آليات تطهير الجيش في تركيا تعقد الطموحات الإقليمية

آليات تطهير الجيش في تركيا تعقد الطموحات الإقليمية

17ipj23

في جهد طموح لضمان لعب تركيا دوراً قيادياً في تأطير العراق وسورية بعد طرد “داعش” منهما، ذهب المسؤولون الأتراك إلى اختيار الهجوم المعاكس في الأشهر الأخيرة، فنشروا قوات على الحدود، وأصدروا تهديدات للحكومات الأجنبية، وأبدوا حرصاً معلناً على العودة إلى الأراضي العثمانية التي كانت قد نحتت قبل قرن مضى.
لكن الصخب يأتي في وقت يخضع فيه الجيش التركي لحملة تطهير طالت أشهراً، والتي تشهد تسريح الآلاف من الجنود وسجن المئات من الضباط الكبار أو إعفائهم من الخدمة، بينما تم استدعاء أعداد أخرى من مهماتهم وراء البحار مع حلف الناتو وحلفاء آخرين. وتأتي حالات الانتقام واسعة النطاق في أعقاب الانقلاب العسكري الفاشل الذي سعى إلى الإطاحة بالرئيس رجب طيب أردوغان في تموز (يوليو) الماضي، لتطوي في ظلالها حملات التطهير التركية السابقة التي أعقبت محاولات انقلابية فاشلة أخرى.
يجري راهناً تجزيء القوة الجوية التركية. وقد تم تسريح 300 من ضباطها على الأقل، مما أفضى إلى إلحاق الشلل بحركة خمسة أسراب من المقاتلات من طراز (ف- 16)، لينخفض بذلك عدد المقاتلات المتاحة من 240 إلى حوالي 140. وحتى تلك الطائرات قد تكون صعبة الصيانة بطريقة مناسبة على ضوء التطهير الذي طاول الميكانيكيين والطواقم الأرضية في أعقاب انقلاب 15 تموز (يوليو) الماضي، الذي شهد قصف طائرات عدة من طراز (ف 16) لمبنى البرلمان في أنقرة ولقصر أردوغان.
كما اعتقلت الشرطة التركية مؤخراً 45 طياراًً آخر من سلاح الجو التركي، ليشكلوا بالتالي الدفعة الأحدث في حملة تطهير غير مسبوقة في تاريخ دول الناتو. وثمة ما يصل إلى نحو 10.000 عضو في سلاح الطيران التركي الذين سرحوا أو اعتقلوا في الأشهر الثلاثة الماضية، لتوجه هذه الاعتقالات صفعة قوية إلى سلاح الجو التركي، لا سيما وأنها طاولت كبار ضباط سلاح الجو الذين اتهموا بالمشاركة في الحملة الانقلابية الفاشلة. وبشكل إجمالي، تم تسريح أو اعتقال 149 جنرالاً وأدميرالاً، أي نصف إجمالي كبار ضباط الجيش التركي. وأفضى التسريح إلى إحداث قطع عميق جداً إلى درجة أن أنقرة تبحث حالياً عن طلبة هندسة، وحتى عن ضباط علمانيين كانوا قد أجبروا على التقاعد بعد محاولة الانقلاب في العام 2010 بهدف الحد من جفاف العقول.
وفي الأثناء، تدفع حملة التطهير تركيا إلى لعب دور أكثر مغامرة في المنطقة، عبر منح القوات قتالا خارج تركيا، وجعل تلك الرؤى التحريرية الوحدوية أصعب كثيراً على الإنجاز. وبالإضافة إلى ذلك، يهدد تنظيف البيت العسكري التركي بإضعاف الجناح الجنوبي لحلف الناتو، تماماً عندما تصاعدت نزعة المغامرة الروسية في الجوار، مع شن عملية عسكرية متجددة لدعم قوات بشار السد في سورية ونشر قوات بحرية روسية ثقيلة في البحر الأبيض المتوسط.
قال غونل تول، مدير مركز الدراسات التركية في معهد الشرق الأوسط لمجلة “فورين بوليسي، إن حكومة أردوغان تسعى يائسة إلى “إعادة بناء صورة الجيش” بعد الانقلاب. وثمة طريقة واحدة للقيام بذلك، هي جر الجيش إلى القتال. وكانت القوات التركية قد اجتازت الحدود السورية في آب (أغسطس) الماضي خلال عملية الفرات لطرد “داعش” عن الحدود التركية ومنع المليشيات الكردية من توسيع مناطقها السورية.
ومنذ ذلك الحين، رفعت تركيا من حدة خطابها باستمرار. ولعب وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو دوراً رئيسياً، فهدد بغزو بري للعراق وبالمزيد من الهجمات على القوات الكردية المدعومة أميركياً والتي تقاتل في سورية، وادعى بأن طائرات (ف-16) التركية منخرطة في العمليات فوق الموصل، (وهي ليست كذلك).
كما سعّر أردوغان نفسه اللهيب. فبعد أن رفضت الحكومة العراقية عرض تركيا أن تشارك طائراتها المقاتلة في القتال من أجل الموصل في الشهر الماضي، قال أردوغان للبرلمان التركي: “سوف نلعب دوراً في عملية تحرير الموصل ولا يستطيع أي أحد منعنا من المشاركة”. وثمة 600 جندي تركي في قاعدة إلى الشمال من الموصل، والذين لا يلقون الترحيب، حيث يقومون بتدريب ميليشيات سنية وكردية صديقة على الرغم من صيحات الاحتجاج من رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي.
يقول خبراء إقليميون أن الأتراك ليسوا بعيدين عن التطلع إلى لعب دور جاد في العمليات الأمنية في المنطقة. والمعروف أن تركيا تشترك في حدود طويلة ونفاذة غالباً مع العراق ومع سورية على حد سواء؛ حيث أمضت أنقرة عقوداً وهي تقاتل المسلحين الأكراد من حزب العمال الكردستاني في جنوب شرقي تركيا، والذين يستخدمون البلدين كملاذين آمنين. وتعد رغبة تركيا في تشكيل ما يحدث بعد طرد “داعش” بالعديد من الطرق امتداداً لعادات أمنية متخندقة عميقاًَ، خاصة عندما يتعلق الأمر بضبط التهديد الذي تشكله الميليشيات الكردية المتنوعة.
لكن التعليقات الأخيرة -من رفض الطلبات العراقية بسحب القوات، إلى الأحلام التوسعية بالسيطرة على أراضٍ- ألحقت ضرراًً بموقف أنقرة في المسرح العالمي.
وقال أرون شتاين الزميل، الرفيع المقيم في مجلس الأطلسي: “إنهم ينفقون رأس المال السياسي أكثر من أي شيء آخر”.
وليست العلاقات مع الولايات المتحدة أفضل حالاً بكثير. وكانت حكومة أردوغان قد ألقت باللائمة في محاولة الانقلاب على قوة مرتبطة بفتح الله غولن، رجل الدين وحليف أردوغان ذات مرة، والذي يعيش في المنفى في بنسلفانيا في الولايات المتحدة. وكانت حركة غولن قد انتشرت في القوات المسلحة، كما يقول أردوغان وداعموه، كما أن رفض واشنطن إعادته إلى تركيا خلق شقاً رئيسياً بين ثنائي الحليفين في الناتو.
يوم الأربعاء الماضي، اجتمع وزير العدل التركي بكير بوزداك مع المدعي العام (وزير العدل) الأميركي الجنرال لوريتا لينتش لدفع ادعاء تركيا بأن غولن هو من كان العقل المدبر للمحاولة الانقلابية، وأنه أثر بشكل مباشر على ضباط رئيسيين في الجيش. وعرض بوزداك للينتش شهادة الكولونيل ليفنت تركمان، مساعد رئيس هيئة الأركان في القوات المسلحة التركية، والتي أقر فيها تركمان، تحت الاستنطاق، بأنه غولني، واعترف بالتنصت على مكالمات رئيس الأركان وبتوصيل الأشرطة إلى صلات لشحنها إلى غولن في بنسلفانيا. ومثل العديد من كبار الضباط الذين اعتقلوا بعد الانقلاب، تظهر صور التقطت لتركان في الأيام التي تلت العملية الفاشلة وجهه مدمى ويديه ووسطه ملفوفة بضمادات بكثافة.
ومتحدثاً إلى الصحفيين في السفارة التركية مؤخراً، حذر بوزداك من أن عدم تسليم غولِن “سيوجه صفعة إلى العلاقات التركية الأميركية. نريد من الولايات المتحدة أن تفهمنا، لأن هناك نزعة معادية لأميركا بين الشعب التركي”.
وقال لينتش إن الولايات المتحدة تحتاج قبل تسليم غولن إلى إثبات في محكمة أميركية. وكان بيان من وزارة العدل الأميركية قد أوضح أن الجانبين “سيستمران في التعاون الوثيق والتام” حول المسألة.
من شأن حملة التطهير التركية التهديد إضعاف حلف الناتو الذي ما تزال تركيا جزءاً حساساً منه منذ العام 1952. وتمتلك تركيا ثاني أكبر جيش في الحلف بعد الولايات المتحدة. وقد أصابت عملية التطهير ضباط ارتباط مع الناتو وحلفاء آخرين بشدة، مما جعل من الأصعب على بلدان مثل الولايات المتحدة تنسيق العمليات العسكرية. وكان العديد من الضباط المسرحين قد تدربوا أو درسوا في الولايات المتحدة، ومن الممكن أن تخلق مغادرتهم فراغاً في الصفوف العليا للقوات المسلحة، حيث كان وجود الضباط المرتبطين بعلاقات بنيت على مدار سنوات مع ضباط الناتو والدبلوماسيين في الحلف حاسماً.
منذ تموز (يوليو)، تلقى العشرات من الضباط الذين أرسلوا إلى مهمات مع قوات الناتو أوامر بالعودة إلى الوطن؛ حيث اعتقل العديد منهم وأعطي آخرون ببساطة أوراق تسريحهم. وقد عاد إلى تركيا نحو 149 من ممثلي أنقرة العسكريين في مرافق الناتو في كل من بلجيكا وألمانيا وهولندا والمملكة المتحدة. ومن أصل 50 ضابطاً تركياً يخدمون في المقر الرئيسي للناتو في بروكسل، بقي تسعة فقط.
ويقول يورغ بنيتيز، الخبير في حلف الناتو لدى مجلس الأطلسي، إن مسؤولين أتراكاً قالوا له إن حوالي 400 مبعوث عسكري تركي في عموم العالم قد ٍسرّحوا من الخدمة أو تم استدعاءهم.
من شأن حجم حملات التطهير التي ينفذها أردوغان -والتي تشمل أيضاً عشرات الآلاف من القضاة وضباط الشرطة والمعلمين والصحفيين والأكاديميين- أن تصب المزيد من الوقود على نار عدم الاستقرار عند حليف رئيسي في الناتو، والذي يقع راهناً تحت ضغط الهجمات الإرهابية واستقبال أعداد ضخمة من اللاجئين، والحرب التي تصبح أكثر عنفاً في سورية المجاورة، كما قال بنيتيز.
وهذه أخبار مزعجة -ليس فقط بالنسبة للقتال المتواصل ضد “داعش”، وإنما كجزء من جهد الناتو لرص الصف ضد روسيا التي تصبح أكثر عدوانية باطراد وتعزز دفاعاتها في البحر الأسود، والتي تعتبر حملتها العسكرية في سورية أكبر حملة تقوم بها بها وراء البحار في أعوام.
وقال السفير الأميركي السابق لدى تركيا، إريك إيدلمان لمجلة فورين بوليسي: “ما من شك في أن العمل معاً سيكون أقل سهولة”.

بول مكليري

صحيفة الغد