على مشارف مئوية وعد بلفور.. سراب حل الدولتين

على مشارف مئوية وعد بلفور.. سراب حل الدولتين

12200645_10153779272732835_775674497_n

يبدأ غدا العام المتمم لمئوية وعد بلفور. قراءة المشهد العام لحدث كارثي استنبت كيانا غريبا في جسد الأمة العربية تقول إنه كان ثمرة مقدمات وتراكمات تبلغ مستوى الحتميات، وإن 99 عاما بعده أفضت إلى مشهد عربي مأزوم، أكثر قبولا للاستسلام، واستعدادا لتحالفات معلنة مع العدو، بعد أن كان التواطؤ سرا، لحماية عروش بامتداد الجغرافيا العربية من الخليج إلى المحيط، حتى أن زيارة شمعون بيريز إلى محميات عربية – لا تربطها بفلسطين حدود – لم تُصنّف ضمن الكبائر الأخلاقية.

في عام 1917 كان العالم العربي ضحية قوى استعمارية تحتل الأوطان، وتدير أحلام الثورة وتخادع أصحابها، كما جرى مع الشريف حسين.

وفي نهاية العام 2016 لا تحتاج هذه القوى إلى بذل الجهد نفسه؛ فهي الراعي الرسمي لثلاثي النكسة العربية الدائمة “أنظمة الحكم العسكرية والدينية والقبلية”، وبدلا من الاستناد إلى قرار الجمعية العـامة للأمم المتحـدة الـذي لا يسقط بالتقادم، في 29 نوفمبر 1947، والخاص بتقسيم فلسطين، كرست الأنظمة، منقـوصة الشرعية، مقـولة مغلـوطة عـن سراب اسمه السلام، باعتبـاره خيـارا وحيـدا، من دون أن تستفتي الشعوب على المصائر.

الخيار حين يكون وحيدا يصير مذلة وإذعانا، هذا ما يدركه عدو يرفض مقولة “الأرض مقابل السلام”، ويستهين باقتراح “حل الدولتين” منذ أطلقته القمة العربية في بيـروت عـام 2002، ولـوّحت بالتطبيع مقـابل دولـة فلسطينيـة على حـدود عـام 1967؛ فـإسرائيل خـلاصـة الخبـرة الاستعمـارية على مـدى التـاريخ، وتعي أن فـاقـدي الشرعية لا تهدى إليهم “دولة”، وأن الدول ليسـت بالتمني، وإنمـا بالإرادة والتضحيـات.

ورغم انفجارات العالم العربي باحتجاجات وثورات منذ نهاية عام 2010، فإنها أجهضت، وأسفر الربيع عن انشطارات في جغرافيا البلد الواحد، واستقطابات حادة، وتصدعات وشروخ نفسية في الأسرة الواحدة، فضلا عن انتحـار يحمل معنى الكفر الحضاري بالحاضر اعتصاما بماض يرى فيه اليمين الديني خلاصا وسعادة للبشرية، وكفر بالمستقبل هروبا إلى اكتئاب يكـاد يشمل المحبطين من مآلات ثـورات لم تكن لتنتصر إلا إذا أصبحت فعلا ثقافيا واعيا.

أوضح الأمثلة على فشل الثورات أن تلجأ جماهير مغيَّبة، بالاختيار الحر أو الاحتيال، إلى طلب الأمان وعقد الآمال على فاقدي الوعي بطبيعة القضية، إذ يرونها صراعا أو نزاعا فلسطينيا إسرائيليا. ويتوهم البعض أن وعد بلفور بوطن لليهود في فلسطين، في 2 نوفمبر 1917 هو الأساس الذي بنيت عليه فكرة “الدولة”، في حين ظلت “إسرائيل” حلما قديما، أسهم في تنمية الشعور به واستعجاله يهود وغير يهود، وإلى الفريق الأخير ينتمي نابليون الذي داعب يهود العالم بندائه:

رغم انفجارات العالم العربي باحتجاجات منذ نهاية 2010، فإنها أجهضت وأسفر الربيع عن انشطارات في جغرافيا البلد الواحد، فضلا عن انتحـار يحمل الكفر بالحاضر اعتصاما بماض يرى فيه اليمين الديني سعادة للبشرية

“أيها الإسرائيليون، أيها الشعب الفريد، الذي لم تستطع قوى الفتح والطغيان أن تسلبه نسبه ووجوده القومي، وإن كانت قد سلبته أرض الأجداد فقط… انهضوا بقوة أيها المشردون في التيه… إن فرنسا تقدم لكم يدها الآن حاملة إرث إسرائيل… إن الجيش الذي أرسلتني العناية الإلهية به، ويمشي بالنصر أمامه وبالعدل وراءه، قد اختار القدس مقرا لقيادته، وخلال بضعة أيام سينتقل إلى دمشق المجاورة التي استهانت طويلا بمدينة داود وأذلتها. يا ورثة فلسطين الشرعيين.. إن الأمة الفرنسية التي لا تتاجر بالرجال والأوطان كما فعل غيرها، تدعوكم إلى إرثكم بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء…”.

ويذكر محمد حسنين هيكل في الكتاب الأول من ثلاثية “المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل” وعنوانه “الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية” أن نابليون دعا عام 1807 إلى عقد مجمع يهودي “سانهردان” بحضور رؤساء كل الطوائف اليهودية في أوروبا، لجمع “شمل الأمة اليهودية” على حد قول نابليون. وقد نص القرار الثالث من قرارات المجمع على “ضرورة إيقاظ وعي اليهود إلى حاجتهم للتدريب العسكري لكي يتمكنوا من أداء واجبهم المقدس الذي يحتاج إليه دينهم”. كما يسجل هيكل أن اللورد بالمرستون رئيس وزراء بريطانيا، اقتنع في يونيو 1838 برغبة روتشيلد في “تصدير الفائض” من يهود أوروبا إلى فلسطين، ومساعدتهم على إنشاء شبكة مستعمرات، لكي تصبح عازلا “يحجز مصر عن سوريا، ويمنع لقاءهما في الزاوية الإستراتيجية الحاكمة”.

ظلت فلسطين قبلة لليهود، حلما مؤجلا وجائزة كبرى وعدتهم بها القوى الإمبريالية المتنافسة، بدعوى تنفيذ وعد الرب لشعبه المختار، وبهذا الوعد تخلصت أوروبا من الصداع اليهودي، كما استخدمت اليهود أداة عسكرية لعزل شطري العالم العربي. أما الكلام عن بدائل لتصدير هذا الفائض اليهودي، إلى أماكن أخرى (قبرص، الأرجنتين، العراق، أوغندا)، فلا يصمد أمام الإصرار الأوروبي الاستعماري على الدفع باليهود نحو فلسطين، منذ نابليون، مرورا ببالمرستون، وصولا إلى السلطان عبدالحميد الثاني، ثم جاء وعد بلفور مجرد حصاد، ومن دونه كان المشروع الاستيطاني الغربي سينتهي إلى فلسطين أيضا، وكانت خطة تيودور هرتزل لتوطين اليهود في سيناء عام 1903 جزءا من ذلك، بعد تنظيم المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا في أغسطس 1897، وتأسيس المنظمة الصهيونية العالمية، لتنفيذ الخطة الصهيونية الهادفة إلى إنشاء وطن لليهود في فلسطين يعترف به العالم.

يذكر الدكتور صبري أحمد العدل في كتابه “سيناء في التاريخ الحديث 1869- 1917” أن هرتزل أرسل بعثة استكشافية إلى سيناء لمعرفة ملاءمتها لتأسيس مستعمرة يهودية، وأن اللورد كرومر قابل البعثة وسهل مهامها، كما أرسلت المنظمة الصهيونية ليوبولد جرينبرج إلى مصر، للحصول على امتياز إنشاء شركة تعمل على توطين اليهود في سيناء، إلا أن الحكومة المصرية رفضت “التنازل عن جزء أو كل من الحقوق المتعلقة بالسيـادة”. ثم جاء هرتزل إلى القاهرة، وقابل كرومر وبطرس غالي رئيس الوزراء ولم يجد إلا الرفض، وبعد فشل هرتزل تكررت محاولة لتوطين اليهود في رفح، حين سعى اليهودي إسكندر كنزوفيتش وكيل القنصل البريطاني في غزة إلى شراء الأراضي القريبة من فلسطين على الحدود الشمالية المتاخمة.

هل كان وعد بلفور حتمية توجت تلك الجهود؟ وماذا عن أسطورة السلطان عبدالحميد؟

في كتابها “دور السلطان عبدالحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين 1876- 1909”، تقدم الدكتورة فدوى نصيرات رصدا ينقض الرواية المستقرة عن رفض السلطان عبدالحميد بيع فلسطين أو تسهيل إقامة مستعمرات بها، في أول لقاء مع هرتزل. فإذا كان موقف السلطان حاسما ونهائيا، فلماذا قابل هرتزل خمس مرات ـ منها اثنتان على نفقة السلطان ـ بين عامي 1896 و1902؟ هل كان رفض السلطان لفظيا مراوغا يعفيه من الاتهام بالخيانة، مع صمته على استمرار توسع الاستثمارات اليهودية في فلسطين، وتواصل الاستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية؟

هل يقارن السلطان بأنور السادات في تصريحاته المعلنة، مقابل سياسات عزلت مصر عن ظهيرها العربي والعالمثالثي، منذ زيارته للقدس في نوفمبر 1977. بتلك الزيارة وما تليها تحقق لإسرائيل ما عجزت عنه بالحرب، وزاد العبء على شعب فلسطين الذي لا يرضيه حكم ذاتي، ولا يقنعه كلام مرسل عن حل الدولتين؛ لأنه يهدم الفكرة الاستعمارية التي من أجلها أنشأت الإمبريالية إسرائيل. الحل في دولة واحدة، علمانية يتساوى فيها المواطن أيا كان دينه، مهما يعارض اليمين الديني اليهودي والإسلامي، وأن يستعيد الفلسطينيون حق العودة. هذا هو الاختبار الحقيقي لأكذوبة الديمقراطية في إسرائيل ورعاتها من قوى الاستعمار القديم والحديث.

سعد القرش

صحيفة العرب اللندنية