تجارب التحوّل الديمقراطي.. والعرب

تجارب التحوّل الديمقراطي.. والعرب

%d8%b1%d8%a6%d9%8a%d8%b3%d9%8a%d8%a97

تختلف أهمية وسياقات التحوّل الديمقراطي بحسب البلدان والمناطق، ففي أقطار أوروبا الشرقية كان لرحيل الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة أثر مباشر في اندلاع موجات التغيير في هذه البلدان، بحكم العوامل الإيديولوجية المشتركة والقرب الجغرافي، حيث تفاعلت مجمل دول أوروبا الشرقية التي كانت تسبح في «فلك موسكو» بصورة كبيرة مع ما جرى من متغيرات، منذ وصول الرئيس «ميخائيل غورباتشوف» رائد «البريسترويكا» إلى رأس قيادة الاتحاد السوفييتي السابق.
أما في أمريكا اللاتينية، فكان للمعاناة التي كابدتها شعوب المنطقة جرّاء الانقلابات العسكرية، أثر كبير في إنضاج تجارب التحوّل الديمقراطي، وصعود التيارات الاشتراكية إلى الحكم، بما جعل الكثير من هذه الأقطار تحقق إنجازات مهمة على المستويين السياسي والاقتصادي.. وقد أسهمت تجارب العدالة الانتقالية المعتمدة بعدد من دول هذه المنطقة في توفير الأجواء النفسية والسياسية لإنجاح هذا التحوّل في إطار من السلمية والتوافق.
وفي إفريقيا، التي عانت ويلات الاستعمار والتبعيّة والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية لعقود، اتّخذ التحوّل السياسي في كثير من أقطار القارة السمراء منذ بداية التسعينات أشكالاً مختلفة من العنف، وهو ما برز بشكل جليّ في الجزائر والصومال والكونغو وسيراليون ومالي.. حيث تراوحت الأمور بين المد تارة والجزر تارة أخرى، بفعل تعقّد الأوضاع السياسية والاجتماعية، علاوة على العوامل المرتبطة بعدم القدرة على تدبير التنوع المجتمعي، وهو ما جعل الكثير من هذه التجارب تتعثر في بداية الطريق، غير أن ذلك لم يمنع من ظهور تجارب ديمقراطية متميزة، كما هو الشأن بالنسبة لجنوب إفريقيا على عهد الزعيم الراحل «نيلسون مانديلا».
ومن الدروس المستخلصة بصدد التجارب في جنوب شرق آسيا، هو أن التحول الاقتصادي وما رافقه من تحديث للمجتمع، كان له أثر كبير في دعم مسار التحول الديمقراطي في عدد من هذه البلدان، كما هو الشأن بالنسبة لكوريا وتايوان.
ثمة دروس أخرى تقدمها هذه التجارب، وهي أن حدوث توافق بين مختلف القوى والتيارات السياسية هو أمر ضروري يدعم التحول، كسبيل لتجاوز الأحادية والشمولية، واعتماد الخيار الديمقراطي والمرونة في التعاطي مع القضايا الخلافية الكبرى، وينصب التوافق عادة على إشراك مختلف القوى في مرحلة البناء وبلورة تصورات استراتيجية لتحديد معالم المستقبل السياسي والاقتصادي، وتدبير مختلف الأزمات والصراعات. وتشير التجارب أيضا إلى أن التحوّل قد يأخذ فترة زمنية قصيرة في بعض الأحيان، كما يمكن أن يأخذ مدة طويلة في حالات أخرى.
ربطت بعض الأنظمة السياسية في المنطقة العربية بين تحقّق التحول الديمقراطي وتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وهذه معادلة مردود عليها، غالباً ما تتذرع بها هذه الأنظمة لتبرير احتكارها للسلطة.. ذلك أن الهند راكمت تجربة ديمقراطية واعدة، رغم الإكراهات الاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها البلاد، في حين لم يسمح توافر إمكانات اقتصادية هائلة لبعض الدول الغنية في منطق مختلفة من العالم ببلورة تجارب ديمقراطية.
تنطوي تجارب التحوّل الديمقراطي على خصوصيات يفرضها المحيط الداخلي بكل عناصره ومكوناته السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.. وعلى الرغم من أهمية استحضار هذه التجارب بدروسها ودلالاتها المهمة على المستوى العربي؛ فإن ذلك لا يعني حتمية استيرادها وتطبيقها بشكل عشوائي.
إن الاستئناس بهذه التجارب، وبمختلف النظريات العلمية والفكرية المرتبطة بهذا الخصوص، يحيل إلى استخلاص مجموعة من الدلالات والدروس الداعمة للتحوّل، في علاقة ذلك بوجود وعي سياسي يدعم التحوّل، ونخب وأحزاب وقيادات سياسية مؤثرة وذات مشروعية.. إضافة إلى وجود معارضة قوية وعلى قدر من الانسجام، وإعلام حرّ ونزيه ومستقل عن السلطة الحاكمة، ومجتمع مدني دينامي، علاوة على تحييد دور المؤسسة العسكرية وربط مهامها بحفظ النظام وحماية المؤسسات، وتجاوز الصراعات والخلافات الضيقة.
ولا تخفى تأثيرات المحيط الخارجي في هذا الصدد، من حيث توخّي الحياد أو دعم التحوّل سياسياً واقتصادياً.. فيما تؤكد بعض التجارب كما هو الشأن بالنسبة لأوروبا الشرقية أن وجود تجارب ديمقراطية واعدة في الجوار، يشكل عاملاً ضاغطاً لتعزيز التحوّل.. ونستحضر هنا تأثيرات المحيط الإقليمي في الثورة البرتقالية في أوكرانيا، وخصوصاً بعد التحولات السياسية المتسارعة التي شهدتها كل من صربيا عام 2000 وجورجيا عام 2003.
إن الظروف الراهنة التي يمر بها العديد من دول الحراك في المنطقة، تفرض الحرص على اعتماد حكامة أمنية توازن بين فرض النظام واحترام الحقوق والحريات، وما يتصل بذلك من حماية أمن الأشخاص والمؤسسات والأملاك، والسعي لإعمال إصلاحات اقتصادية تدعم سلاسة التحوّل، واعتماد التعددية السياسية والحزبية والتداول السلمي على السلطة، علاوة على إحداث آليات وهيئات لتدبير الأزمات والصراعات المختلفة.. كما تتطلب المرحلة إشراك الشباب والنساء ومختلف مكونات المجتمع في بناء مرحلة ما بعد الحراك.
حقيقة أن الحكومات الجديدة في دول الحراك، تجد نفسها أمام معضلات اجتماعية كبرى، وأمام إكراهات اقتصادية عديدة، تتطلب البحث عن حلول استراتيجية، على مستوى اعتماد انفتاح اقتصادي وجلب الاستثمارات الخارجية وتشجيع الاستثمارات الداخلية، وتشجيع السياحة، وإعمال إصلاحات ضريبية ومكافحة الفساد المالي والإداري.
غير أن هذه الرهانات لا يمكن أن تتحقق إلا مع تأمين الاستقرار وبناء المؤسسات وزرع الثقة بين مختلف الفرقاء والتيارات السياسية، وتجاوز أخطاء واختلالات النظم الاستبدادية.

د.إدريس لكريني

 صحيفة الخليج