تصريح بلفور في التاسعة والتسعين

تصريح بلفور في التاسعة والتسعين

349
تستعد إسرائيل في العام المقبل لاحتفالات مائة عام على تصريح بلفور، حيث تكرم اللورد آرثر جيمس بلفور السياسي البريطاني من حزب المحافظين الذي وضع اللبنة الأولى والأساس المتين المدعم من دولة الانتداب البريطاني التي كانت إحدى القوتين العظميين، لقيام دولة لليهود في فلسطين، في رسالته الموجهة إلى الفيدرالية الصهيونية العالمية، عبر اللورد وولتر روتشيلد البارون الثاني وزعيم اليهود في بريطانيا العظمى، وذلك في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1917. ويستعد الفلسطينيون في فلسطين والشتات لإحياء الذكرى نفسها بما يليق بنكبتهم، وبداية مأساتهم التي لم يعرف التاريخ وصانعوه طريقاً لحلها، أو التخفيف من كارثيتها التي عانت منها أجيال عديدة من هذا الشعب سيئ الحظ.
في 1917 سيكون أمام أبي ثلاث سنوات كي يولد في عام 1920، في قريته الناعمة، في فلسطين المنتدبة بريطانياً. وبذلك يكون مصير أبي قد تشكل بملامحه المأساوية قبل ولادته، نتيجة تصريحات اللورد الإسكتلندي المحافظ ووزير خارجية الحكومة الائتلافية، برئاسة حزب الليبراليين. كان على أبي أن يعيش في بلاده ثمانية وعشرين عاماً، قبل أن يصير لاجئاً في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم، لأن لورداً إسكتلندياً قدّم وعداً، عبر تصريحه الموافق عليه من الحكومة البريطانية وقتذاك، وباسم الملك البريطاني، جورج فريدريك الخامس، بالعمل على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، تُحفظ فيه الحقوق المدنية والدينية (فقط) للسكان الأصليين. وفي 1948، عام تحقيق هذا الوعد من دولة الانتداب البريطانية على فلسطين، سيكون أمامي ثلاث سنوات لأولد في ذلك المخيم، وأكون شاهداً خالداً على قسوة تلك السياسة الاستعمارية التي أدتها بريطانيا، بكل نجاح وسادية.
تذكّرت منذ أسابيع عندما قرأت عن نية السلطة الفلسطينية رفع دعوى قانونية ضد هذا الوعد، أنني في العام 1985 فكّرت، وأنا أعيش في لندن، برفع دعوى شخصية ضد حزب المحافظين البريطاني والحزب الليبرالي والدولة البريطانية، وعائلة اللورد بلفور بصفته الشخصية، أطالب فيها ليس بالاعتذار فقط، وإنما بتعويض شخصي لما لحقني من أذىً شخصي، نتيجة لتلك السياسات الإرهابية التي اتخذتها الحكومة البريطانية عام 1917 بحق الفلسطينيين، بحيث محقت حقوقهم، وأعطت اليهود في بريطانيا والعالم الحق بمصادرة وطن الفلسطينيين، عبر عمليات تهجير وتطهير عرقي، قامت به العصابات اليهودية، مستغلةً دعم دولة الانتداب السياسي والأخلاقي والعسكري واللوجستي، ومن ثم بناء دولة لليهود على أنقاض حقوقنا، ما أحدث مأساة اللجوء التي كنت أنا ضحية لها.
قمت ببحث جاد، إلى أن عثرت على أحد أحفاد واحدةٍ من شقيقات اللورد بلفور، وكان وقتها في نهاية السبعينيات، ويعيش في إسكتلندا، واتصلت به عبر الهاتف، وأعلمني بوجود أرشيفٍ خاص لمراسلات بلفور، وهو أمينٌ عليها، ولم يمانع من أن أطّلع عليه. وناقشت أمر الدعوى القضائية مع الدكتور البريطاني من أصل فلسطيني، موسى المزاوي، وهو خبير في القانون الدولي وأستاذ الدراسات القانونية في جامعة لندن. وتحمس للأمر، وإنْ حذرني من أن القضية بحاجةٍ لدعم مؤسسات نافذة وقوية، تمتلك قدرات مالية، لأهمية القضية التي قد تتطلب أموالاً في حالتي الخسارة والفوز. وكان رأيه أن القضية سياسية بالدرجة الأولى، وقد تستقطب وسائل الإعلام وتسلط الضوء على المأساة الفلسطينية في بريطانيا والعالم، فبريطانيون كثر يجهلون اليوم دور دولتهم في هذه المأساة.
كانت قضيتي ضد بلفور، لأنه حكم عليّ قبل ولادة أبي بثلاث سنوات، وقبل ولادتي بأربعة وثلاثين عاماً، وقبل ولادة ابنتي بستة وتسعين عاماً، بالعيش في ظلال اليأس والتشرّد، فصرنا أحفاد هذا الوعد المدمر لأجيال من الفلسطينيين الذين لا يزالون يهتفون كل عام: فليسقط وعد بلفور.
نصري حجاج
صحيفة العربي الجديد