تركيا والخليج… الرد على الاستهداف

تركيا والخليج… الرد على الاستهداف

81cf6f76-2f12-4d7c

تواصل تركيا التصعيد ضد السياسة الأميركية في شمال سورية التي ما زالت تحمي وجود مجموعاتٍ لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) ووحدات الحماية الشعبية في مدينة منبج غرب الفرات، وتعلن (تركيا) أن “شراكتنا ستنتهي”. وسخِر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من أميركا التي طالبت بلاده بعدم الدخول إلى العراق، من دون إذن من الحكومة العراقية، قائلاً: قبل 14 سنة، هل قال لكم صدام حسين تعالوا حتى دخلتم العراق؟
وأعلنت تركيا، من دون تردّد، أن قانون “جاستا” الأميركي يستهدف السعودية، ويعمل على الابتزاز السياسي والاقتصادي ضدّها، لكنّه أيضاً يستهدف المنطقة بكاملها، إلى جانب دول الخليج، هذه المرة، في مواجهة التصعيد الإيراني والسلوك الأميركي، وتفعيل خطط تحقيق رغبات شعوب المنطقة، وتطلّعاتها في رفض سياسات التفريق والشرذمة، كما قال وزير خارجيتها، مولود شاووش أوغلو.
استقبلت أنقرة، قبل أيام، ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن نايف، ووزير الخارجية الإماراتي، الشيخ عبد الله بن زايد، وشاركت في القمة التركية الخليجية في الرياض بجدول أعمال ثنائي إقليمي موسع، وكانت جنباً إلى جنب مع السعودية وقطر في تنسيق المواقف حيال تطورات الملف السوري في اجتماع لوزان. وقال ولي العهد السعودي “الاستهداف واضح، ولا يختلف عليه اثنان”. وأكد الوزير الإماراتي على أهمية التنسيق مع تركيا لحل أزمات المنطقة، خصوصاً في سورية والعراق واليمن وليبيا، شاكراً لتركيا وقوفها مع حق الإمارات في إعادة الجزر التي تحتلها إيران، متجاوزاً التوتر في العلاقات بعد الانقلاب في مصر، وصرح إن هناك حاجة وسبباً قوياً لتطوير العلاقات الخليجية التركية.

كانت تركيا، حتى الأمس القريب، ترى في منطقة الخليج جدول أعمال شامل وموسّع، يتضمن عشرات الفرص السياسية والأمنية والمشاريع الاقتصادية والإنمائية، وهي لم تتنبه إلا أخيراً إلى موقع الخليج وأهميته مركزاً استراتيجياً يفتح لها أبواب العبور إلى أكثر من مكان، لكنها، في لقاء القمة التركية الخليجية في 13 سبتمبر/ أيلول 2008 في الرياض، رأيناها توجه رسائل علنية واضحة، مخاطبها هو إيران، بقدر ما هي موجهة إلى أميركا وإسرائيل، لمراجعة سياساتها الإقليمية، خصوصاً في الخليج، لناحية التمدّد والتمسّك بالمشروع النووي والأزمة المستمرة مع الإمارات. كان الأهم قرار إنشاء المنظومة المشتركة التي تساهم في تأطير هذه العلاقات وتعزيزها عبر آليةٍ للحوار السياسي المنظم، وتطوير العلاقات الاستراتيجية بين تركيا ودول الخليج، وتوقيع وثيقةٍ وضعت في مقدمة أهدافها طرح بناء صرح أمني سياسي إنمائي إقليمي، منفتح على كل الراغبين في تبني لغة الحوار حلاً للمشكلات والنزاعات.
وقيل، في قمة شهر يوليو/ تموز 2009 في إسطنبول، إن تركيا تولي أهمية كبيرة لأمن الخليج واستقراره، وستكون في طليعة الدول التي قد تتأثر، مباشرةً، من أي تدهور أمني هناك، لكننا رأينا أن التصعيد والانتشار الإيراني لم يتوقف، وتمدّد أكثر فأكثر نحو التصعيد مع الإمارات، ومحاولة تهديد أمن البحرين مباشرة، واختراق بنية اليمن السياسية والاجتماعية، وإيصال الأمور إلى ما هي عليه اليوم، مستفيدة أكثر فأكثر من التجاهل الأميركي المقصود لسياساتها الخليجية.
مع وصوله إلى السلطة في بداية العام 2002، أطلق حزب العدالة والتنمية استراتيجية إعادة هيكلة السياسة التركية مع دول الخليج العربي، والرغبة في توسيع رقعة التعاون والانفتاح لدفع العلاقات نحو الأفضل، وقد ترجمت هذه سياسات الانفتاح اقتصادياً وتجارياً واستثمارياً في الجانبين. وبدأت أنقرة تكرّر موقفها في أنها لن تسمح بمثل هذه السهولة لأيٍّ كان أن يهدّد مشروعها الانفتاحي التقاربي على دول الخليج الذي يضع أمن دول مجلس التعاون الخليجي واستقرارها في مقدمة تطلعاته.
وفي الأعوام الثلاثة الأخيرة، قادت التطورات الإقليمية، وتحديداً ثورات الربيع العربي والمستجدات المتلاحقة على الساحة السياسية والأمنية في مصر والمواقف التركية حيال ذلك، إلى توتر سياسي انعكس سلباً على العلاقات التركية مع معظم دول الخليج في ملفاتٍ سياسيةٍ واقتصادية وأمنية.
المستجدات المتلاحقة في سورية واليمن وليبيا والعراق ولبنان هي التي استدعت مزيداً من التعاون بين تركيا من جهة، والمملكة العربية السعودية وقطر تحديداً من جهة ثانية، وخصوصاً في الأشهر الأخيرة، فتركت الكثير من نقاط التباعد والخلاف جانباً، وتم توقيع عشرات من العقود والاتفاقيات الاقتصادية والسياسية والأمنية المشتركة، وتأكدت ضرورة وضع خطط تحرك شمولي باتجاه سياسات واقعية عملية، تهدف إلى الرد على محاولات قلب التوازنات على حساب هذه الدول، وتكون مقدمة صلبة باتجاه قمة الرياض التركية الخليجية.
عكس البيان المشترك لقمة الرياض التركية الخليجية، أخيراً، حقيقة تجاوز المشهد المصري، وعبر عن القلق من التصعيد العسكري الإيراني في المنطقة، واستمرار إطلاق إيران صواريخ بالستية قادرة على حمل سلاح نووي، والدعوة المشتركة للمضي في الحوار الهادف والمستمر بشأن مختلف قضايا المنطقة، بما يتلاءم مع متطلبات العمل الاستراتيجي. وكانت المصالحة التركية الروسية وانعكاساتها الإقليمية حاضرة في جدول الأعمال الموسع حتماً، وربما هذا التقارب التركي الروسي هو الذي شجع أنقرة على الإسراع في التقدم العسكري في شمال سورية، باتجاه تطهير مزيد من المناطق هناك من تنظيم داعش، والتركيز في المرحلة المقبلة على إبعاد الوحدات الكردية تماماً إلى شرق الفرات، تمهيداً لإعادة منبج إلى سكانها الأصليين، تماماً كما جرى في جرابلس، حيث تتقدم خطة المنطقة الآمنة التركية خطوةً خطوةً، وحيث تراهن تركيا على دعم خليجي، لبناء هذه المنطقة للاجئين السوريين لإبقائهم داخل أراضيهم.
المخاطر والتهديدات الإقليمية، وفي مقدمتها التوسع والانتشار الإيراني أخيراً، بعد التفاهم مع الغرب على قوة إيران النووية، وما يقال عن أدوار جديدة كلفت طهران القيام بها إقليمياً بالوكالة عن قوى دولية أخرى، بين الأسباب التي دفعت تركيا ودول الخليج إلى إعادة النظر في حسابات مواقفهم وسياساتهم وخياراتهم الاستراتيجية والتحول نحو قراءةٍ جديدةٍ لمسار

العلاقات ومستقبلها.
باتت دول الخليج ترى في تركيا اليوم القوة العسكرية الإقليمية القادرة على أن تأخذ مكانها في خطط التصدّي للتهديدات والاستفزازات الإيرانية، والقوة القادرة على توفير الخبرات الواسعة في مجال الصناعات العسكرية الدفاعية المتقدمة، وتنويع مصادر التسليح وسط قناعةٍ خليجيةٍ بشأن وجود فرص تنسيق مشتركة كثيرة إزاء القضايا والنزاعات الإقليمية. ويرى الخليج في تركيا أيضاً فرصة صناعية زراعية مائية استثمارية، وترى تركيا في الخليج وسيلة تعزيز موقفها على طريق العضوية الأوروبية، بكل ما يحمل لها من حظوظ تجارية واقتصادية ومالية وإمدادات نفطية. ويكفي التوقف، مثلاً، عند حجم التبادل التجاري الذي تضاعف أربع مرات في السنوات السبع الأخيرة، لنكتشف أبعاد قرار تركيا ودول الخليج في توسيع تعاونهما هذا، وتحويله إلى تحالف استراتيجي متعدّد الجوانب.
تتقدّم العلاقات التركية الخليجية نحو مزيد من التنسيق والتعاون، تفرضه متطلبات المخاطر الإقليمية المحدقة والمهددة، وضرورة مواجهة خطط الاستهداف الإيراني والتخبط الأميركي واللامبالاة الروسية. وكانت قمة الرياض أخيراً اللقاء التنسيقي التركي الخليجي قبيل قمة لوزان، ونقاشات الملفين السوري والعراقي، وتحديداً خريطة العمليات السياسية والعسكرية في الموصل، والمخاطر المحدقة بها عند أية محاولة للمساس ببنية المدينة وديمغرافيتها. والواضح أن العلاقات التركية -الخليجية ستلزم عواصم غربية عديدة، وفي مقدمتها واشنطن، بمراجعة مواقفها، من خلال قراءة هذا التقارب الذي يجاهر في رفض مواقف إقليمية أميركية وإيرانية عديدة. لكن الواضح أيضاً أن التعاون التركي الخليجي الاستراتيجي لا بد أن يتضمن نقاشاً حقيقياً أيضاً في تفعيل أدوار مؤسسات المجتمع المدني وحوار النخب ورجال الفكر وإطلاق يد المؤسسات الأكاديمية والتعليمية، يتمم جهود التنسيق البنيوي المنظم والشامل في المجالات السياسية والإنمائية والأمنية والدفاعية، لنقل التعاون والتنسيق من مستوى القيادات السياسية إلى بقية شرائح المجتمعات في الجانبين. المؤكد كذلك أن تركيا والخليج سيحتاجان حتماً إلى مصر، بطاقاتها وقدراتها، لتكون لاعباً أساسياً في هذا التحرّك الاستراتيجي، كون الجميع يسلم بالدور والموقع المصري في بناء المعادلات الإقليمية.

سمير صالحة

صحيفة العربي الجديد