ضمور الحضور المسيحي في لبنان.. واقع تتحمل وزره القيادات

ضمور الحضور المسيحي في لبنان.. واقع تتحمل وزره القيادات

_94088_lebg

دخل المسيحيون مع استقالة البطريرك الماروني التاريخي مار نصر الله بطرس صفير عام 2011 في مرحلة فقدان الدور والحضور خصوصا مع إعلان البطريرك بشارة الراعي الذي خلف صفير عن مواقف مؤيدة للنظام السوري. وقد أشّر هذا الوضع إلى دخول المسيحيين في حلف الأقليات، وتحول الخطاب التاريخي الوطني المسيحي، الذي كان يطبع مواقف البطريركية المارونية ويفرض ظله على كل القوى السياسية المسيحية، إلى خطاب منحاز ومحسوب على فريق الممانعة.

كان الحلف الشهير الذي أعلنه الجنرال ميشال عون مع حزب الله، وما تبعه من تحالفات بينه وبين القوى المسيحية تحت عنوان المطالبة بحقوق المسيحيين، إيذانا بانتهاء المرجعية المسيحية للدولة وللنظام اللبناني. تبلور هذا المعطى وتكرّس مع وصول عون إلى سدة الرئاسة الأولى محاصرا بالحلف مع حزب الله وبالاتفاقات المعلنة والسرية التي عقدها مع سعد الحريري، وبالالتزامات التي يجب عليه الإيفاء بها انطلاقا من خصوصية موقع الرئاسة وضرورة خروجه من الاصطفافات الحزبية والطائفية.

هكذا، باتت كل مشاريع حقوق المسيحيين والتي ارتدت شكل التعبير عن الخصوصية المسيحية عبر المطالبة بإقرار قانون انتخاب أرثوذوكسي يقضي بأن ينتخب المسيحيون نوابهم حصرا في حالة صدام مع تاريخ المرجعية المسيحية في البلد ومع عناوين المناصفة التي نادى بها الرئيس المنتخب في خطاب القسم.

حقوق المسيحيين

كان لافتا أن يعبّر البطريرك الماروني بشارة الراعي عن مواقفه المؤيدة للنظام السوري والتي اعتبرت معادية للسنة من قلب فرنسا، وهي الدولة التي تمتلك حق الفيتو في مجلس الأمن والتي تنصّب نفسها حامية للمسيحيين في المنطقة والتي تتناقض مواقفها مع مواقف البطرك.

كان ذلك الموقف توطيدا للظروف التي جاءت بالبطريرك الراعي إلى سدة البطريركية بإرادة فاتيكانية كانت تسعى إلى مأسسة الكنيسة المارونية اللبنانية وجرّها إلى تبني النموذج الفاتيكاني الذي يتناقض تماما مع مقاربتها التاريخية للشأن الاجتماعي والسياسي.

حزب الله نجح في استعمال الجنرال عون للخروج من عزلته وسعى إلى ربط حضوره النيابي والسياسي به عبر دفع الكتلة الشيعية الشعبية للتصويت له في الانتخابات النيابية

هكذا بعد الأداء الذي سيطر في مرحلة البطريرك صفير والذي كان يقول بضرورة القيام بما يتوجب القيام به بغض النظر عن الظروف، تحولت الكنيسة إلى طرف سياسي فاقد لهالته. وصارت تاليا عرضة للتجاذب من قبل الأطراف السياسية في البلد بعد أن كانت مرجعية.

كان هذا الانتقال من فلسفة الواجب إلى السياسة وتبني منطق الأقليات وحقوق المسيحيين انحدارا خطيرا في سلّم القيم، أنتج تراجعا مماثلا في حجم ودور المسيحيين في المعادلة الوطنية والسياسية وطبيعة التمثيل داخل بنية الدولة في آن واحد.

مع عهد الجنرال عون الرئاسي اتخذت صيغة المطالبة بحقوق المسيحيين، التي استبدلت خطاب العيش المشترك وخطاب الوحدة الوطنية، شكل الإصرار على تحقيق المناصفة، وهو مطلب كان إصرار سعد الحريري عليه مدخلا لنشوء احتجاج سنيّ شديد ضده في الانتخابات البلدية التي جرت منذ فترة.

شكلت القوى السنية الرافضة لمنطق المناصفة، الذي واجهته القوى المسيحية بخطاب حقوق المسيحيين، كتلة سنية صافية في مواجهة الحريري في بيروت.

نجحت هذه اللائحة في انتزاع عدد لا بأس به من الأصوات أدى إلى تقزيم انتصار الحريري البلدي في معقل قوته في بيروت وإلى التمهيد لبروز ظاهرة الوزير أشرف ريفي في طرابلس التي قامت على عناوين تفريط الحريري بحقوق السنة وتراخيه في مواجهة حزب الله.

يتصل العنوان الأول لصعود ريفي بموقف الحريري من المناصفة والعنوان الثاني يتصل بخطاب التهدئة الذي انتهجه مع حزب الله الذي حافظ على حواره معه. وتسبب التيار الوطني الحر بعد ذلك بفض طاولة الحوار الوطني بسبب إصراره على رفع خطاب حقوق المسيحيين في وجه الرئيس برّي، وتسبب لاحقا بتصويت كتلة الرئيس برّي ضد الجنرال عون في الانتخابات الرئاسية.

استدعى خطاب حقوق المسيحيين خطابات مماثلة عند كل الطوائف. وبدا هذا الخطاب مدخلا لإعادة إنتاج الواقع المسيحي انطلاقا من رؤية ضيّقة لا يمكنها الانسجام مع العناوين العريضة التي طرحها الرئيس المنتخب في خطاب القسم والتي أعاد فيها التركيز على مرجعية اتفاق الطائف وعلى ضرورة المناصفة. اللافت أن خطاب المظلومية المسيحية كما تم نسجه منذ تسعينات القرن العشرين بني على رفض ما كان اتفاق الطائف قد تسبب به من إضعاف للحضور المسيحي في مؤسسات الدولة، لناحية سحب مجموعة من صلاحيات موقع رئاسة الجمهورية لصالح مجلس الوزراء مجتمعا. كذلك فإن المطالبة بالمناصفة لا تستقيم مع واقع خصوصية التمثيل المسيحي الذي يصرّ عليه التيار الوطني الحر والذي جاراه فيه لاحقا حزب القوات اللبنانية، إذ أن المناصفة لا يمكن أن تتحقق على الأرض عبر تغييب الاتفاقات مع سائر القوى وخصوصا مع القوى الإسلامية.

تشير الدراسات إلى أنه إذا تم العمل بموجب القانون الأرثوذوكسي فإن عدد النواب الذي يمكن أن يتحصل عليه المسيحيون عبر الأصوات المسيحية الصرفة لن يتجاوز الـ50 نائبا، وهذا العدد يقل عن نصف عدد نواب المجلس بـ14نائبا.

يمكن من ناحية أخرى اعتبار منطق الانتصار وعودة الحقوق إلى أهلها، الذي شاع مع رئاسة الجنرال، كضربة أخرى توجه إلى خطاب حقوق المسيحيين، ومرجعية الرئاسة التي يعتبر الخطاب المعلن للقوى المسيحية أن من وصل إليها هو المسيحي القوي والأكثر تمثيلا يضع كل الخطابات السابقة في مأزق حرج، بحيث تبدو في حال أعيد طرحها، وكأنها هجوم صريح على العهد الجديد الذي يقدم نفسه كضمانة للمسيحيين من جهة، وكراع للتوازنات وحقوق كلّ المكونات اللبنانية من جهة أخرى.

من نافل القول إن خطاب القسم يلغي العناصر التي قام عليها خطاب حقوق المسيحيين، ولكنه لا يقدم في الآن نفسه واقعا بديلا لأن العناوين التي طرحها لا يمكن تحقيقها انطلاقا من واقع القوى المسيحية على الأرض.

خريطة وزن وحجم القوى السياسية في البلد تجعل من العناوين الواردة في خطاب القسم، وخصوصا الخطاب الذي يتصل بالحضور المسيحي لناحية المناصفة ليس أكثر من مطلب يتوجه به الرئيس المسيحي الذي يوصف بأنه المسيحي القوي إلى القوى الإسلامية التي تتناهش سلطاته.

حلف رباعي

شهد لبنان قيام حلف رباعي لمرتين كانت الأولى في العام 1983 وتألف آنذاك من الرئيس الراحل سليمان فرنجية ورئيس الحكومة الأسبق الشهيد رشيد كرامي، ورئيس حركة أمل نبيه بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. وكان عنوان قيام ذلك الحلف مواجهة رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل.

والمرة الثانية التي قام فيها حلف رباعي كانت مع انتخابات العام 2005 حيث تشكل حلف رباعي إسلامي الأركان تألف من قائد تيار المستقبل سعد الحريري ورئيس المجلس النيابي نبيه بري والزعيم الدرزي وليد جنبلاط وقائد حزب الله السيد حسن نصرالله. نشأ هذا الحلف في مواجهة ميشال عون العائد من منفاه الباريسي والذي وصف وليد جنبلاط عودته بالـ”تسونامي”.

قام كلّ من هذين الحلفين لمواجهة طرف مسيحي وكان في الحالة الأولى يضم طرفا مسيحيا يواجه طرفا مسيحيا آخر ولكنه لم يكن عصب الحلف. وتحول الحلف في المرة الثانية إلى حلف إسلامي خالص أنتج ردة فعل مسيحية تمثلت في حصول الجنرال عون حينها على 70 بالمئة من أصوات المسيحيين في ردة فعل على التحالف الإسلامي في وجهه.

ما يحدث الآن، وبعد انضمام الجنرال عون في العام 2006 بشكل صريح إلى محور الممانعة مع تفاهمه الشهير مع حزب الله، أنه بات محسوبا على طرف من أطراف الصراع في لبنان والمنطقة. ولكن ذلك لم يتسبب في إعادة إنتاج دور المسيحيين في لبنان بل ساهم على العكس في تعميق أزمتهم.

كانت طموحات الجنرال الرئاسية السبب الأساسي لدخوله في هذا الحلف الذي اشتراه حزب الله لأن لحظة ثورة الأرز التي تحققت بعد اغتيال رفيق الحريري جعلته وحيدا ومعزولا في لبنان، وخصوصا مع خروج الجيش السوري الذي تم في ذلك العام.

نجح حزب الله في استعمال الجنرال عون للخروج من عزلته وسعى إلى ربط حضوره النيابي والسياسي به عبر دفع الكتلة الشيعية الشعبية للتصويت له في الانتخابات النيابية. وربح الجنرال نيابيا ولكن بات في شبه عزلة مسيحية بسبب تعامله مع كلّ المكونات المسيحية الأخرى بفوقية لافتة، أدّت لاحقا إلى جعل ترشيحه للرئاسة من قبل حزب الله ترشيحا مستحيلا قائما على رفض الجميع له واستحالة القبول به.

فجّر سعد الحريري المستحيلات مرّتين، أدت الأولى بعد ترشيحه فرنجية إلى تركيب حلف الضرورة المرحلي بين جعجع وعون وترشيح جعجع للجنرال، ثم فجّر المستحيل مرة ثانية إثر حالة الانكفاء العام الذي مني بها في ظل تراجع الدعم السعودي المادي والمعنوي له.

دفعته هذه المعطيات إلى كسر كل الحدود وترشيح خصمه وخصم فريقه السياسي الأبرز ميشال عون إلى سدّة الرئاسة. وجد حزب الله نفسه محرجا فأفرج عن الاستحقاق الرئاسي بأثمان باهظة، قيل فيها إن الحزب أفرج عن رئاسة الجمهورية في مقابل حصوله على الجمهورية نفسها.

الحصيلة التي تركبت من هذا المسار تقول إن الحلف الفعلي الرباعي قام مرة أخرى على حساب المسيحيين وهو يتألف من نفس عناصر حلف العام 2005 أي سعد الحريري ونصرالله وبرّي وجنبلاط.

تقوم عناصر هذا الحلف على خطاب مصالح مشترك يجمع بين هذه الأطراف مهما ظهر إلى العلن خطاب الصراع والخلاف، وهو ما أنتج هذه التسوية التي تتخذ صيغة تفكيك موقع رئاسة الجمهورية وتقاسمه في مقابل تعويم موقعي رئاسة المجلس ورئاسة الحكومة.

ليس أدل على ذلك من الهزلية التي سادت في مشهد انتخاب الرئيس، وهذه الهزلية بغض النظر عن الطرف المسؤول عنها تعكس الهشاشة الكبيرة التي أصابت هذا الموقع.

هزلية المشهد الانتخابي الرئاسي تتناقض تماما مع مشهد رئاسة المجلس النيابي التي تم تظهيرها كضابط إيقاع عام، ومع الفارق الكبير في عدد الأصوات التي نالها ميشال عون والأصوات التي كلف سعد الحريري بموجبها تشكيل الحكومة وهو فارق بلغ 29 صوتا نيابيا

الوصاية الإيرانية

تتناقض هزلية المشهد الانتخابي الرئاسي تماما مع مشهد رئاسة المجلس النيابي التي تم تظهيرها كضابط إيقاع عام، ومع الفارق الكبير في عدد الأصوات التي نالها ميشال عون والأصوات التي كلف سعد الحريري بموجبها تشكيل الحكومة وهو فارق بلغ 29 صوتا نيابيا.

هكذا، فإن صيغة الحلف الإسلامي الرباعي الذي يقصي المسيحيين عن الواجهة يعبّر عمّا تسببت فيه القيادات المسيحية من ضمور للحضور المسيحي في لبنان.

يقوم الحلف الإسلامي الرباعي على منطق مصالح واضح ومشترك بين العناصر المكونة له. وتقوم مصلحة تيار المستقبل على إرضاء المكوّن الشيعي بطرفيه كمدخل لإعادة إنتاج حضوره على رأس الحكومة. وتقوم مصلحة نبيه بري على انتزاع القدر الأكبر من المكاسب وتمكين السيطرة على الحضور الشيعي داخل الدولة.

وتقوم مصلحة وليد جنبلاط على نسب نفسه إلى مكون أكثري وتجنّب منطق الأقليات ومصيرها، والإمساك بكامل حصة الطائفة الدرزية في معادلة السلطة، كما تقوم مصلحة حزب الله على الإبقاء على ربط النزاع معه، وهو ما لا يعطل أيّا من مشاريعه الداخلية ولا الخارجية، فحصته الوزارية محفوظة كما أن لا شيء يعيق تدخلاته العسكرية في المنطقة.

تؤكد هذه العناصر وجود هذا الحلف موضوعيا حتى إذا كان غير معلن في حين أن الأطراف المسيحية نجحت في أن تضيف إلى الوصايات الفلسطينية والسورية والإسرائيلية التي سبق للراحل ريمون إده أن اتهمها باستدعائها والتسبب بخراب البلد وصاية جديدة هي الوصاية الإيرانية.

لا يستطيع عهد الجنرال حليف حزب الله، والذي تعاملت إيران معه بوصفه انتصارا صريحا لها، مهما حرص على رفع شعار أن الرئيس “صنع في لبنان” على نفي التصاق هذه الصبغة به، وقدرتها على تحويل لبنانيته من ناحية ومسيحيته من ناحية أخرى إلى أوهام جميلة من تلك التي يحرص اللبنانيون عموما على رفعها إلى مرتبة الحقائق.

شادي علاء الدين

صحيفة العرب اللندنية