شبح الحرب المتعددة في المنطقة العربية

شبح الحرب المتعددة في المنطقة العربية

580

يرتفع منسوب التوتر في المنطقة العربية يوما بعد يوم، وتزداد أعداد القوى المنخرطة في مشاكل البلدان العربية. تشكل سوريا والعراق أهم بؤرتي توتر، وواضح أن القوى الداخلية المتنافسة على ترتيب الأوضاع الداخلية ليست قليلة لما تحتويه الدولتان من تعدد مذهبي وديني وعرقي وأيديولوجي، كما أن الدول التي تلعب أصابعها بشؤون الدولتين ترتفع أعدادها ولا تقل.

ولا نستبعد أيضا الشأنين الليبي واليمني، ولا المصري كذلك. وكلما ارتفعت أعداد القوى المنخرطة في الصراعات العربية الداخلية تزداد الأوضاع توترا، وترتفع حدة القتال وسفك الدماء. وهذه محصلة متوقعة لأن لكل قوة مصالح خاصة بها، وكل قوة تريد تحقيق مصالحها ولو كان على جماجم العرب المساكين الذين لا ناقة لهم ولا جمل في الحروب. هناك دول عظمى في أتون الصراعات الآن، ودول أخرى من الشرق والغرب، وكل دولة لها مصالحها ورؤيتها للحل. ولهذا يصعب التوفيق بين كل المصالح المتضاربة في الغالب، وكلما أصبح التوفيق بعيدا، تبقى احتمالات استمرار الحروب قائمة.

الحرب متعددة الأطراف
والسؤال المطروح بخاصة في وسائل الإعلام يدور حول ما إذا كانت الصراعات ستؤدي إلى حرب متعددة الأطراف تشارك فيها عدة دول، وتكون وبالا على كل دول المنطقة العربية وشعوبها. وهناك من يقول إن الصراع في العراق وسوريا سيؤدي إلى حرب عالمية ثالثة تكون روسيا وأميركا محورين أساسيين فيها. وفي هذا المقال أحاول الإجابة عن هذا السؤال. وإذا كان لنا أن نتكهن بحرب واسعة تشمل عدة دول من داخل المنطقة وخارجها، فإن الاحتمالات تتلخص بالتالي:

“من المستبعد أن تنشب حرب بين أميركا وروسيا لأن كلا الدولتين تعيان تماما أن أي حرب بينهما ستؤدي إلى تدمير الدولتين ودول أوروبية وربما عربية أيضا. القاعدة العقلانية تقول إن الدول النووية لا تدخل في حروب فيما بينه”

1- صدام عسكري مباشر بين روسيا وأميركا يشارك فيه وكلاؤهما في المنطقة.
2- حرب عربية إسرائيلية على إيران وحزب الله.
3- حرب إسرائيلية على جنوب لبنان وغزة بمساعدة أمنية عربية.
4- حرب روسية أطلسية في أوروبا لا تعفي المنطقة العربية من ويلاتها.
5- حرب بين العراق وسوريا من جهة وتركيا من جهة أخرى.

صدقية الاحتمالات
من المستبعد أن تنشب حرب بين أميركا وروسيا لأن كلا الدولتين تعيان تماما أن أي حرب بينهما ستؤدي إلى تدمير الدولتين ودول أوروبية وربما عربية أيضا. القاعدة العقلانية تقول إن الدول النووية لا تدخل في حروب فيما بينها، قوة كل دولة نووية تشكل رادعا للخصم ولمالكها أيضا. أو كما يقول المثل الشعبي إن البندقية الفارغة من الرصاص تخيف اثنين: تخيف حاملها لأنه يعرف أنها غير محشوة، وتخيف المصوبة نحوه لأنه يظن أنها محشوة.

القنبلة النووية أمام خصم نووي ضعيفة ومشلولة، لكن كل طرف يعي أنها خياره الأخير، ولا يتخلى عنها إذا أراد أن يبقى صاحب قوة رادعة. قوة الردع تحول دون حرب بين أكبر قوتين نوويتين في العالم. لكن أميركا وروسيا ستستمران في حرب الوكالة. ستستمر الدولتان في دعم وكلائهما عسى أن يتحقق نصر، أو عسى شبح الهزيمة يتلاشى. وحرب الوكالة تعني أن العرب هم الذين يقدمون المال لاستمرار القتال، وأبناؤهم هم الذين تسفك دماؤهم. ويبدو أن العرب الذين جندوا أنفسهم للقتال بالوكالة قد تسلحوا بالكثير من الحماقة والغباء.

أما الاحتمال الثاني الخاص بحرب إسرائيلية عربية على إيران فمستبعد أيضا الآن وذلك لأن إسرائيل ليست مستعدة لحرب بخاصة في جبهتها الداخلية. الجبهة الداخلية الإسرائيلية ما زالت غير محصنة، وهي عرضة للهزيمة النفسية والمعنوية مما يشكل عبئا كبيرا على حكومة إسرائيل وعلى الجيش. من السهل إصابة الجمهور الإسرائيلي بالانهيار المعنوي وتشتيته من القرى والبلدات التي يتواجد فيها ليهيم على وجهه طالبا الأمن في أماكن لا تطالها الصواريخ، وربما يضطر للهرب إلى القرى العربية في الأرض المحتلة عام 1948 طلبا للحماية كما حصل جزئيا أيام صواريخ العراق.

“تعاني إسرائيل من ضعف استخباري فيما يخص التسليح الإيراني والتكتيكات العسكرية التي يمكن أن تُفاجأ بها. إسرائيل لم تعد لديها تلك القوة الاستخبارية التي كانت، أو أن أعداءها أصبحوا أكثر قدرة على حفظ أسرارهم العسكرية”

وإسرائيل لا تأمن عدم انضمام حزب الله إلى طهران لدعم مجهودها الحربي، ما يعني أن مهمة الجيش الإسرائيلي أو بالتحديد الطيران ستكون معقدة، وغالبا ستنتهي إلى فشل. وإسرائيل لن تأمن الجانب العربي الذي يمكن أن ينضم إليها في الحرب على إيران. إسرائيل لا يوجد لديها قناعة بأن الجيوش العربية النظامية صالحة لخوض حروب حديثة، ولا تضمن صدق الطيارين العرب فيما إذا وقعت الواقعة. يمكن أن يكون نظام عربي وفيا لإسرائيل وداعما حقيقيا، لكنها تشك في نوايا المقاتلين العرب.

كما أن إسرائيل تعاني من ضعف استخباري فيما يخص التسليح الإيراني والتكتيكات العسكرية التي يمكن أن تُفاجأ فيها. إسرائيل لم تعد لديها تلك القوة الاستخبارية التي كانت، أو أن أعداءها أصبحوا أكثر قدرة على حفظ أسرارهم العسكرية.

لا يختلف الاحتمال الثالث بشأن شن حرب على جنوب لبنان وغزة عن الاحتمال الثاني. إسرائيل تتعامل مع حزب الله على أنه قوة ردع حقيقية وأن عليها أن تفكر كثيرا قبل أن تتخذ قرارا بشن حرب عليه.
وهي حريصة على عدم فتح جبهتين في آن واحد حفاظا على معنويات جمهورها غير المرتفعة. الجمهور الإسرائيلي لا يتحمل صواريخ حزب الله، فكيف به إذا انضمت صواريخ غزة إلى صواريخ حزب الله؟

كما أن إسرائيل قد جربت عضلاتها في أربعة حروب على المقاومة العربية: واحدة على جنوب لبنان، وثلاث على جنوب فلسطين، وفشلت. فهل تجرب مرة جديدة وهي ما زالت في شك من قدراتها على إلحاق الهزيمة بالمقاومة؟ من الأسهل على إسرائيل أن تحارب جيوشا عربية نظامية مجتمعة من أن تحارب حزب الله أو حماس.

الاحتمال الرابع مستبعد أيضا لأنه ينطوي على ذات المخاوف التي يحملها الاحتمال الأول. الدول الأوروبية ليست مستعدة لتلقي الدمار وقتل الملايين من أبنائها، وهي حريصة على تهدئة الأمور والضغط على الولايات المتحدة حتى لا ترفع درجة التوتر. أميركا ليست معنية لا بحرب تقليدية ولا نووية لأن في ذلك هلاك دول أوروبية عدة وهلاك أميركا نفسها، والدول الأوروبية تجنح نحو تسوية الأوضاع مع موسكو بدون عقوبات وبدون تهديد ووعيد. وفي العقوبات الأخيرة التي فرضتها الدول الغربية على موسكو، باتت أوروبا تدرك أنها أكبر المتضررين من هذه العقوبات، والأذى يلحق بها أكثر مما يلحق بروسيا نفسها.

حرب عربية تركية
يبدو الاحتمال الأخير المتعلق بحرب عربية تركية أكثر الاحتمالات ترجيحا. سوريا والعراق ليستا مستعدتين لحرب مع تركيا لأن جيشيهما منهكان ومشتتان على طول البلاد وعرضها. لا توجد قدرة سورية أو عراقية على حشد ما يكفي من القوات في مواجهة تركيا بسبب انتشار هذه القوات في بؤر جغرافية عديدة لمواجهة التيارات المعارضة. لكن ماذا يمكن أن تفعل الدولتان فيما لو أصرت تركيا على إبقاء قواتها في الأراضي العربية؟ أو فيما إذا قررت اجتزاء بعض الأراضي العراقية والسورية؟

“بدأت تركيا حركتها في الساحة العربية سلمية، وحرصت على دور الوساطة وتليين المواقف وإقناع قادة الأنظمة العربية بضرورة تحرير الإنسان العربي وفتح مجال للحريات، لكن دورها أخذ ينحو منحى آخر إثر فشلها في صياغة حل سلمي للأزمات”

الخشية أن تحشر تركيا سوريا والعراق في زاوية ولا تترك لهما مجالا لتجنب الحرب. ستلجأ الدولتان إلى روسيا وإيران طلبا للعون الاستخباري والدعم الجوي، وطلبا للسلاح، وتعي كل من روسيا وإيران أن مصالحهما تتطلب عدم هزيمة الجيشين السوري والعراقي.

بدأت تركيا حركتها في الساحة العربية سلمية، وحرصت على دور الوساطة وتليين المواقف وإقناع قادة الأنظمة العربية بضرورة تحرير الإنسان العربي وفتح مجال للحريات، لكن دورها أخذ ينحو منحى آخر إثر فشلها في صياغة حل سلمي للأزمات. تدخلت تركيا في الصراعات الداخلية العربية من خلال فتح الحدود والسماح للمال والمعدات العسكرية والجنود بالدخول إلى العراق وسوريا. وفي ذات الوقت لم تبتعد تركيا عن المشهد المصري، ولم يحل بينها وبين التدخل المباشر إلا عدم وجود حدود مشتركة بين الدولتين. ثم صعدت تركيا تدخلها فأرسلت قواتها إلى العراق وسوريا، وهي تتعمد الحديث الآن عن إقامة مناطق آمنة شمال العراق وسوريا. وعلى العرب ألا يفاجؤوا إذا بدأت تتحدث عن نواياها بضم مناطق من العراق وسوريا.

لتركيا أطماع في العراق وسوريا، وسبق لها أن اجتزأت لواء الإسكندرون من سوريا والبالغة مساحته 4300 كم2 بمساعدة فرنسا عام 1939. ولهذا نبش أردوغان معاهدة لوزان، وتنكر بصورة غير مباشرة لما وقعت عليه القيادة التركية عام 1923. معاهدة لوزان لا تعطي الموصل لتركيا لا بعد سنة من توقيع الاتفاق ولا بعد عشرين. الاتفاقية الاستعمارية تقول إنه إذا لم تستقر الأمور في الموصل فإن مآلها كردستان العراق وليس تركيا. هذا علما أن تركيا قد ضمت بالتعاون مع الدول الاستعمارية مدنا عربية مثل مرسين وطرسوس وقيليقية وأضنة وعنتاب وكلس وأورفة وحران وديار بكر وجزيرة ابن عمر. والآن هي تطمح بالمزيد، وكلام أردوغان الفظ تجاه رئيس وزراء العراق يعبر عن هذه الأطماع.
تتصرف تركيا بطريقة تستفز العرب لحشد قواتهم وتعزيز قدراتهم العسكرية لمواجهة شبه أكيدة. وإذا أصرت تركيا على موقفها فإن الحرب ستنشب وسيتم استنزاف الطاقات العربية والتركية معا دون أن يخرج أحد منتصرا. ومن المحتمل أن تتسع دائرة الحرب فتشمل مزيدا من الدول مثل إيران وروسيا والأردن ودول عربية أخرى. وفي هذا دمار كبير للمنطقة وشعوبها.

عبدالستار قاسم

الجزيرة