حملة الانتخابات الرئاسية 2016 وأزمة السياسة الخارجية الأميركية (2-1)

حملة الانتخابات الرئاسية 2016 وأزمة السياسة الخارجية الأميركية (2-1)

Republican presidential nominee Donald Trump and Democratic presidential nominee Hillary Clinton speak during the second presidential debate at Washington University in St. Louis, Sunday, Oct. 9, 2016. (AP Photo/Patrick Semansky)

في هذا التحليل لمعهد لوي، يستكشف توماس رايت كيفيات تغيُّر السياسة الخارجية للولايات المتحدة في حال كسب دونالد ترامب أو هيلاري كلينتون الانتخابات الرئاسية الأميركية. ويقول رايت إن رئاسة ترامب يمكن أن تشهد قيام الولايات المتحدة بتقويض النظام الدولي الليبرالي الذي أسهمت في إنشائه. في حين ستكون كلينتون، على النقيض من ذلك، رئيساً أممياً أكثر تقليدية.
***
الملخص التنفيذي
الانتخابات الرئاسية الأميركية 2016 هي أكثر الانتخابات أهمية للنظام الدولي منذ الحرب العالمية الثانية. ففيها، أصبحت مكانة أميركا كقوة عظمى ليبرالية رهناً لصناديق الاقتراع. وحتى نفهم السياسة الخارجية لدونالد ترامب، يجب أن نميز بين معتقداته الأساسية الثلاثة التي اعتنقها لعقود عدة، والتي نادراً ما تنازل عنها -إذا تنازل أصلاً- وأن نتعقب الثيمات الرئيسية لحملته الانتخابية، وغيرهما من القضايا. وتتلخص معتقدات ترامب الأساسية في معارضة ترتيبات التحالف الأميركية؛ ومعارضة التجارة الحرة؛ ودعم الاستبداد، لا سيما في روسيا. وإذا تم انتخابه رئيساً وحكَم بطريقة متوافقة مع هذه المعتقدات، فسيتم تحويل الولايات المتحدة من زعيم لنظام دولي ليبرالي إلى قوة عظمى مارقة، تنسحب من التزاماتها الدولية، وتقوض الاقتصاد العالمي المفتوح، وتعقد شراكة مع روسيا بوتين.
وعلى النقيض من ذلك، ستكون هيلاري كلينتون رئيساً وفق القالب الأممي التقليدي. ومع ذلك، لا بد أن يكون كل رئيس فريداً ومختلفاً عن أسلافه، وستكون هي كذلك أيضاً. وحتى نفهم سياستها الخارجية، علينا أن ندرس نقدها الديمقراطي الناشئ للرئيس أوباما. ويخطِّئ هذا النقد أوباما لأنه يمنح الأولوية للتقدم في القضايا العالمية على العناية بالاضطرابات الإقليمية. ويوصي هذا النقد بإجراء تغيير طفيف في السياسة الخارجية الأميركية في اتجاه ما يمكن أن يطلق عليه “الإقليمية الجيوسياسية” geopolitical regionalism -حيث تعاود الولايات المتحدة الانخراط مع حلفائها التقليديين، وتسعى إلى تعزيز النُظم الإقليمية في شرق آسيا، وأوروبا، والشرق الأوسط.
وحتى لو فازت كلينتون، فقد أثارت انتخابات 2016 شكوكاً حقيقية حول مستقبل الأممية الأميركية. وسوف تكون أصعب مهمات كلينتون هي إعادة إقناع الشعب الأميركي بمزايا وفضائل زيادة انخراط الولايات المتحدة، لتعزيز كل من العناصر الأمنية والاقتصادية للنظام الليبرالي العالمي على حد سواء.
يمكن اعتبار الانتخابات الرئاسية الأميركية للعام 2016 بمثابة الانتخابات الأميركية الأهم منذ العام 1860، عندما أصبح أبراهام لينكولن رئيساً. كما أنها الانتخابات الأكثر أهمية أيضاً بالنسبة للنظام العالمي منذ الحرب العالمية الثانية. فلمدة 70 عاماً، قادت الولايات المتحدة النظام الدولي الليبرالي وحافظت عليه. وكانت لكل رئيس من رؤسائها سياسة خارجية متسقة مع هذا الهدف الواسع. ولعل ما يجعل انتخابات 2016 مهمة بشكل خاص هو أن واحداً من مرشحَي الحزبين الرئيسيين، دونالد ترامب، يخوض للمرة الأولى حملته على أساس برنامج يهدف إلى إضعاف العناصر الأساسية في النظام الدولي، بما في ذلك نظام التحالفات الأميركي والاقتصاد العالمي المفتوح. ويعِد ترامب بدلاً من ذلك بالتعاون مع روسيا لمكافحة “داعش” وإنشاء نظام اقتصادي بنفحة تجارية؛ حيث تستخدم الولايات المتحدة التعرفات والنفوذ الاقتصادي لانتزاع شروط مواتية وتفضيلية لتجارتها. وسوف يكون التأثير الكلي للترامبية Trumpism هو تحويل الولايات المتحدة من زعيم للنظام الدولي الليبرالي إلى دولة عظمى مارقة.
تسبب صعود ترامب المفاجئ وتمكنه من الصمود في صدمة المؤسسة السياسية الأميركية وبقية دول العالم. ويُعتقد على نطاق واسع بأن رئاسة ترامب سوف تؤدي على الأرجح إلى سلسلة من الأزمات الدولية المتدحرجة، بينما تحاول القوى الكبرى التكيف مع الحياة بعد الهيمنة الأميركية. وفي اليوم الذي يلي فوز ترامب، سيكون على الحلفاء أن يخططوا لمواجهة انسحاب الضمانات الأمنية الأميركية، وسوف يبحث الخصوم عن سبل لاستغلال التحول في استراتيجية الولايات المتحدة، وسوف تهتز الأسواق بسبب احتمال قدوم حقبة جديدة من الحمائية. كما يمكن أن تتعرض الولايات المتحدة نفسها أيضاً إلى عدد من الأزمات الداخلية الزلزالية، بما في ذلك في العلاقات المدنية-العسكرية، والعلاقات بين الكونغرس والسلطة التنفيذية.
وحتى لو خسر ترامب، فقد أثارت هذه الانتخابات شكوكاً حقيقية حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستظل راغبة في العمل كقوة عظمى ليبرالية على الساحة العالمية. وللمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، أظهر عدد كبير من الأميركيين أنفسهم أنهم متقبلون لرسالة تدعو إلى الانعزالية. وربما كان شخص قوميّ أكثر دهاءً على المستوى السياسي، وصاحب عقل أكثر صحة، لينجح حيث فشل ترامب. وربما يضع تصاعد موجة القومية ضغوطاً ومحددات على الإدارات الأميركية المقبلة.
كما استدرجت الضجة التي أثيرت حول ترشيح ترامب أيضاً كماً من التحليلات للسياسة الخارجية التي سينتهجها الشخص الأكثر احتمالاً لأن يصبح الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة. وفي المقابل، تبقى هيلاري كلينتون واحدة من الناس الأكثر شهرة في العالم. وكانت قد عملت وزيرة لخارجية الرئيس باراك أوباما، وعضواً في مجلس الشيوخ عن نيويورك، وسيدة أولى للولايات المتحدة. وهي، بكل المقاييس، شخصية أممية ليبرالية تقليدية، والتي تعتقد بقوة بالاستثنائية الأميركية وبضرورة الحفاظ على النظام الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة. ومن الصعب التأكد من تصريحات حملتها الانتخابية من كيف ستختلف عن الرئيس أوباما، خاصة وأن لديها حافزاً سياسياً لعدم الإفصاح عن تناقضات واضحة معه. ومع ذلك، عبرت هيلاري عن نقد ديمقراطي ناشئ لسياسة أوباما الخارجية، والذي ينسجم مع سجلها ويُحتمل كثيراً أن يكون المسار الذي ستختاره إذا ما تم انتخابها رئيساً. سوف يكون هناك، في الجوهر، تحول في التركيز، ابتعاداً عن منح الأولوية للتحديات العالمية والتقليل من شأن الاضطرابات الإقليمية، وفي اتجاه سياسة خارجية تنظر إلى معالجة التهديدات الإقليمية بوصفها عنصراً أساسياً لمصالح الولايات المتحدة والحفاظ على النظام الدولي الليبرالي.
ينظر هذا التحليل في الآثار المترتبة على انتخابات 2016 بالنسبة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة. وهو يفسر لماذا وكيف يشكل ترامب تهديداً فريداً للنظام الدولي الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة، ويحدد كيف يمكن أن تبدو السياسة الخارجية لإدارة ترامب. كما يعرض للنقد الذي يوجهه بعض الديمقراطيين لسياسة أوباما الخارجية، ويبين كيف يمكن أن يوفر هذا النقد نموذجاً لرئاسة هيلاري كلينتون في حال فوزها. وأخيراً، يحدد هذا التحليل العديد من المقاييس التي يمكن استخدامها لمعرفة ما إذا كانت شعبوية العام 2016 ستقيد السياسة الخارجية للولايات المتحدة، حتى لو خسر ترامب وتم انتخاب كلينتون.
نظرة دونالد ترامب العالمية
القول الأكثر شيوعاً عن نظرة دونالد ترامب إلى العالم، هو أنه ليس لديه مثل هذه النظرة من الأساس. وبالنسبة للعديد من المراقبين، يبدو ترامب وكأنه يقف على كل الجوانب من كل قضية. وهو جاهل في مناطق واسعة من السياسة. وباعترافه شخصياً، فإنه لا يعتمد بشكل كبير على المستشارين، ولا يقرأ كثيراً؛ وهو يفضل بدلاً من ذلك مشاهدة تلفزيون الكابل. وقد أتاح وصف ترامب بأنه نوع من اللوح الأبيض لبعض أنصاره المحاججة بأنه سيتعلم مباشرة من المنصب، وسيستخدم خبرته الفريدة كرجل أعمال في التفاوض على الصفقات نيابة عن الشعب الأميركي. في إيجاز للسفراء الأجانب في الولايات المتحدة، قال كبار مستشاريه للسفراء إن ترامب سيكون أممياً في المنصب، لكنه سيسعى إلى تحصيل شروط أفضل للتجارة والتحالفات. ومع ذلك، ليس ترامب لوحاً أبيض ولا هو لين العريكة. ولم يعرض أي قدرة على التغير في شأن القضايا المعقدة للسياسة الخارجية بينما يزداد مقدار تعرضه لها.
تشكل رؤية ترامب العالمية، التي يسميها الآن “أميركا أولاً”، مزيجاً مثالياً من السياسة الداخلية والخارجية. ويعتقد ترامب أن الولايات المتحدة أصبحت تشهد تراجعاً حاداً بسبب أنشطتها على الساحة العالمية، ولا سيما دعمها للحلفاء. ويعتقد أن النظام الدولي الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة خذل الأميركيين. ويريد ترامب من الآخرين بذل المزيد من الجهد ودفع المزيد من المال. كما يريد من الولايات المتحدة أن تركز على مجموعة ضيقة جداً من المصالح الوطنية، بدلاً من المفاهيم الأوسع للنظام الليبرالي الذي شكل استراتيجية الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية.
هناك ثلاثة عناصر لفهم نظرة ترامب العالمية. العنصر الأول هو معتقداته الأساسية -تلك الدوافع التي حملها باستمرار على مدى عقود عديدة، وهي بالتحديد: معارضة ترتيبات التحالف الأميركية؛ ودعم نظام اقتصادي عالمي ذي نزعة تجارية محضة؛ ودعم الأنظمة الاستبدادية والسلطوية، وروسيا بشكل خاص. والعنصر الثاني هو الوعود الكبرى التي قطعها في الحملة الانتخابية، التي يسبق بعضها الحملة ببضع سنوات، والتي ظل ثابتاً إزاءها بشكل عام. وأخيراً، هناك القضايا الأخرى التي يعرض حيالها مواقف متناقضة، بما في ذلك الصين والانتشار النووي.
من المرجح أن يكون ترامب، بعمر 70 عاماً الآن، ثابتاً بعناد في معتقداته الأساسية. وقد حملها على مدى ثلاثة عقود وتشبث بها حتى عندما تكون هناك تكلفة سياسية عالية. وستكون هذه المعتقدات الأساسية هي وجهات النظر التي سأنتقل إلى عرضها الآن.
معارضة ترتيبات التحالف
كانت القضية الأكثر عاطفية بالنسبة لترامب، والتي هيمنت على تفكيره لما يقرب من ثلاثة عقود، هي أن الولايات المتحدة تحصل على صفقات رديئة من تحالفاتها مع الدول الأخرى. وفي العام 1987، أنفق ترامب الذي كان عمره في ذلك الوقت 41 عاماً مبلغ 95.000 دولار أميركي على إعلان بحجم صفقة كاملة في صحف “نيويورك تايمز”، و”الواشنطن بوست” و”بوستون غلوب”، والذي نشر فيه رسالة مفتوحة للشعب الأميركي بعنوان “ليس هناك شيء خاطئ في السياسة الخارجية وسياسة الدفاع الأميركيين، والذي لا يستطيع ليتل بلاكبون (موقع للمياة الطبيعية العلاجية) أن يعالجه”. وبدأت الرسالة بعبارات: “على مدى عقود، كانت اليابان والدول الأخرى تستفيد من الولايات المتحدة”، ومضت الرسالة إلى دعوة الولايات المتحدة إلى جعل حلفائها يدفعون الكفة الكاملة لـ”الحماية التي نقدمها”. وكان ذلك متطابقاً تقريباً مع الرسالة التي سيفصح عنها بعد نحو ثلاثة عقود. وقد انتقد ترامب، طوال الحملة الانتخابية للعام 2016، حلفاء الولايات المتحدة في آسيا، وأوروبا والشرق الأوسط على أساس نفس الأشياء.
كان هناك بعض الالتباس حول ما إذا كان ترامب يريد من حلفاء الولايات المتحدة أن يحملوا قدراً إضافياً صغيراً من العبء، أو أنه يعارض التحالفات من حيث المبدأ. وزعم مستشاروه بأنه يريد الخيار الأول، لكن خطاب ترامب في هذا الشأن ظل في كثير من الأحيان مطلقاً ولا هوادة فيه. وحتى نفهم وجهة نظر ترامب بالضبط، علينا أن نلقي نظرة أكثر قرباً على تفسيره لمصالح الولايات المتحدة، وتكلفة التزامها بالتحالفات. يعتقد ترامب أن الولايات المتحدة ليست لها أي مصلحة جوهرية في الانتشار في دول أخرى أو في وجود تحالفات لها في الخارج. وفي مقابلة مع هيئة تحرير صحيفة “الواشنطن بوست” في نيسان (أبريل) 2016، عندما سئل عما إذا كان يعتقد أن الولايات المتحدة تكسب أي شيء من وجود قواعد لها في شرق آسيا، أجاب ترامب: “شخصياً لا أعتقد ذلك. لا أعتقد ذلك شخصياً”. وقال ترامب مراراً وتكراراً أن المهمة التقليدية لحلف شمال الأطلسي أصبحت بالية وعفا عليها الزمن، وأوضح أن الولايات المتحدة ستكون أفضل حالاً لو أنها كانت خارج الشرق الأوسط. ويقف هذا في تناقض صارخ مع إجماع الحزبين الذي ساد منذ الحرب العالمية الثانية، على أن للولايات المتحدة مصلحة حيوية وحاسمة في الحفاظ على نظام التحالفات في أوروبا وشرق آسيا.
أقام بعض الناس تناظراً زائفاً بين شكوى الرئيس أوباما من أن حلفاء الولايات المتحدة لا يفعلون ما يكفي، وبين وجهة نظر ترامب على هذا الصعيد. ويريد الرجلان على حد سواء تقاسماً أكثر إنصافاً للعبء، لكن هذه المقارنة تشكل استخفافاً جذرياً بنوايا ترامب. إن مشكلة ترامب ليست مع نسبة الناتج المحلي الإجمالي التي ينفقها الحلفاء على شؤون الدفاع، أو كم يدفعون لدعم الدولة المضيفة. إنه يعتقد أن حلفاء أميركا في آسيا وأوروبا يجب أن يدفعوا مقابل التكلفة الكاملة للوجود العسكري الأميركي في هذه المناطق، أو أن عليهم أن يدفعوا ما قد يكلفهم تمويل هذا التواجد كاملاً. وبعبارات أخرى، ينبغي على الحلفاء الآسيويين، على سبيل المثال، أن يدفعوا للأسطول السابع. ويجب على أوروبا أن تدفع مقابل الرادع النووي الأميركي. وفي خطابه عن السياسة الخارجية في “مركز المصلحة القومية”، قال ترامب: “لقد أنفقنا ترليونات الدولارات مع مرور الوقت على الطائرات والصواريخ والسفن والمعدات وبناء جيشنا لتوفير دفاع قوي لكل من أوروبا وآسيا. ويجب على البلدان التي ندافع عنها أن تدفع كلفة هذا الدفاع. وإذا لم يكن الأمر كذلك، يجب أن تكون الولايات المتحدة مستعدة لجعل هذه الدول تدافع عن نفسها بنفسها”.
وستكون الطريقة الوحيدة لاحتساب رقم ترليونات الدولارات هي النظر إلى كلفة الوجود العكسري المتقدم، وهو ما يؤكد عليه ترامب -“تكلفه هذا الدفاع”.
في حال انتخابه، سوف يطالب ترامب بأن يدفع الحلفاء مبلغاً أكبر أضعافاً مضاعفة مقابل الدعم العسكري الأميركي. وقد زعم بشكل متكرر أنه سيكون مستعداً للانسحاب من هذه التحالفات حتى يحصل على أفضل صفقة ممكنة. لكن انتقاده السابق للتحالفات يشير أيضاً إلى أنه سيكون سعيداً إذا لم يستطع حلفاء الولايات المتحدة الوفاء بهذه المطالب، وهو ما سيزوده بذريعة لسحب الدعم الأميركي.
دعم إقامة نظام اقتصاد دولي بنزعة تجارية بحتة
يتمثل اعتقاد ترامب الأساسي الثاني في أن الولايات المتحدة تحصل على صفقات سيئة من الاقتصاد العالمي، خاصة في مجال التجارة. ومرة أخرى، ليس هذا شيئاً جديداً. فقد دأب ترامب على إصدار نسخ من هذه النقطة منذ أواسط الثمانينيات. وليس هناك أي سجل عن دعمه لأي صفقة تجارية وقعتها الولايات المتحدة. وعلى العكس من بعض الساسة الذين كانوا يعارضون هذه الصفقات التجارية من باب الانتهازية السياسية، فقد فعل ترامب ذلك بشكل مستمر وثابت على مدى ثلاثة عقود. وفي هذه الحملة، وعد ترامب بسحب الولايات المتحدة من اتفاق أميركا الشمالية للتجارة الحرة، والتخلي عن اتفاقية الشراكة عبد المحيط الهادئ، والانسحاب من منظمة التجارة العالمية. بل ذهب ترامب مسافة أبعد من معارضة صفقات تجارية بعينها، فاقترح استخدام تعرفات عقابية بنسبة 45 في المائة على الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وفرض تعرفات بنسبة 35 في المائة على المكسيك. وبينما مضت الحملة قدماً، قال ترامب بشكل متكرر أن الحرب التجارية ليست شيئاً يجب الخشية منه، مقترحاً أن هذه الحرب قد بدأت فعلاً وأن على الولايات المتحدة أن تحارب بشكل استباقي للفوز بها.
يجب النظر إلى سياسة ترامب التجارية في سياق نظرته الاقتصادية العالمية الكاملة. وينظر ترامب إلى الاقتصاد العالمي كلعبة محصلتها صفر. ويعتقد أن الولايات المتحدة تستطيع استخدام قوتها الاقتصادية للتفاوض على صفقات تجارية ثنائية مفضلة ومناسبة، والتي تكون مفيدة لها بشكل غير متناسب. كما أنه يفضل استخدام السلع الأمنية التي تقدمها الدول المتحدة للدول الأخرى كوسيلة ضغط في المفاوضات التجارية. وكما لاحظ الكاتب آدم دافيدسون في صحيفة “نيويورك تايمز”، فإن نظرة ترامب العالمية تتجنب فكرة ترتيبات المنفعة المتبادلة وتتبنى نموذج الاقتصاد الريعي، الذي يستمد ثروته من مورد نادر مثل الأرض والطاقة. وفي اقتصاد السوق العادي، فإن نفس فكرة عقد الصفات تكون هامشية لتحقيق النجاح، كما لاحظ دافيدسون: “إن القضايا الرئيسية قيد العمل في أي اقتصاد وطني أو عالمي (التضحم، أسعار صرف العملات، والبطالة، والنمو الكلي) هي أمور تستحيل السيطرة عليها من خلال أي نوع من الصفقات. إنها تعكس قوى هيكلية كامنة في الاقتصاد، مثل مستويات تعليم السكان ومهارتهم، وإنتاجية الشركات، ومقدار الإنفاق الحكومي وإجراءات البنك المركزي”.
وعلى النقيض من ذلك، يكون الاقتصاد الريعي كله متعلقاً بالصفقات الجيدة أو السيئة -ومن الذي يسيطر على الموارد المحدودة.
لا تقتصر أهداف ترامب على الدول الأجنبية فقط؛ فهو معاد بعمق أيضاً لفكرة التكامل الاقتصادي الدولي. وقال ترامب في خطاب في مونيسون، بنسلفانيا، في حزيران (يونيو) 2016 “إن العولمة جعلت النخبة المالية التي تتبرع للسياسيين ثرية جداً، لكنها تركت الملايين من عمالنا بلا شيء سوى الفقر والحزن… لقد مسحت هذه الموجة من العولمة طبقتنا الوسطى”. وهذه واحدة من ثيماته المفضلة في الحملة، وهي السبب في أنه يعِد باستعادة وظائف التصنيع ووقف الاستعانة بمصادر العمالة الخارجية. وقد وعد بمعاقبة الشركات الأميركية التي تنقل الوظائف إلى الخارج. ومن غير الواضح إلى أي مدى سيدفع ترامب بهذا الوعد كرئيس، لكنه سيسعى بالتأكيد إلى كبح الانفتاح الاقتصادي، وهو ما سيكون له أثر محتمل على إدخال نظام اقتصادي عالمي أكثر قومية وبنزعة تجارية أقوى.
دعم القادة المستبدين، وخاصة فلاديمير بوتين
لطالما انطوى ترامب على إعجاب طويل الأمد بالرجال الأقوياء المستبدين، والذي كشف عن نفسه مؤخراً في شكل الدعم القوي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وكان ترامب قد زار موسكو في العام 1990، وعاد مصحوباً بخيبة أمل مما اعتبره ضعف الرئيس ميخائيل غورباتشوف. وقال في مقابلة مع مجلة “بلاي بوي” أن غورباتشوف ليس لديه ما يكفي من القبضة الحديدية الحازمة. ورداً على سؤال عما إذا كان ذلك يعني أنه يفضل حملة الصين القمعية على الطلاب، قال:
“عندما تدفق الطلاب على ساحة السلام السماوي (تيانانمين)، كادت الحكومة الصينية تنسف الساحة تقريباً. ثم أصبحوا شرسين، أصبحوا مروعين، لكنهم أحبطوا الأمر بالقوة. هذا يظهر لك أهمية القوة. يُنظر إلى بلادنا في الوقت الراهن على أنها ضعيفة… بينما تبصق عليها بقية العالم”.
برز هذا الولع بالسلطوية عدة مرات خلال حملة 2016. وقد أشاد ترامب ببوتين مراراً، بل وكانت لديه أمور مفضلة ليقولها عن الطريقة التي تعامل بها الرئيس الكوري الشمالي، كيم يونغ-أون، والعراقي السابق صدام حسين، مع أعدائهما.
كان دعم ترامب لبوتين مهماً وثابتاً بشكل خاص. ففي العام 2013، أرسل ترامب تغريدة على “تويتر”، تقول إنه وجد مقالاً لبوتين ينتقد فيه السياسة الخارجية والنزعة الاستثنائية الأميركية “تحفة بالنسبة لروسيا، وكارثة بالنسبة للولايات المتحدة. إنه يحاضِر في رئيسنا. لم يسبق وأن بدا بلدنا ضعيفاً جداً هكذا”. وفي أواخر العام 2015، أشاد بوتين بترامب بدوره، ووصفه بأنه “غني بالألوان” و”موهوب”، ورد ترامب بالترحيب بهذا الثناء وبالمبالغة فيه (ادعى ترامب أن بوتين وصفه بالعبقري)، ورفض ترامب أي انتقاد لبوتين وأي وصف له بأنه حاكم مستبد يقمع شعبه ويهدد جيرانه. وقد أثارت تصريحات ترامب الموالية لروسيا عاصفة في الحزب الجمهوري. لكن ترامب رفض تغيير موقفه، ولو أنه خفف من حدة لهجته لبضعة أشهر. ومع ذلك، عادت هذه القضية إلى الظهور في النقاش العام بعد أن أمّن ترشيح الحزب.
تدخلت حملة ترامب في صياغة البرنامج الجمهوري للعام 2016 بتخفيف اللهجة حول دعم أوكرانيا، وألغت سياسة الحزب القائمة منذ فترة طويلة، والتي دعت إلى تقديم المساعدات القاتلة للحكومة الأوكرانية. ودعا ترامب المخابرات الروسية إلى قرصنة وفضح رسائل البريد الألكتروني الخاصة بهيلاري كلينتون، وقال في مؤتمر صحفي: “روسيا، إذا كنتِ تستمعين، آمل أن تتمكنوا من العثور على الـ30.000 رسالة المفقودة من البريد ألكتروني”. وقال أنه سيدرس إمكانية رفع العقوبات عن روسيا والاعتراف بضم شبه جزيرة القرم. وقال بشكل متكرر أنه ينوي أن تكون له علاقات جيدة مع روسيا، بينما انتقد في الوقت نفسه حلفاء أميركا في حلف شمال الأطلسي.
كما كانت حملة ترامب متلازمة أيضاً مع اتهامات بوجود روابط مع روسيا. وقبل الدخول في الانتخابات الرئاسية، كان لترامب عدد من المصالح التجارية في روسيا، وأعرب عن عزمه على تطوير علاقات وثيقة مع بوتين. كما أن لعدد من كبار مساعدي ترامب ومستشاريه، بما في ذلك رئيس حملته السابق بول مانافورت، ومستشاره للسياسة الخارجية، كارتر بيج، علاقات تجارية مع روسيا. ويشتبه في أن تكون المخابرات الروسية وراء عمليات القرصنة التي استهدفت المؤتمر الوطني الديمقراطي، والتي أدت إلى أن تجد وثائق حساسة طريقها إلى موقع ويكيليكس. وفي حين لا يوجد أي ادعاء بأن حملة ترامب كانت متورطة في هذا الشأن، فإن الأدلة تتزايد على أنه هو المرشح المفضل لدى الكرملين.
وجهات نظر ترامب الأخرى
تشكل معتقدات ترامب السياسية الجوهرية بيضة القبان ومقياس الاختبار. وكان الرجل متسقاً وثابتاً بشكل ملحوظ حول اعتناقها على مدى عدة عقود. ومع ذلك، تظل هذه المعتقدات الأساسية الثلاث ضيقة ولا تغطي الكثير من الأرضية. ولتحصيل فهم أشمل لرؤية ترامب العالمية، فإن من المفيد ملاحظة فئتين أخريين -وجهات النظر التي تم استبعادها من حملته الرئاسية للعام 2016، وقضايا السياسة الأخرى التي كان قد عبر عن رأي فيها.
تضمَّن برنامج ترامب للسياسة الخارجية في حملة 2016 بناء جدار على طول الحدود المكسيكية، ومعارضة الاتفاق الإيراني، ومنع دخول المهاجرين المسلمين، وعدم الاكتراث بتغير المناخ. وعلى الرغم من بقاء موقف ترامب ثابتاً نسبياً بشأن هذه القضايا خلال الحملة، فإنه ليس لديه أي سجل يخصها قبل الحملة، أو أن مواقفه لم تكن ثابتة حول هذه القضايا لفترة زمنية أطول. وعلى سبيل المثال، وقع ترامب في العام 2013 على رسالة تدعو إلى اتخاذ إجراءات بشأن تغير المناخ. بل إنه انحرف عن رسالته المناهضة للهجرة في شهري آب (أغسطس) وأيلول (سبتمبر) من العام 2016، حين أشار إلى أنه قد لا يسعى إلى ترحيل المهاجرين غير الشرعيين، قبل أن يتراجع ويعود إلى موقفه الأصلي.
من الصعب التنبؤ بما قد تبدو عليه سياسة ترامب الخارجية. ويمكن للمرء أن يتوقع -مع بعض اليقين- أنه سيكون مقوداً بدوافعه الأساسية المذكورة. لكن أحداً لا يملك أي فكرة عما إذا كان ترامب سيتمسك بوعود حملته الانتخابية، وهناك إشارات مسبقاً على أنه يحاول خلق هامش للمناورة. ثم هناك تلك القضايا التي ليس لديه أي رأي حقيقي أو أي معرفة حقيقية بها، بما في ذلك الثالوث النووي (الركائز الثلاث -القاذفات الاستراتيجية والصواريخ الباليستية العابرة للقارات، والغواصات التي تطلق الصواريخ الباليستية- للقوات النووية الأميركية)، والخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، والنزاعات في بحر الصين الجنوبي. وسوف يستمر في قول الشيء نفسه عن هذه القضايا، يوماً بعد الآخر.
إذا فاز ترامب
إذا فاز ترامب بالرئاسة، سوف يصبح دور أميركا في العالم كزعيم لنظام ليبرالي عالمي موضع شك على الفور. وعلى الرغم من أن العالم سيكون قد أدرك احتمالات هذه النتيجة، فإن ردة الفعل ستظل مع ذلك شعوراً بالصدمة. وفي الأيام التي ستعقب انتخابات 8 تشرين الثاني (نوفمبر)، سوف تحاول العديد من الدول تقييم الآثار التي سترتبها رئاسة ترامب على أمنها. وسوف ترى بعض الدول -روسيا وكوريا الشمالية، وربما الصين- في ذلك فرصة. أما معظم البلدان الأخرى، بما فيها جميع حلفاء الولايات المتحدة، فسوف يساورها القلق. سوف تخشى الدول الأوروبية أن تصطف الولايات المتحدة إلى جانب روسيا وأن تسحب دعمها فعلياً للدفاع الجماعي لحلف الناتو بموجب المادة 5 من معاهدة شمال الأطلسي. وسوف يقلق حلفاء شرق آسيا بشأن احتمال إبرام اتفاقية أميركية-صينية وانسحاب أميركي من الالتزام بالضمانات الأمنية، بما في ذلك المظلة النووية. وسوف تقلق إسرائيل من احتمال انسحاب أميركي من الشرق الأوسط، وحدوث تدهور عام للظروف في المنطقة.
أحد الأسئلة التي ربما تنجم في أعقاب انتصار يحققه ترامب، سيكون ما إذا كان خبراء السياسة الخارجية الجمهوريون من التيار السائد سوف يكونون راغبين في الخدمة، وإذا كان الأمر كذلك، فهل سيتم اختيارهم للعمل؟ هناك المئات من الجمهوريين الذين سيكون الكثيرون منهم مرشحين لاحتلال مناصب عليا في الظروف العادية، من الذين نددوا علناً بترامب. وسوف يستمر البعض في معارضته، بينما سيسأل آخرون أنفسهم عما إذا كان من الأفضل ممارسة التأثير من الداخل أم الاستمرار في محاولة التأثير من الخارج. ومن جانبه، سيكون على ترامب أن يقرر ما إذا كان سيعين أناساً عارضوه في السابق، أم أنه سيكافئ أولئك الذين دعموه في الحملة أو ظلوا صامتين. ويشمل المعسكر الأخير كلاً من وليد فارس، الذي ينظر إلى العلاقات مع العالم الإسلامي على أنها أكثر قرباً من صراع حضارات؛ ومتقاعد الجيش الأميركي الجنرال مايكل فلين، المنتقد المفوه لإدارة أوباما و”الإسلام المتطرف”، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق جيمس وولسي، وساسة حاليين وسابقين مثل السيناتورَين جيف سيسيونز ونيوت غينغريش.
إذا عين ترامب شخصيات رفيعة من المؤسسة الجمهورية من الذين انتقدوه، فإنهم سيحاولون بلا شك تنعيم الحواف الخشنة جداً في نظرة ترامب العالمية، وتهميش المؤمنين الحقيقيين بها. ويمكن أن يذهب ترامب إلى هذا السيناريو، ولو أن هناك احتمالاً آخر: ففي مواجهة الجمود على الجانب المحلي، ربما يتحول إلى السياسة الخارجية لأنها تخضع لقدر أقل من الضوابط والتوازنات والفحص والتدقيق. وسوف يكافح لغرس أجندته المحلية بسبب المعارضة في الكونغرس وقيود القانون. وسوف تكون له المزيد من الحرية دولياً. فليس هناك أحد أو قانون يمنعه من التحالف مع بوتين، إو إهمال حليف ما، أو خلخلة الأشياء ببيان سياسة خارجية يقطع شوطاً أبعد من اللازم. وكما شاهدنا، فإن التظلم ضد بقية العالم ليست جزءاً من أيديولوجية ترامب فحسب، وإنما هي جوهرها نفسه. وهكذا يكون السيناريو الثاني هو أن يسعى ترامب إلى الحكم كما خاض حملته، على أساس تعيين فريقه الاستشاري الحالي في مناصب رفيعة، وتوجيههم إلى سحب الولايات المتحدة من التزاماتها الدولية وبناء شراكة مع روسيا بوتين.
بغض النظر عن أي السيناريوهات هو الذي سيتكشف، فإن إدارة يرأسها ترامب سوف تكون بمثابة صدمة هائلة لعالم السياسة. (يتبع)

توماس رايت

صحيفة الغد