ترامب الصورة الخفية لأميركا: عنصرية وصراعات هوية

ترامب الصورة الخفية لأميركا: عنصرية وصراعات هوية

_94028_us3

يعتبر موسم الانتخابات الأميركية لاختيار الرئيس الأميركي الخامس والأربعين، أكثر المواسم المليئة بالأحداث الغريبة وغير المتوقعة، منذ أول انتخابات شهدتها الولايات المتحدة سنة 1789، لا فقط من حيث طبيعة المرشحين الديمقراطية المخضرمة هيلاري كلينتون، والملياردير ذي الأصول الألمانية دونالد ترامب مرشح الجمهوريين المثير للجدل.

لم يكن هناك مرشح للرئاسة الأميركية منذ سنة 1945 يرفض التحالفات الخارجية ويتبنى سياسة إقصائية أكثر من دونالد ترامب الذي يأتي صعوده مواكبا لموجة من القومية المتشدّدة التي اجتاحت العالم الغربي، وبدت واضحة جدا خلال الحملة البريطانية للخروج من الاتحاد الأوروبي، وفي تصريحات زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين.

ويحظى ترامب بتأييد من الحركات اليمينية والقومية المتشددة في أوروبا، وفيما دعمه البعض منهم بتصريحات إعلامية، وتأييد علني، دعمه آخرون بشكل غير مباشر، وأبرزهم نايجل فراج، الرئيس المؤقت لحزب الاستقلال في المملكة المتحدة، الذي قاد حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وعبر فراج عن دعمه لترامب خلال مشاركته له في إحدى حملاته الانتخابية في مدينة جاكسون الأميركية، في مفارقة أثارت انتباه المؤرخ الأميركي دانيال رودجرز، الذي اعتبر المفارقة مردها ظهور نايجل فراج ودعمه للمرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأميركية دونالد ترامب في تجمع انتخابي في مدينة جاكسون، التي تعتبر معقل حركة كو كلوكس كلان، في الستينات، وهي حركة مدافعة عن الأميركيين من أصل أفريقي.

وكتب رودجرز في قراءة تحليلية له، نشرها المركز الملكي البريطاني للشؤون الخارجية، تشاتام هاوس، أنه كان لافتا الخطاب الذي اعتمده ترامب خلال حملته في هذه المدينة، والذي يشبه إلى حد ما الخطاب الذي اعتمده نايجل فراج خلال حملة البركسيت.

ويطرح الخبراء تساؤلات حول الحجم الحقيقي لهؤلاء الناخبين المجهولين، الذين يصعب رصدهم وإحصاء عددهم في استطلاعات الرأي، وإن كانوا سيتمكنون من قلب المعادلة وإحداث مفاجأة تماما كما حصل خلال التصويت غير المتوقع للبريطانيين لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي.

ويستحضر الخبراء ما حدث مع توم برادلي، المرشح الأميركي من أصل أفريقي لمنصب حاكم ولاية كاليفورنيا سنة 1982، حين هزم في الانتخابات، رغم أن استطلاعات الرأي أظهرت فوزه بفارق كبير، والسبب أن العديد من الناخبين لم يتجرأوا حينها على الإفصاح بأنهم سيصوتون لخصمه خشية اتهامهم بالعنصرية.

وبين الأصوات غير المعلنة أصوات الأميركيين البيض غير الحائزين على شهادات وكان عددهم في 2012 يصل إلى 47 مليون أميركي لم يتوجهوا إلى مراكز الاقتراع، ويحاول ترامب اليوم استمالتهم كما قال ديفيد فاسرمان على موقع “فايف ثورتي ايت” الذي يعد مرجعا في مجال الإحصاءات المتعلقة بالانتخابات.

ورأى رئيس تحرير كوك بوليتيكال ريبورت أن ترامب يمكن أن يفوز في الاقتراع الرئاسي في حال نال ثقة قسم من هؤلاء الناخبين؛ ومن شأن ذلك أن يخيب الآمال التي أحبطت أصلا لدى فوزه في الانتخابات التمهيدية.

ووضع معهد بروكينغز ثلاثة سيناريوهات تشمل هذه الفئة من الناخبين لكن حتى في أفضل الحالات لن ينجح ترامب في استقطاب عدد كاف من الناخبين الكبار الذين هم في نهاية المطاف من يختار الرئيس المقبل. لكن الجمهوريين يعوّلون كثيرا على هذه الأصوات المجهولة.

وقد بدا واضحا أن فراج وترامب استخدما بعض العبارات الواردة في خطاب باراك أوباما “نعم نستطيع”، رغم أنهما من أشد المعارضين له.

ويصف الباحث الأميركي هذه الظاهرة بـ”اقتراض الدعم السياسي” مشيرا إلى أنها ليست بالأمر الجديد في السياسة الأميركية، ففي النصف الأول من القرن العشرين، تم تبادل التأييد السياسي عبر الخطوط الوطنية المشتركة لا سيما في صفوف اليسار، حيث وجد التقدميون والاشتراكيون أنفسهم جزءا من حركة دولية لتبادل الأفكار ومشاعر التضامن.

وفي سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، بشّر المحافظون الليبراليون الجدد بمسيرة إلى الأمام للحصول على الأسواق التي تم تحريرها من تاتشر البريطانية وريغان الأميركي إلى بينوشيه التشيلي. ومنذ مطلع القرن الحالي، ظهر على الصعيد الدولي نوع جديد من المحافظين القوميين والمناهضين للأجانب والخائفين والمتضررين من تهديدات التنظيمات المتطرفة في العالم.

وساهم صعود المحافظين الجدد الاقتصادي في توجيه الاستياء إلى المسارات الرئيسية الثلاثة، وهي وفق دراسة دانيال رودجرز:

*بث حالة الغضب على البيروقراطية الدولية والشركات الدولية واعتبارها السبب في تدمير فرص العمل وإعادة هيكلة الثروة

*نقد اتفاقات التجارة الحرة والحدود المفتوحة

*كراهية الأجانب والحث على القومية والثقافة العنصرية وجعل اللاجئين والعمال المهاجرين أهدافا لذلك.

ولا تعتبر مثل هذه الظواهر المكرسة للاقصائية والعنصرية أمرا جديدا في التاريخ السياسي الأميركي، حيث تم اعتماد السياسات الاقتصادية الوقائية بشكل كبير في التاريخ الاقتصادي الأميركي على غرار ما تفعله قناعات التجارة الحرة.

وتأججت المشاعر المعادية للمهاجرين مثل تلك التي تظهر في المسيرات المساندة لدونالد ترامب أكثر وبشكل مكثف في السياسة المعادية للايرلنديين ومكافحة الكاثوليكية في عام 1850، والحركات المناهضة للآسيويين وسياسات الإقصاء التي كانت سائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وتصاعدت الهستيريا المناهضة للأجانب إثر الحرب العالمية الأولى.

لكن لم يحدث قط أن تزامن هذا النوع من القومية الاقتصادية والثقافية في الولايات المتحدة مع ما يشهده العالم اليوم من مد دولي قوي للحركات القومية اليمينية، من داعمي الانفصال في المملكة المتحدة، إلى عودة نيكولا ساركوزي للساحة السياسية الفرنسية، إلى القوميين الألمان. ورغم أن تصريحات وسياسات دونالد ترامب تبدو مختلفة للعالم، إلا أنه لم يخترع حركة ثقافية وسياسية خاصة بل هو يمثل تيارا رجعيا لإعادة هيكلة العقود الماضية من الاقتصاد العالمي.

طوال القرن التاسع عشر، كانت السياسة الأميركية حزبية بامتياز، ومدفوعة إقليميا ودينيا وعرقيا بولاءات سياسية راسخة. وكان هذا عمل المصلحين التقدميين في أوائل القرن العشرين حيث انطلقوا من إبعاد الحكم عن الزعماء السياسيين من خلال الانتخابات التمهيدية المفتوحة والاستفتاءات التشريعية التي يأملون من خلالها أن تفرز قوى المجتمع الأقرب إليهم من أجل التأثير على ديناميات السياسة.

ورغم التاريخ العنصري للسياسة الأميركية، فإن ترشيح دونالد ترامب يعتبر أشبه بالكابوس، بالنسبة إلى أولئك الذين جعلت إصلاحاتهم من ترشيح أمثال ترامب أمرا ممكنا، فهو مرشح جدي للرئاسة لكن دون أي خبرة على الإطلاق في الشؤون العامة أو الوظيفة العامة.

دونالد ترامب لم يخترع حركة ثقافية وسياسية وإنما هو يمثل تيارا رجعيا لإعادة هيكلة العقود الماضية للاقتصاد العالمي

فترامب رجل الأعمال البارع المعروف بعقده للصفقات الناجحة، لم يبد أي ميول سياسية في السابق، كما لم ترد في سيرته الذاتية أي إشارة إلى عمله في مجالس إدارة المدارس ولا في لجان تقسيم المناطق. وشهرته صنعتها بالأساس ثقافة صناعة المشاهير، التي ترتكز على الفضائح والأخبار المثيرة، والتي تلاقي رواجا في الولايات المتحدة وامتدت اليوم إلى الحكومة وترسخت في الوعي الشعبي.

واستفاد ترامب من السياسات الغاضبة والناخبين الشاعرين بالمرارة من السياسات الراهنة والقلق على مستقبل الولايات المتحدة، مع ارتفاع البطالة وتفاقم الأزمات الاجتماعية وتجدد صعود النزعات العنصرية، وهي مشكلات وإن لم يقدم ترامب حلولا لها، بل ساعدت تصريحاته على تفاقمها، إلا أنها لم تمنع الناخبين من التوجه نحو دعم ترامب في خطاباته التي لا يحركها سوى مصطلح الـ”أنا”، على حد تعبير دانيال رودجرز.

مقابل دعم الأميركيين القوميين المتشددين، سوف يفتح فوز ترامب بالرئاسة الأميركية، إذا تم، بوابات الغضب في صفوف النساء والأفارقة الأميركيين والأميركيين اللاتينيين والأقليات الدينية التي حققت انتصارات في نضالها من أجل الحقوق المدنية خلال الستينات والسبعينات.

صحيفة العرب اللندنية