درسان للرئيس الأميركي القادم

درسان للرئيس الأميركي القادم

580

عندما نظرت من نافذتي للميناء في مدينة ناغازاكي الرائعة في اليابان تبادرت لذهني فكرتان ترتبطان بشكل وثيق بالرئيس الأميركي القادم.

لقد تحملت ناغازاكي أسوأ شرور البشرية؛ ففي أغسطس/آب من سنة 1945 دمرت قنبلة بلوتونيوم المدينة مسببة أضرارا مادية جسيمة ومعاناة إنسانية لا توصف، ولكن ومنذ ذلك الوقت أصبحت المدينة تمثل أفضل الإنجازات البشرية حيث نهضت من الأنقاض بفضل روح وجرأة اليابانيين واليابانيات.

لكن ناغازاكي -واليابان بشكل عام- لم تكن دائما مفتوحة للعالم قبل أن تعبر المحيط للتواصل مع جاراتها القريبات مثل الصين، وحليفاتها البعيدات مثل الولايات المتحدة الأميركية، فلقرون عديدة كانت العقول اليابانية والحدود اليابانية مغلقة بشكل واضح.

“يتوجب على الرئيسة كلينتون مع صناع السياسة الآخرين التركيز على الدور القيادي الذي لعبه التنوع في الدفع بأميركا نحو النجاح، فتوفير الملاذ لأناس من جميع أرجاء العالم في مكان يخضع جميع الناس فيه لنفس القواعد والأحكام كان من المصادر الرئيسية لقوة أميركا في معظم تاريخها”

يوجد على أحد تلال ناغازاكي تذكير صارخ بهذه العقلية الراديكالية المنغلقة، فهناك نصب تذكاري لإحياء ذكرى استشهاد 26 كاثوليكي تم صلبهم في نهاية القرن السادس عشر كجزء من الجهود للقضاء على نمو المسيحية باليابان. يقوم المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي بعمل فيلم عن تلك الإحداث بناء على رواية شوساكو إيندو “الصمت “.

لقد جاء اعتناق اليابان للحداثة بعد قرون من تلك الإحداث وذلك في أواخر عقد 1860 من خلال إصلاح ميجي الذي استمر لعقود عديدة، وعوضا عن خسارة ثقافتها وتقاليدها تمكنت اليابان من مزج الاثنين معا أي التقدم للإمام بدون نسيان الماضي، وهذا التوازن ينعكس في العمارة اليابانية وهي مغرقة في الحداثة والتقاليد في آن واحد.

إذن ما علاقة ذلك كله بالانتخابات الأميركية؟ أولا، الولايات المتحدة الأميركية مثل بعض أجزاء أوروبا تعيش في خطر الدخول في نفس الفترة من العقول والحدود المغلقة وبينما من المرجح أن تهزم هيلاري كلينتون الأكثر اعتدالا دونالد ترامب الانعزالي بشكل متهور، إلا أن ردة الفعل الرجعية ضد الانفتاح والتي ساهمت في صعود ترامب لن تتبخر لوحدها.

بالطبع يتوجب على الرئيسة كلينتون مع صناع السياسة الآخرين التركيز على الدور القيادي الذي لعبه التنوع في الدفع بأميركا نحو النجاح، فتوفير الملاذ لأناس من جميع أرجاء العالم في مكان يخضع جميع الناس فيه لنفس القواعد والأحكام كان من المصادر الرئيسية لقوة أميركا في معظم تاريخها حيث تتجلى هذه الفكرة في ختم البلاد: (واحد من بين الكل).

لكن يتوجب على كلينتون التعامل مع بعض المظالم الحقيقية التي أشعلت ردة الفعل الرجعية ضد الانفتاح الاقتصادي. إن عمل برنامج للبنية التحتية يخلق أعدادا ضخمة من الوظائف المنتجة بالإضافة إلى توزيع الثروة سيشكل بداية طيبة، علما بأنه سيكون أسهل بكثير تحقيق ذلك لو فاز حزبها الديمقراطي بمجلس الشيوخ كذلك، وبتبني تلك المقاربة تستطيع الولايات المتحدة الأميركية استعادة سمعتها “كأرض الفرص” والتي كانت مهمة للغاية للقوة الناعمة الأميركية في الماضي.

وبينما تعمل كلينتون على رأب الصدع في الوطن، سيتوجب عليها عمل الكثير في الخارج وهنا يكمن الدرس الثاني من تاريخ ناغازاكي: التهديد الكبير الذي تشكله الأسلحة النووية.

اليوم فإن كوريا الشمالية هي أكثر دولة تجسد مثل هذا التهديد؛ فالنظام المتقلب لذلك البلد الذي يقوده شخص من أكثر الأحداث الجانحين قوة على مستوى العالم كيم يونغ أون لا يمتلك أسلحة نووية فحسب، بل أيضا يعمل على تطوير قدرات بعيدة المدى للصواريخ. وقد أظهرت الاختبارات التي جرت مؤخرا للأسلحة النووية والصواريخ بعيدة المدى-بما في ذلك أقوى اختبار نووي على الإطلاق في تاريخ البلاد جرى الشهر الماضي- كيف أن هذا البلد المنعزل قد أصبح قريبا جدا من تحقيق أهدافه.

“لا يوجد أحد يمتلك من النفوذ ما يملكه زعماء الحزب الشيوعي الصيني على بيونغ يانغ، ومن الممكن جدا أنه خلف الأبواب المغلقة قد بدأ الصينيون بالفعل اختبار قدرتهم على التلاعب ببعض من الشخصيات الغامضة حول كيم والذين يبدو على نحو متزايد أنه مصاب بجنون الشك والارتياب من محاولة وقوع انقلاب ضده”

حتى لو تبنت كلينتون مقاربة منضبطة ومقيدة لاستخدام القوة في النزاعات الدولية كما فعل الرئيس باراك أوباما خلال السنوات الثماني الماضية فإنها لن تستطيع الاكتفاء بالمشاهدة لو أصبحت لكوريا الشمالية القدرة على شن هجمات نووية بعيدة المدى، حيث يتوجب على أميركا حماية حليفاتها الآسيويات (ناهيك عن مواطنيها لو استطاعت كوريا الشمالية مهاجمة الولايات المتحدة الأميركية نفسها).

لكن من المؤكد أن التصرف الأحادي لن يكون الخيار الأفضل، حيث من الأفضل إقناع الصين بالتدخل لإخضاع نظام كيم، وهو ما يتطلب دبلوماسية ماهرة.

إن المسؤولين الصينيين ما زالوا يصرون على أنه ليس باستطاعتهم التحكم بكوريا الشمالية وهذا يمكن أن يكون صحيحا إلى حد ما ولكن من الواضح أنه لا يوجد أحد يمتلك مثل هذا النفوذ الكبير الذي يمتلكه زعماء الحزب الشيوعي الصيني على بيونغ يانغ، ومن الممكن جدا أنه خلف الأبواب المغلقة قد بدأ الصينيون بالفعل اختبار قدرتهم على التلاعب ببعض من الشخصيات الغامضة حول كيم والذين يبدو على نحو متزايد أنه مصاب بجنون الشك والارتياب من محاولة وقوع انقلاب ضده.

لكن من غير المحتمل أن توافق الصين على المزيد من التدخل المباشر في كوريا الشمالية بدون بعض المقايضة، فربما يمكن لأميركا مع حليفاتها الآسيويات إجراء تغيير بسيط في مقاربتها المتعلقة بمطالبات الصين الإقليمية غير القانونية في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي، وهذا الاقتراح بالطبع لن يحظى بالشعبية وخاصة بين جارات الصين ولكن ربما يكون ذلك الاقتراح ضروريا من أجل القضاء على التهديد النووي لكوريا الشمالية فنزع فتيل الطموحات النووية لكوريا الشمالية يستحق مثل تلك التضحية.

عندما ننظر للعالم من منظور ناغازاكي، تصبح الحاجة للمحافظة على التعددية والانفتاح مع إحراز تقدم في التركيز الإستراتيجي الأميركي على آسيا أكثر وضوحا بشكل صارخ. إن هذا المنظور هو المنظور الذي يجب أن يتبناه الرئيس الأميركي القادم.

كريس باتن

الجزيرة