رئاسة الجنرال تعمق أزمة التشرذم المسيحي

رئاسة الجنرال تعمق أزمة التشرذم المسيحي

_93527_leb3

لم يكن اللبنانيون بحاجة إلى ظهور موجة حرب تصريحات بين رئيس حزب الكتائب اللبنانية النائب سامي الجميّل وصهر زعيم التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل، حتى يتبين لهم حجم الانشقاق الماروني الكبير الذي يعكس بالطبيعة حالة التشتت المسيحي.

يترافق هذا السياق مع سياقات أخرى أظهرت أن الخلاف حول رئاسة الجنرال عون ساهم في تظهير أزمة مارونية ومسيحية وجودية الطابع. تتصل هذه الأزمة بانحصار العلاقات بين مختلف المكونات المارونية البارزة في الشكل الصراعي، الذي لا يسمح بقراءة انتخاب الجنرال عون رئيسا سوى بوصفه فصلا من فصول هذا الصراع وليس خاتمة له.

تضحيات قواتية

تستعمل القوى المسيحية المؤيدة لوصول الجنرال عون إلى سدة الرئاسة خطاب التضحية كوصف لقبولها بهذا الأمر وهو الوصف نفسه الذي استخدمه السيد حسن نصرالله لإعلان قبوله تولي سعد الحريري رئاسة الحكومة.

النائب عن القوات اللبنانية ستريدا جعجع عبّرت في تصريحات لها أطلقتها مؤخرا عن هذا النزوع قائلة “لولا تضحيات الحكيم ووعيه لم يكن للبنان رئيس، وأهمية هذا الوعي وهذه التضحية أن لهما وجهين: في البداية كان الحكيم هو المرشح للرئاسة، ورغم أنه يعتبر رجلا قويا لكنه ضحى بنفسه ليكون للبنان رئيس.

أما الوجه الثاني، فالشخص الذي ندعمه للرئاسة كنا على خلاف سياسي معه خلال فترة من الفترات، لكن الحكيم توصل لضرورة عقد مصالحة تاريخية معه ويقلب الصفحة ويرشحه للرئاسة، إنها البطولة بحد ذاتها”.

لا يرشح من تصريحات ستريدا جعجع سوى التأكيد على أن الخلاف المسيحي لا يزال قائما.

وتعلن مفردات البطولة والمصالحة التي استعملتها في وصف قبول سمير جعجع بترشيح الجنرال ميشال عون أن السياق الحربي لا يزال هو المتحكم الأبرز بالعلاقات بين هذين المكونين، وأن هذه المرحلة التي قد يفتحها انتخاب الجنرال هي إعادة تنظيم للصراعات وشكلها، في حين أن جوهرها لا يزال قائما.

وكان قد نقل عن جعجع أنه اعتبر أن ترشيحه للجنرال لم يكن سوى لحماية ظهره مسيحيا. لم يكن يتوقع أن يعمد سعد الحريري إلى تبنّي هذا الترشيح لأنه غير مضطر، كما كان قد سبق له إرسال إشارات مشفرة إلى الحريري، يدعوه فيها إلى عدم التفكير بالركون إلى خيار ترشيح عون، حين قال إن الحريري كان قد خسر نصف شعبيته حين رشّح فرنجية وإنه سيخسر النصف الباقي في حال رشّح عون.

هزائم كتائبية

يتلقى حزب الكتائب رئاسة الجنرال الوشيكة بوصفها هزيمة موصوفة، وتسليما للبلد لمرشح فريق 8 آذار الذي لا يبالي بالقوانين، ولا بالدساتير، ويفرض وصاية على البلد بواسطة السلاح.

أعلن رئيس حزب الكتائب سامي الجميل موقفه من انتخاب الجنرال عون في مؤتمر صحافي مؤخرا حفل بجملة من المواقف الحادة التي تقف ضد هذا الترشيح ومعناه.

لم يقتصر هجوم الجميل على التيار الوطني الحر بل شمل القوات اللبنانية كذلك، فقد ردّ الجميل على خطاب القوات الذي يدّعي أن هذا الاستحقاق الرئاسي قد صنع في لبنان بالتأكيد على أن ما صنع في لبنان هو “ثورة الأرز التي صنعتها إرادة اللبنانيين. أما هذا الاستحقاق وطريقة مقاربته فهو بعيد كل البعد عن طموح الشعب اللبناني، وهو صنع بمنطق التعطيل والفرض”.

ردّ الجميل على مقولة وحدة المسيحيين التي تم ربطها بترشيح عون قائلا “إذا كان البعض يعتبر أن هذا الانتخاب يضمن حق المسيحيين بانتخاب الممثل الأقوى مسيحيا، فنحن نعتبر أن هذا الانتخاب يعطي حزب الله الحق الحصري والأحادي باختيار الرئيس وفرضه على اللبنانيين أيا تكن صفته التمثيلية”.

لم يتأخر ردّ الوزير جبران باسيل على تصريحات الجميل حيث أعلن بعد لقائه الدكتور جعجع في معراب أن “من اختار أن يكون خارج الورشة الوطنيّة فهذا خياره، إلا أنه لن يكون خارج الوطن وهذا الكلام لا يأتي في إطار الردّ على أحد، البعض يرى نفسه بمكان ثان فهذا خياره وهذه مرحلة جديدة للبنان سيكون فيها وحدة وطنية، نحن أمام لحظة تاريخية وأمام رئيس صنع في لبنان ولإرادة لبنانية نريدها جامعة”.

يتعامل الوزير جبران باسيل مع وصول الجنرال بوصفه انتصارا نهائيا كامل الأركان يمكن لمن يدخل فيه أن يحجز لنفسه موقعا في تركيبة الوحدة الوطنية، أما من أصرّ على الخروج فإنه سيضع نفسه في مواجهة أبعاد اللحظة التاريخية التي تعبّر عن الإرادة اللبنانية.

هذا الكلام العام استتبع بمواقف للتيار الوطني الحر تؤكد أن من يرفض تأييد الجنرال فإنه لا يحق له المطالبة بحصة وزارية في الحكومة الجديدة. من هنا لا يبدو التيار الوطني الحر مهتما بردم الصدع في العلاقات المسيحية المسيحية بقدر ما يعتبر نفسه قد أصبح مرجعا ضامنا للمسيحيين من خلال موقع الرئاسة.

يجب تاليا على القوى المسيحية أن تعترف بمرجعيته وأن تلغي خصوصياتها، وتدفن هواجسها وتمايزها معه لتدخل في لحظة يحرص التيار العوني على تحويلها إلى انتصار خاص له.

هذا الانتصار ليس على خصوم التيار الوطني الحر السياسيين الذين ركنوا في النهاية إلى خيار ترشيحه من قبيل زعيم تيار المستقبل سعد الحريري، أو الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، بل بشكل خاص على الأطراف المسيحية التي يظهر واقع الحال أن لا أحد منها يعتبر وصول الجنرال انتصارا له، بل هزيمة يريد الحد من آثارها. ينطبق الأمر على الحلفاء المستجدين وعلى الخصوم الصريحين.

ذاكرة فرنجية

فتح المرشح الرئاسي حرب الذاكرة ضد الجنرال عون مباشرة ومعه رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع معتبرا في لقاء تلفزيوني أن تاريخ الجنرال ميشال عون والدكتور سمير جعجع لا يرتبط بالاستقرار والأمان والازدهار، كما ذكّر بتاريخ علاقة الجنرال عون باتفاق الطائف والذي بسببه حل مجلس النواب عام 1989 وشنّ حربين بينما يعلن الآن عن نيته في تطبيقه بشكل كامل.

أشار فرنجية إلى نزعات الجنرال الإلغائية، وتوقع أن يكون عهده حافلا بالصراعات والتوترات، وبرّر استمراره في الترشح بأن الأمر بات مسألة كرامة قائلا “اليوم بات الأمر يتعلق بكرامتي وليس بالأصوات. فنحن غير موجودين في المعادلة عندهم. يقولون إن حزب الله يسحبني، هذا الأسلوب الاستعلائي مرفوض وسنعارضه”.

ردد فرنجية الخطاب الذي يكرره مناهضو وصول الجنرال، وأشار إلى جملة المخاوف المرتبطة بشخص الجنرال، وقدم تصورا كارثيا لعهده مع أنه لا يزال يعتبر أن فوزه هو فوز للخط السياسي الذي ينتمي إليه.

تجتمع كل هذه المفارقات لتؤكد على أن هناك نسقا أعلى من التحالف السياسي يحكم علاقة الأقطاب الموارنة ببعضهم، ويعلن أن خريطة ردود الأفعال التي حكمت منطق الترشيحات والترشيحات المضادة لم تبن على رؤية سياسية بقدر ما قامت على منطق المناكفة والصراع.

واقع الحضور الماروني

تفيد نظرة سريعة على تاريخ الوصاية المارونية على لبنان أن هذه الوصاية، والتي قبلت بها كل الأطراف، لم تكن ذات طابع عسكري على الإطلاق، بل كانت تتخذ شكل حق طبيعي للنخبة الأكثر ثقافة وتعليما. لم يعد هذا الواقع النخبوي محصورا في الموارنة، ولكن المفارقة أن المنطق الذي طبع الحضور الماروني في المرحلة الحالية، يستند إلى عناصر تُناقض بشكل كبير طبيعة الحضور الماروني التاريخي وخصوصيته.

ليس أدل على ذلك سوى أن البطريركية المارونية وفي محاولاتها الحثيثة لإيجاد حلّ للفراغ الرئاسي الذي يهدد الاستمرار فيه الحضور المسيحي، ليس في لبنان وحسب ولكن في الشرق، عمدت إلى جمع من اعتبرتهم الأقطاب الأربعة وأعلنت عن حصر الترشيح الرئاسي فيهم.

الأقطاب الأربعة وهم الرئيس السابق أمين الجميل، وسمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية، والجنرال ميشال عون قائد التيار الوطني الحر، والنائب سليمان فرنجية رئيس حزب المردة. يقوم حضور كل هذه الشخصيات على تاريخ عسكري من خلال مشاركتها في الحرب الأهلية على الرغم من أن الواقع أفرز هزيمة مسيحية فيها بشكل من الأشكال.

ما يقوله واقع تكريس الحضور الماروني وحصره بهذه الشخصيات أن السيكولوجيا المارونية إذا صح التعبير ترى في موقع الرئاسة تعويضا عن الهزيمة العسكرية التي لحقت بها خلال الحرب الأهلية، وتعويضا عن الجرح النرجسي المتمثل بتناقص صلاحيات الرئيس مع اتفاق الطائف. يعني هذا الأمر أن هناك ميلا مارونيا إلى إقصاء العناصر التي كرست تاريخا واقع الحكم الماروني المقبول، وإلى تكريس أبطال الحرب الأهلية كممثلين حصريين عن المسيحيين.

يبدو لافتا كذلك أن فكرة التمثيل الشعبي، واقتصاره على المكونات التي ينطق باسمها هؤلاء الأقطاب الأربعة لم يتم إثباتها بشكل واضح على الإطلاق، لا بل على العكس من ذلك، فإن كل المشاهد الشعبية التي كان يراد استعمالها للدلالة على قوة التمثيل المسيحي لأحد المكونات انتهت بمشهد هزيل جماهيريا، لا يمكن اعتباره سوى دلالة لا تخطئ على واقع يأس شعبي مسيحي يمثل أكثرية مسيحية صامتة.

هكذا فإن وصول الجنرال عون إلى سدّة الرئاسة وما تبعه من ترويج على أنه وصول للمسيحي الأقوى، لا يعكس سوى خيال ماروني مأزوم. لم ينتبه هذا الخيال إلى واقع التشرذم المسيحي، ولا إلى واقع توزّع القوى المسيحية على فريقي 8 و14 آذار، وهي قوى تعكس الصراع السني الشيعي، ولا يتخذ فيها المسيحيون موقعا مركزيا، بل يتم التعامل معهم كمجرد إضافة تسمح لكلّ من السنة والشيعة الادعاء بأنهم يمثلون حالة وطنية وليس طائفية.

يعلن الجنرال عون أنه سيطبق اتفاق الطائف، ولكن حزب الله في إصراره الملحوظ على تصويره كرئيس من إنتاجه، وعلى تصوير وصوله بوصفه تتويجا للانتصارات العسكرية على السنة في سوريا عموما وفي حلب خصوصا، إنما يضعه في مواجهة مشروع المؤتمر التأسيسي الذي يهدف إليه حزب الله والذي لم يكن ترشيح الحريري له سوى محاولة لتجنبه.

الخطير في كل هذا السياق أن التشرذم المسيحي لا يسمح للجنرال بمقاومة مشاريع حزب الله بشكل فعال خلال فترة رئاسته، وكذلك فإن انضمام المسيحيين في المنطقة إلى حلف الأقليات بشكل أو بآخر، يضعهم في مواجهة مفتوحة مع المكونات الأكثرية التي تجري محاولات عديدة لتفتيت واقعها الديمغرافي الأكثري، وتحويلها إلى مكونات أقلوية متفرقة مقطعة الأوصال جغرافيا وديمغرافيا.

تعلن شبكة الاتفاقات التي أعلن عنها بين ميشال عون وبين رئيس تيار المستقبل سعد الحريري عن نزعة إعادة إنتاج واقع حلف ماروني سنّي كان يمثل صمام أمان تاريخي للاستقرار اللبناني. لا يبدو أن هذا الاتفاق، الذي أعلن الطرف الشيعي عن نيته الدخول في مواجهة علنية معه، قابل لخلق واقع مسيحي جديد يعيد إنتاج الحضور المسيحي الخاص في المنطقة، بل يبدو علامة على أزمة مسيحية مفتوحة.

تضع هذه الأزمة الرئاسة التي لم ينتجها قرار مسيحي في مواجهة تحديات حادة وعنيفة، وأهمها واقع التشرذم المسيحي الذي ينذر بأن يكون الجنرال عون خاتمة الرؤساء المسيحيين، لا بل أكثر من ذلك خاتمة الرئاسة المسيحية والدور المسيحي في المنطقة.

شادي علاء الدين

صحيفة العرب اللندنية