حلب في الفك الروسي تتخطّى سوريّتها

حلب في الفك الروسي تتخطّى سوريّتها

271

لا تجهد موسكو نفسها كثيراً بنفي رغبتها في السيطرة على كامل مدينة حلب. إذ من غير المعقول أن تتعفف عن ذلك طالما أن الظروف كلها تدفع بحلب لتكون لقمة سائغة بين فكّيها. وما العيب في ذلك في أرض باتت بوضوح الرؤية ميدان صراع دولي بعد أن انتفت عنها جميع صيغ الصراع المحلي؟ فجميع الأطراف المسلّحة، تقريباً، تعمل بأوامر خارجية ولمصالح دولية، لا يستثنى من ذلك في شكل مؤكد سوى «داعش». هذا فضلاً عن وجود علني لقوات عسكرية أجنبية رسمية، كالولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، يشارك بعضها في ميادين القتال في شكل مباشر وبعضها في شكل غير مباشر.

فكيف لروسيا والحال هذه، أن لا تحيك جميع التدابير لتستولي على كامل حلب، وهي التي جاءت بقواتها إلى الأراضي السورية لتحقق مكاسب مهمة في عراكها مع الغرب. فهي لا تتعامل مع حلب على أنها موقع محلي، كتدمر مثلاً، تريد منها السيطرة أكثر وأكثر على القرار السيادي الرسمي السوري، أي السيطرة على مفاتيح الأركان السورية والقصر الرئاسي الأسدي. فحلب تتعدى ذلك في سياق الطموح الروسي في سورية، فهي تريد السيطرة عليها لتُخرج الدول الأوروبية من المعادلة السورية، ولتكون الشريك الرئيسي للولايات المتحدة في العنوان السوري، وبالتالي تتقدم خطوة واسعة باتجاه أن تكون دولة عظمى يمكنها أن تشكل قطباً في موازاة القطب الأميركي.

لاحظنا في الأسابيع الماضية، التشنّج الذي سيطر على الأداء الأوروبي وكذلك الأميركي في مواجهة ما تحققه روسيا من تقدم عليهم في الحقل الحلبي ينبئ بهزيمتهم في الملف السوري عموماً. إذ بدا عجزهم واضحاً في إيقاف التقدم الروسي أو حتى إحراج موسكو باتهامها بارتكاب مجازر ترتقي لتكون جرائم حرب. لكن موسكو لم تأبه كثيراً لهذه الاتهامات غير المدعومة بأدلة صريحة، بما في ذلك عدد المدنيين الذين يسقطون ضحايا القصف، إذ إنهم كانوا أقل من الأرقام المعتادة في المعارك السورية. هذا فضلاً عن أن موسكو تعتبر أعمالها العسكرية في حلب تحظى بتغطية شرعية استناداً إلى القرارات الدولية المتعلقة بسورية، والتي توصي بتعامل مع جبهة النصرة (جبهة فتح الشام حالياً) متساو تماماً مع التعامل مع «داعش». وكان لها أن النصرة موجودة ضمن مجموعات المعارضة المسلحة في أحياء حلب الشرقية. ولا يغيّر في الأمر شيئاً إن كان حجمها محدوداً نسبة الى الفصائل الأخرى.

تبدو موسكو مرتاحة جداً في أدائها الحلبي. فحيناً، تعلن هدنة من طرف واحد، وحيناً آخر تمددها، ومن ثم توقف تحليق طيرانها وطيران النظام في سماء الأحياء الشرقية الحلبية، كما تعلن عن فتح ممرات إنسانية، وغير ذلك من المقترحات التي تمكّنها من إحراج الدول الغربية من ناحية عدم مقدرة هذه الأخيرة على فصل مقاتلي النصرة عن مقاتلي المجموعات المعتدلة، أو إبعادهم من المدنيين من أجل «تطهير» المدينة من الإرهاب كما يحصل في الموصل، على حد التعابير الروسية.

بقاء جبهة النصرة داخل الأحياء الشرقية سيكون ذريعة كافية للطيران الروسي. وتم تدعيم هذه الذريعة أخيراً، بالقصف العشوائي الذي قامت به المجموعات المسلّحة على الأحياء الغربية الواقعة تحت سيطرة النظام، متسبّبة بمقتل العشرات وجرح المئات من المدنيين. ومع توافر هذه الذريعة، توجد مؤشرات عدة تدل على اقتراب موعد عملية «التطهير» هذه. فالمسؤولون الروس بدأوا يدلون بتصريحات تشير إلى ذلك، والانتخابات الأميركية بعد بضعة أيام. وأغلب الظن أن موسكو ستتمكن بسهولة من كسب المعركة وتمكين قوات النظام البرية من السيطرة على جميع الأحياء الشرقية في وقت قصير، بخاصة مع صمت تركي هو الأهم بالمطلق دولياً وإقليمياً. وهذا سيجعل موسكو تحقق فوزاً صريحاً على الدول الغربية وتخرجها جميعها من المسرح السوري، لتصبح هي وحدها الشريك الأهم للولايات المتحدة في الكعكة السورية.

لا يهتم هذا المقال بملاحظة التبعات الدولية لمآلات السيطرة على حلب، وإن عرض ذلك، بل يهمنا فقط تأكيد أن سيطرة روسيا على حلب تعني بالتعابير المحلية سيطرة النظام على المدينة، وهذا سيعني سورياً بداية انهيار تسوية كانت تعتمد قاعدة لا غالب ولا مغلوب. إذ سيكون لدينا بالميزان السياسي المحلي غالب، هو النظام، ومغلوب، هو المعارضة بجميع تلاوينها وأشكالها. وهذا يعني أن المستقبل السوري المنظور سيكون محكوماً وفق قاعدة الغَلَبة وليس وفق مسار العملية الانتقالية.

بناء على هذا العرض، وإذا افترضنا صحته، كان من البداهة البراغماتية أن تكون قوى المعارضة قد عملت على الضغط على الفصائل المقاتلة في أحياء حلب الشرقية لاستبدال مقاتلي جبهة النصرة بمقاتلين معتدلين، وتمكين مجلس محلي مدني كسلطة لهذه الأحياء لإبقائها تحت سيطرة المعارضة (كنا تقدمنا بهذا المقترح بصيغة رسمية لجميع الأطراف المحلية والدولية المعنية)، لكن هذا لم يحدث. وهذا ما يجعلنا نعتقد بوجود ورقة خفية داخل حكاية حلب تحول دون إنهاء أزمتها بما فيه خير عام. ونرجّح أن تكون «حركة أحرار الشام الإسلامية» هي المعضلة المتخفّية خلف أكمة النصرة.

حركة أحرار الشام من كبريات التنظيمات الجهادية المسلّحة السورية، وهي الشريك الرئيسي لجبهة النصرة في تحالف «جيش الفتح» الذي دحر قوات النظام في محافظة إدلب وسيطر عليها قبل سنة ونصف السنة. وهو الذي يقود الآن معارك حلب. فالحركة لا تختلف عقائدياً عن جبهة النصرة، بل هناك أخبار تقول بإمكان اندماجهما. فالحركة تنظيم جهادي مسلح تشكلت لبنته الأولى وقامت بعملياتها بعد نحو الشهرين من انطلاق التظاهرات (وليس ستة أشهر كما يتبجح قادة المعارضة). كما أنها، وخلافاً لما يروّج عنها، لا تقبل الدخول في عملية سياسية مع النظام، بل لا تقبل بوقف إطلاق نار معه. فهي حركة تقوم على الجهاد فكيف تتصالح مع جهة نصيرية مارقة على الدين، وفق توصيفها للنظام. فمشاركة مندوبها في مؤتمر الرياض للمعارضة نهاية العام الماضي لم تكن خطوة جدية، إذ على رغم اختياره ليكون ضمن الهيئة العليا للمفاوضات، لم يحضر أي اجتماع إطلاقا ولم يتم الإعلان عن ذلك، وما زالت تُدرَج الحركة ضمن التنظيمات المعتدلة.

إن خرجت جبهة النصرة من الأحياء الشرقية، وهذا مستبعد، فإن حركة أحرار الشام لن تقبل مجاراة موسكو والقبول بمسار جنيف القاضي بوقف إطلاق النار والانخراط في عملية تفاوضية مؤداها هيئة حكم انتقالية بالتشارك مع النظام، وبوجود نسبة معتبرة من النساء والمسيحيين والعلويين وغيرهم ممن تعتبرهم الحركة أهدافاً للقتل الجهادي. إذاً، لا مصلحة لداعمي أحرار الشام، ولا لقوى المعارضة الرسمية أن تنكشف ضلالة اعتدال الحركة، وسيتأكد كلام موسكو بأنه لا توجد في الأحياء الشرقية قوى معتدلة، بل جميعها قوى إرهابية، كما قال الوزير الروسي لافروف، وستتعامل معها موسكو على أنها أهداف مشروعة لتعاونها مع النصرة، على حد تعبير الوزير.

إذا ما بقيت الأمور على هذا المسار، فإن وضع حلب بات محسوماً، وستسقط معادلة اللاغالب واللامغلوب التي قامت عليها كل رؤية جنيف منذ مؤتمرها الأول في ٢٠١٢. وخسارة حلب، أو بالأحرى انتقال ثقلها السياسي إلى النظام، هي نتيجة القاعدة الغبية (الجدباء) التي تعتمدها المعارضة دوماً: عدو النظام صديقي حتى لو كان إسرائيل أو داعش. إذ كان على قيادة المعارضة التخلّي عن جبهة النصرة وجميع الجهاديين منذ أكثر من سنة (وكان لي حديث رسمي مع عدد من أقطاب المعارضة الرسمية في مدينة اسطنبول في هذا الشأن قبل سنة ونصف السنة). فالنصرة والجهاديون، وإن تسببوا بالضرر للنظام، فذلك لا يصب إطلاقاً في مصلحة السوريين من حيث حقوقهم وحرياتهم. فهذه التنظيمات مجرد قوى طغيانية تريد أن تطغى على السوريين بدل طغيان النظام ليس إلا.

جميع التنظيمات الجهادية تتشابه وتتماثل مع النصرة، بخاصة بعد أن فكت هذه الأخيرة ارتباطها بتنظيم القاعدة، وجميعها، وبعيداً من مصطلح الإرهاب غير المجدي وغير الواضح أو الدقيق، تنظيمات طغيانية لا تقبل بوجود حقل عام أو مجال عام في المجتمع السوري. وترى أن تَدَبُّر شؤون البشر مناط بخاصةٍ مختارة من شيوخ الدين الإسلامي السني، الذين تتم توليتهم وتسييد عقيدتهم بقوة العنف والبطش والتكفير، لأنهم، وفق الذهنية السياسية الإسلامية السنية، الأقدر على تنظيم معيش الناس وتمكينهم من العقيدة السليمة وفق شرع الله. فالسلطة، وفق ما قاله مؤسس أحرار الشام، حسان عبود، «هي للشرع، ومن يحمل الشرع هو الذي يحكم».

على مناصري التنظيمات الإسلامية في صراعها مع النظام، أن يدركوا أن الذهنية الدينية لا تتفارق عن الذهنية القومية في الحكم، بل هي المؤسِّسة لها. والفارق بينهما فقط، أن المتدينين يريدون أن يكون المتسيدون من المشايخ بينما القوميون يرفضون أن يتسيد المشايخ. لكن كلاهما متوافق على عدم القبول بأن تكون مرجعية الحكم للبشر، وكلاهما لا يقبل أن يكون البشر أصحاب الحق الوحيدين في اختيار سبل معيشهم وفق مصالحهم وحرياتهم التي لا يجوز المساس بها تحت أي ذريعة، بما فيها ذريعة الشرائع الدينية، وأن يعيشوا وفق حقوقهم المتساوية في ما بينهم، بحيث لا يجوز أن يَفضُل أحدهم الآخر  بسبب دينه أو قومه أو طائفته أو جنسه. وأنهم أصحاب الحق المطلق في اختيار حكّامهم.

لؤي حسين

صحيفة الحياة اللندنية