نهاية “داعش” سوف تزيد الشرق الأوسط سوءاً

نهاية “داعش” سوف تزيد الشرق الأوسط سوءاً

screen_shot_2015-12-22_at_12-39-51_am

في العام 2014، كان من الصعب المبالغة في تقدير حجم القلق والاضطراب في الشرق الأوسط، حين اجتاحت جحافل المتشددين الإسلاميين أجزاءً من العراق وسورية. والآن، سوف يدفع إضعاف “داعش” إلى السطح بمزيد من خطوط الصدع الأكثر فعالية.
كان الناس يتساءلون في كامل المنطقة: من أين أتى “داعش”، وأين يمكن أن يقف؟ ولبعض الوقت، أصبح الحديث المتوتر عن الحدود المتلاشية والخرائط الجديدة شائعاً بمستويات معيارية. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتردد فيها والدي اللبناني في مسألة ارتباطه العنيد ببلدنا الهش والفاشل. ربما يكون شراء اللجوء في أوروبا، كما فكر أبي، أكثر منطقية من تجديد منزل عائلتنا القديم في شمال لبنان، بالقرب من الأماكن التي ربما يكون فيها المتعاطفون مع “داعش” قابعين في الانتظار في الخفاء.
اليوم، بينما يضعُف “داعش”، يبدو الشعور بالارتياح واضحاً لا تخطئه العين. فقد تبين أن المجموعة الإرهابية ليست تلك الـ”غودزيلا” التي خشيها الكثيرون. ولم تتحقق المخاوف من اجتذاب الشباب العرب بشكل جماعي إلى المجموعة. وليست الدولة العراقية في وضع أسوأ مما كانت عليه من قبل (ولو أن هذا لا يشكل سبباً للاطمئنان). وبقي الأردن حصيناً إلى حد كبير، بفضل الرعاية الدولية المستدامة والأجهزة الأمنية القوية. كما رفض سنة التيار السائد في لبنان والإسلاميون المتشددون التماسات “داعش” وتقربه بحزم أيضاً.
مع ذلك، وحتى بينما تتركز الأنظار على التقارير القادمة من الموصل في العراق والأماكن الأخرى، فإن هناك القليل من التفاؤل -وليس النشوة بكل تأكيد- الذي يمكن العثور عليه هنا. فالجميع يعرفون أن إضعاف “داعش” يترافق مع عودة خطوط الصدع القديمة، بطرق أكثر فعالية غالباً. وتقوم القسمة السنية-الشيعية التبسيطية والملفقة بإخفاء الديناميات العرقية والبين-قبائلية والإقليمية والسياسية التي حفزها الغزو الأميركي للعراق وفاقمها انهيار الدولة.
بالإضافة إلى الدمار البشري والمادي الهائل، تم إلحاق الضرر بالمنطقة بطرق ملتوية وماكرة ودائمة. فقد مزج “داعش” نفسه بالنفسية العربية الفردية والجمعية. ويعتقد كثيرون من الشيعية والمسيحيين والآخرين الآن بأن هناك جرعة صغية من “داعش” -الرغبة في الانتقام، والتكفيرية، وطموحات الهيمنة- في كل سُني تقريباً. كما أن الكثير من السنة، بعد أن فسروا صعود “داعش” باعتباره مدفوعاً بشكل أساسي بالمظالم المشروعة، أصبحوا إما يدينون تعبير “داعش” المتطرف أو يشجبونه على أنه غير إسلامي بدلاً من استنطاق أسسه نفسها.
في العام 2014، انطوت إدارة أوباما على الأمل بأن يحشد القتال ضد “داعش” جميع الحكومات والجهات الفاعلة المحلية. فبعد كل شيء، كان التنظيم يمثل الشر مجسداً: كان عدو الجميع، وكان الجميع أعداءه. ربما يجعل التهديد المشترك الجميع يعملون معاً، أو أن يجعلهم يوقفون منافستهم المدمرة على الأقل. كانت إيران والسعودية، والثوار السوريون والرئيس السوري بشار الأسد، كلهم أهدافاً للتنظيم: وتطلب المنطق الديكارتي أن يخفف هؤلاء من لهجتهم وأن يعيدوا توجيه نيرانهم.
لكن هذه ليست الطريقة التي تعمل بها السياسات الشرق أوسطية في هذا العصر الفوضوي. ما لم يكن البرابرة على بابك، فإن محاربة “داعش” لم تكن الأولوية بالضرورة، خاصة إذا كانت الولايات المتحدة ستحمل الكثير من العبء العسكري؛ وعندما أصبح الأمر كذلك (غالباً بفضل الالتماسات والضغوط الغربية)، كان الدافع وراءه حسابات أخرى أكثر أهمية.
إذا كان ثمة شيء، فهو أن القتال أصبح وسيلة وغطاء لجميع الجهات الفاعلة لمتابعة مصالحها المتنافسة. وبدلاً من مواجهة واقع ما تنتجه طموحاتها وخصوماتها، ثم إعادة التفكير والتسوية، تسابقت الحكومات والميليشيات للعثور على أي فراغ متاح تمكن استعادته من التنظيم الإرهابي. وكانت المنافسة بسبب المظالم ومن أجل المجد مهمة بالمقدار نفسه: الذي تعاون مع “داعش”، والذي عانى أكثر، والذي حارب أكثر، وأخيراً الذي يستحق الأكثر، سوف يكون في قلب الصراعات المقبلة.
أصبحت التوترات الإقليمية والمشاعر الطائفية أعظم بكثير الآن مما كانت عليه في العام 2014. فقد تبنت إيران خطاباً مذهبياً متعاظماً لتعبئة المقاتلين الشيعة، حتى بينما تقاتل أساساً جماعات من غير “داعش” في سعيها إلى النفوذ الإقليمي. وبسبب القلق من جوارها الأيمن، احتاجت السعودية إلى إخراج المتشددين من طائفة السنة محلياً وإقليمياً لنزع الصدقية عن مزاعمهم الإرهابية وحشد الجماهير السنية. وجاءت حربها المستمرة في اليمن منذ العام 2015 في جزء منها كرد فعل على التصور المحلي بأن المملكة أقرت في العام 2014 حملة ضد تمرد سني، تماماً عندما تمكنت ميليشيا الحوثي المعرفة بشكل فضفاض بأنها شيعية من الاستيلاء على العاصمة، صنعاء. ولهذا الاستعمال للأدوات الطائفية تأثير تراكمي يتسرب إلى المجتمعات ويغذي التصعيد: واليوم، يشكك كلا البلدين في شرعية الآخر نفسها، على نحو يستقطب المنطقة ويفاقم المخاوف والصراعات.
كما تتزايد الخصومات في داخل الصف الشيعي سوءاً في بغداد، بينما تتنافس المليشيات التي تدعمها إيران على المجد والسلطة السياسية، فيما تحتفظ الحكومة وفصائل التيار السائد بالولاء للمؤسسة الدينية التقليدية. ويشعر زوار كردستان العراقية برعب مساوٍ لدى رؤية تفاني البشمرغة، والخصومات والاختلالات الوظيفية الكردية الداخلية وانعدام الثقة في بغداد وساستها والميليشيات الشيعية. وغالباً ما يتم التغاضي عن الثارات الداخلية والمنافسة السياسية التي تعرِض خطر ضرب الطائفة السنية أكثر من السابق. وربما يتم تحرير الموصل في الأشهر القادمة، لكن بعد النظر السياسي، والشمولية والشهامة، تبقى أموراً يصعب العثور عليها في المشهد الراهن.
ما من مكان يبدو فيه الوضع مزرياً مثل شمال سورية. هناك تتنافس الميليشيات الكردية، والثوار السوريون (بعضهم تدعمهم أنقرة، والبعض تدعمهم واشنطن)، وتركيا والولايات المتحدة، من أجل الاستيلاء على مناطق “داعش” قبل معرفة القسمة الصحيحة. وفي الجوار، تفرض روسيا والأسد حصاراً وحشياً على شرق حلب، ويتساءلان ما إذا كان الثوار المدعومون من تركيا سيتحركون قريباً إلى الجنوب لتخفيف الضغط عن المدينة، أو ما إذا كانت تركيا ستقتنع بمنطقة نفوذ ما وتكبح جماحهم.
اليوم، يفهم الكثيرون من العرب غريزياً ما هو واضح: إن “داعش” هو نتاج مشاكل مجتمعاتنا الدائمة وإخفاقات حكوماتنا كأسباب لتمكين المزيد من الفوضى. إنه وحش أنتجه النوم الجماعي للعقل. وحتى مع ذلك، لم تخدمنا هذه الحقيقة جيداً. فباستثناء المتظاهرين السوريين الشجعان في العام 2011، وحركة مناهضة الفساد العراقية في العام الماضي والناشطين المدنيين اللبنانيين الشجعان، خفَت الحديث عن المواطنة والحكم الرشيد وتلاشى. ويسعى معظم الناس إلى الملاذ والحس بالغاية في أكثر هوياتهم ضيقاً وعمقاً.
يبدو المشهد الآن مرشحاً للعديد من الصراعات الفرعية منخفضة وعالية الكثافة. لن يكون ذلك يوم القيامة الذي وعد به “داعش”، لكنه سيكون بالنسبة للمواطن العادي في الشرق الأوسط سيئاً بما يكفي، تماماً بما يكفي ليجعل تجسد “داعش” القادم يلوح في الخلفية.

إميل حكيم

صحيفة الغد