان السيقان أو الأذرع.
يقول جبر عباس، مقاتل البشمرغة صاحب الشوارب الكثة البالغ من العمر 60 عاماً، بعد وقت قصير من انفجار سيارة مفخخة أخرى في القوات التي تقاتل فوق التلة إلى الغرب: “هذا أعنف قتال رأيته في حياتي. كان صدام حسين سيئاً، لكن هؤلاء الناس أسوأ بكثير. إنهم يستفيدون من الأرض غير المستوية ليضربونا بكل ما لديهم”.
بعد ظهر يوم الجمعة الماضي، ذهب “داعش” خطوة أبعد، فنسف مقاتلوه جزءاً من مصنع الكبريت جنوب الموصل، مطلقين سحابة بيضاء من الكيماويات السامة إلى عنان السماء، والتي جعلت الجنود يسعلون ويبصقون (القليلون منهم يحملون أقنعة للغاز). وكان القادة العراقيون قد حذروا طويلا من احتمال استخدام “داعش” للهجمات الكيميائية من أجل تبطئ الهجوم على المدينة وضرب الروح المعنوية للمهاجمين.
ولكن، وعلى الرغم من شدة القتال، فإن هناك القليل من الشك في أن القوات الكردية والعراقية تشدد الخناق فعلا على الموصل. وقد أصبحت بعض الوحدات ضمن مسافة سبعة كيلومترات فقط من ضواحي المدينة في وقت إعداد هذا التقرير. وتقوم القوات الأميركية باستطلاع أبرز مواقع “داعش” حول المدينة، أو حتى أقرب. ومع ذلك، ما يزال التقدم بطيئاً، وإذا استمرت شراسة دفاع “داعش” على هذه الوتيرة، فإن الأمر قد يستغرق أسابيعا على الأقل قبل أن يتمكن المهاجمون من دخول المدينة. وبمجرد أن يفعلوا، فيسكون عليهم أن يتعاملوا مع قوة كانت لديها فترة سنتين للتحضير لخوض معركة حضرية، يزيدها تعقيداً ما يقدر بنحو مليون إلى مليون ونصف مدني عالقين في المدينة.
تقول الأمم المتحدة أن “داعش” أجبر فعلياً أكثر من 550 عائلة على مغادرة قراها والذهاب إلى الموصل. وقال مسؤول رفيع في الأمم المتحدة إنه يخشى أن يكون الجهاديون قد خططوا لاستخدام العائلات كدروع بشرية. ويحذر قادة أكراد وعراقيون من أن سقوط المدينة قد يتطلب أشهراً من القتال العنيف.
يتوقع القليلون أن يتشبث “داعش” بالموصل. وبعد حرمانهم من أغلى معاقلهم، ربما يعود المتشددون إلى الظلال لإطلاق تمرد جديد في العراق. وفي مؤشر على نوع العنف الذي قد يأتي لاحقاً، تسلل مقاتلو “داعش” إلى مدينة كركوك الشمالية يوم 21 تشرين الأول (أكتوبر). ومسلحين بالقنابل اليدوية والأحزمة الناسفة والبنادق الهجومية، اقتحم مقاتلو التنظيم العديد من المباني في المدينة قبل الاشتباك مع قوات الأمن الكردية في تبادل لإطلاق النار الذي استمر حتى ساعات متأخرة من المساء. وقال المراقبون أن الهجوم يذكِّر بهجمات طالبان الأفغانية ضد الأهداف في المدن الأفغانية.
فيما كان ذات مرة نقطة تفتيش لـ”داعش” جنوب شرق الموصل، يستقر شعار الجهاديين “باقون ونتوسع” مخطوطاً بكتابة حزينة على جدار كوخ حراسة صغير تضرر في القتال الأخير. لم يعد الجزء الثاني من الشعار سارياً –فالمجموعة الإرهابية في تراجع في العراق وسورية على حد سواء. لكن “داعش”، مثله مثل سابقيه، سوف يبقى. أما في أي شكل سيعاود الظهور، فهو ما ستكشف عنه الأشهر القادمة.

الغد