بريطانيا والمشرق.. هل إلى عودة من سبيل؟

بريطانيا والمشرق.. هل إلى عودة من سبيل؟

580-1

كيف تبدو السياسة البريطانية في الشرق الأوسط؟ وما هو تأثر الانسحاب من الاتحاد الأوروبي على هذه السياسية؟

بريطانيا ما بعد بريكست

في 24 يونيو/حزيران 2016 صوت البريطانيون لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء تاريخي، ألقى بظلاله على مستقبل بريطانيا، وآفاق علاقتها بالعالم عامة.

إن بريطانيا اليوم ليست كما قبل الاستفتاء، ولا يحتاج المرء إلى كثير عناء ليستنتج بأن المناخ العام في البلاد قد تغير على نحو لم تتصوره إلا قلة من الناس. إننا بصدد تحول كبير. وإن أحدا في هذا العالم لا يجد نسفه بعيدا عما حدث أو بمنأى عن تداعياته الراهنة أو المستقبلية.

وتاريخيا، كانت بريطانيا قد تبنت موقفا متميزا عن القارة الأوروبية، باعتبار أنها جزيرة، وأن خيارها يبقى أنغلوسكسونيا.

وحتى بعد انضمامها (إلى جانب إيرلندا والدنمارك) إلى عضوية الأسرة الاقتصادية الأوروبية في العام 1973، رفضت بريطانيا الدخول في النظام النقدي الأوربي، وأرجأت إلى أجل غير مسمى دخولها إلى منطقة اليورو ونظام شنغن.

بريطانيا هذه، تبدو اليوم وقد عادت -على صعيد المزاج السياسي- إلى عصر الخمسينيات، إنما بانقسام أكثر وضوحا في الرأي العام.

“في خياراتها الخارجية -كقوة عظمى- لا يسع بريطانيا إحداث تحولات كبيرة. وحتى المحدودة منها لا يمكن مقاربتها على نحو شامل إلا في أفق زمني طويل. ويشمل هذا ملف الهجرة الذي شكل محورا مركزيا في نقاشات الاستفتاء”

إن الأمر هنا يتعلق أساسا بما سيحدث على مستوى السياسات الاجتماعية والاقتصادية، وماهية وظيفة الدولة وعلاقتها بالمجتمع.

في خياراتها الخارجية -كقوة عظمى- لا يسع بريطانيا إحداث تحولات كبيرة. وحتى المحدودة منها لا يمكن مقاربتها على نحو شامل إلا في أفق زمني طويل. ويشمل هذا ملف الهجرة الذي شكل محورا مركزيا في نقاشات الاستفتاء.

وبالنسبة لعلاقتها بالوطن العربي، وتحديدا بالمشرق، حيث الأحداث الكبرى، والأزمات الراهنة والمزمنة، سوف نشهد استمرارا في السياسات، مع قدر من التغيير ففي مقاربتها للأزمتين السورية والعراقية ستكون لندن أكثر قربا من الولايات المتحدة. وفي الداخل الخليجي سيكون هناك تركيز للسياسات القائمة، لكن الخليج ليس بديلا عن العمق الأوروبي الذي سيبقى مركزيا لبريطانيا بحكم الأمر الواقع. والخروج من الاتحاد الأوروبي ليس خروجا من أوروبا. هو مجرد ابتعاد عن سياسات بذاتها.

السياسة البريطانية تجاه سوريا
على صعيد مقاربتها للمسألة السورية، يُمكن القول إن السياسة البريطانية حيال سوريا تتسم بقدر ملحوظ من الحذر، وهي تتحرك في ظل رأي عام تهيمن على ذاكرته حرب العراق عام 2003 التي قسمت البريطانيين، ولا تزال تستحوذ على قدر كبير من مقاربتهم للشؤون الخارجية.

لقد تجنبت الحكومة البريطانية في البدء حتى مجرد توسيع عملياتها الجوية في العراق لتشمل السماء السورية، في سياق مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ولم تقدم على هذه الخطوة حتى صدر تفويض من مجلس العموم في الثاني من ديسمبر/كانون الأول 2015، وحيث نفذت أولى الضربات بعد ساعات على تصويت المجلس، حيث دعم المشروع المقدم من الحكومة 397 صوتا مقابل 223.

كذلك، شاركت بريطانيا الولايات المتحدة رؤيتها القائلة بأن فرض مناطق حظر جوي، أو مناطق أمنية، في أي جزء من سوريا قد يمثل بداية تورط غير محسوب في الأزمة. وهذه الرؤية سابقة للتدخل الروسي العسكري في سوريا، الذي بدأ في نهاية سبتمبر/أيلول 2015.

إن لندن تعد حاليا طرفا أساسيا في الحملة الجوية الدولية ضد الجماعات المتطرفة في سوريا والعراق معا، وهي قد طورت لهذه الغاية قاعدتها العسكرية الكبيرة في نيقوسيا. كما نشرت قدرات أمنية إضافية في بعض دول المنطقة، كما أنها بصدد تشييد قاعدة عسكرية في إحدى دول الخليج، ستكون الأولى من نوعها منذ الانسحاب البريطاني من شرق السويس نهاية عام 1971. وهذا بالطبع إضافة “للتسهيلات” القديمة التي تتمتع بها القوات الجوية البريطانية جنوب الخليج العربي.

على الصعيد السياسي، التزمت بريطانيا مقاربة حذرة من المشروع الكردي الفيدرالي في شمال وشرق سوريا، وذلك على النقيض من دعمها التقليدي لأكراد العراق.

والآن، وبعد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، يُمكن للمرء أن يتوقع مزيدا من الاقتراب بين الرؤيتين البريطانية والأميركية حيال سوريا. وهذا مع ضرورة الإشارة أيضا إلى أن الدور البريطاني الراهن في سوريا والعراق يعد في الأصل دورا مستقلا، وليس جزءا من عملية أوروبية مشتركة. ومثل هذه العملية لا وجود لها في الأساس، كما لا وجود لدور عسكري مباشر لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ولا لأي تجمع إقليمي آخر.

وبالنسبة لبريطانيا، فإن سوريا تمثل تحديا وفرصة في الوقت ذاته؛ فهي تمثل تحديا كبيرا يواجه الأمن الدولي، بما في ذلك أمن أوروبا وبريطانيا نفسها، على خلفية تدفق طوفان اللاجئين، وتمدد المؤثرات الأمنية للحرب المستعرة، وعودة مقاتلين مدربين إلى الأراضي الأوروبية والبريطانية، وزيادة مناخ التقاطب الغربي الروسي بما يحمله من ضغوط مباشرة على سياسة لندن وارتباطاتها.

“يُمكن القول إن السياسة البريطانية حيال سوريا تتسم بقدر ملحوظ من الحذر، وهي تتحرك في ظل رأي عام تهيمن على ذاكرته حرب العراق عام 2003 التي قسمت البريطانيين، ولا تزال تستحوذ على قدر كبير من مقاربتهم للشؤون الخارجية”

في المقابل، تعد سوريا فرصة ورهانا بالنسبة لبريطانيا، كون التسوية السياسية الواقعية فيها تمثل خطوة رئيسية باتجاه تطويق مصادر التهديد القادمة من الشرق. كما أن هذه التسوية، متى أنجزت، من شأنها أن تحد من منسوب التقاطب الإقليمي والدولي، وتخفض بشدة درجة الغليان السياسي في عموم المنطقة، وتعبد الطريق لإعادة بناء واسعة النطاق للسياسة البريطانية في الشرق، على نحو ينسجم ومصالح بريطانيا وحسابات أمنها القومي بعيدة المدى.

ويُمكن أن نشير في هذا السياق إلى أن سوريا قد مثلت تقليديا موضع اهتمام بارز لدى مراكز البحث البريطانية، إن على مستوى تاريخها السياسي الداخلي، أو موقعها في توازنات القوى في الشرق الأوسط، كما أن عددا هاما من الكتب الكلاسيكية عن التاريخ والمجتمع السوري قد كتبت من قبل مؤلفين بريطانيين.

الدور البريطاني في العراق
على صعيد المقاربة البريطانية للوضع في العراق، ظلت لندن داعما أساسيا للعملية السياسية في بغداد، منذ إعادة إنتاجها بعد غزو العام 2003، وهي تعتبر الآن أحد الأطراف الأساسية في المجتمع الدولي الداعمة للدولة العراقية، على الكثير من المستويات، بما في ذلك التسليح والتدريب والاستشارات وجهود الإغاثة الإنسانية.

وكانت بريطانيا القوة الثانية بعد الولايات المتحدة في الحملة العسكرية التي أسقطت حكومة الرئيس العراقي صدام حسين، في التاسع من أبريل/نيسان من العام 2003.

وقد أنهت القوات البريطانية مهامها في العراق في 31 يوليو/تموز 2009. وبلغ عديد القوات البريطانية وقت مغادرتها نحو مائة جندي من أصل 46 ألفا شاركوا في الحرب.

وجاء انسحاب القوات البريطانية بعد خمسين عاما على خروج بريطانيا العظمى من العراق في مايو/أيار 1959، عندما غادر آخر جنودها قاعدة الحبانية في نواحي كربلاء المقدسة.

الدور البريطاني في الخليج
على صعيد السياسة البريطانية في الداخل الخليجي (أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية)، يبقى التاريخ ذو دلالة بالغة فيما نحن بصدده اليوم.

هذا التاريخ رمى بظلاله على كل شيء يرتبط بعلاقة المنطقة ببريطانيا، كما علاقاتها الدولية عامة، بل وأصل تشكلها الجيوسياسي. ومن دون العودة إلى تاريخ الخليج البريطاني لا يُمكن قراءة حاضره ولا فهم مستقبله.

في يوم مضى، أحكمت الأساطيل البريطانية قبضتها على هرمز وباب المندب ومداخل السويس. وشُيدت مكاتب البريطانيين في شيراز وبندر عباس والبصرة والكويت ومدن أخرى في الداخل الخليجي.
إلا أن البريطانيين كان عليهم أن يدفعوا، في نهاية المطاف، ثمن هيمنة الحسابات الكونية على حضورهم في الخليج وعموم شرق السويس، وحيث أتت الحرب العالمية الثانية بتداعياتها القاسية لتزيد حجم الضغوط على الخزانة البريطانية. وهنا جاء الانسحاب من الخليج نتاجا لمعطى بريطاني داخلي بقدر ما هو إفرازا لمتغير كوني، تمثل في بروز القوتين الأميركية والسوفياتية على حساب القوى الأوروبية، وبالأخص البريطانية والفرنسية.

وبالمعايير الإستراتيجية، فإن التحول الأهم قد حدث في مطلع العام 1980 مع إعلان مبدأ كارتر، الذي شرع الاستخدام المباشر للقوة العسكرية في المنطقة، وأعيد على ضوئه بناء الوجود الأميركي فيها، وحيث تُوجت إعادة البناء هذه بإعلان الرئيس رونالد ريغان بعد أربعة أعوام عن تشكيل القيادة المركزية (السنتكوم).

ومنذ ذلك التاريخ، على وجه الخصوص، يُمكن النظر إلى الدور البريطاني في الخليج باعتباره رافدا ومعززا للوجود الأميركي. وعلى الرغم من أن واشنطن لا تحتاج إلى بريطانيا في الخليج، بالمعنى اللوجستي والعملاني، فإن حضورها الأمني فيه يُعد حاجة سياسية ذات مغزى، إن على صعيد العلاقات الأميركية الخليجية أو الأميركية البريطانية.

“يُمكن النظر إلى الدور البريطاني في الخليج باعتباره رافدا ومعززا للوجود الأميركي. وعلى الرغم من أن واشنطن لا تحتاج إلى بريطانيا في الخليج، بالمعنى اللوجستي والعملاني، فإن حضورها الأمني فيه يُعد حاجة سياسية ذات مغزى، إن على صعيد العلاقات الأميركية الخليجية أو الأميركية البريطانية”

وبطبيعة الحال، ليس ثمة مجال للمقارنة بين مستوى الحضورين: البريطاني والأميركي في المنطقة، كما ليس صحيحا، بحال من الأحوال، القول بوجود طابع تنافسي بين بريطانيا والولايات المتحدة في الساحة الخليجية.

ولا ترتبط أقطار الخليج باتفاقيات أمنية أو دفاعية جماعية مع أي من القوى الدولية، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية. والحال ذاته بالنسبة لبريطانيا. وجميع الاتفاقيات القائمة على هذا الصعيد هي اتفاقيات ثنائية حصرا.

وتُجري الولايات المتحدة مناورات عسكرية منتظمة مع أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وخاصة في حوض الخليج وبحر العرب، وتتولى “السنتكوم” الإشراف على الأنشطة العسكرية والتدريبية التي تجريها الولايات المتحدة. هذا في حين لا توجد تدريبات عسكرية منتظمة بين بريطانيا وأقطار الخليج.

في القادم من الأيام، يُمكن توقع تطور الوجود الأمني البريطاني في الخليج العربي في ضوء إعادة تشكيل السياسات في لندن، كما يُمكن في ضوء ذلك أيضا توقع المزيد من التعاون البريطاني الأميركي. وهذا يشمل الداخل الخليجي كما العراق.

على المستويات السياسية والمدنية العامة، لن يترك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أثرا ذا أهمية على سياستها الخليجية، والأمر هنا قد لا يتعدى بعض المسائل ذات الطابع التقني، التي يُمكن إعادة إنتاجها على نحو سلس.

من جهة أخرى، يُمكن القول إن عودة مناخ الحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة قد يكون سببا إضافيا لزيادة الدور البريطاني في الشرق الأوسط، أمنيا وسياسيا. وبريطانيا لن تكون في موقع الوسيط، على النحو الذي يمكن توقعه من دول مثل إيطاليا أو السويد، إلا أن حضورها في الأزمات الإقليمية، مثل سوريا والعراق، من شأنه أن يحجم نواتج التقاطب ويحد من مضاعفاته الفعلية أو المحتملة.

الخلاصة هي أن بريطانيا ما قبل “بريكست” ليست كما بعدها، لكنها ستبقى حاضرة وذات دور كبير في هذا الشرق. ونحن نتطلع لأن تكون طرفا مؤثرا في نجاح المساعي الدبلوماسية لحل الأزمة السورية. وأن تعمل على تعزيز فرص الأمن والاستقرار الإقليمي، وتجعل من السلام حقيقة ثابتة في هذه المنطقة الحساسة من العالم.

عبدالجليل زيد المرهون

الجزيرة