هوامش على دفتر الموصل

هوامش على دفتر الموصل

mardin-1

لم تُتح لكاتب الرواية الإيطالي، إيتالو كالفينو، زيارة الموصل، لكنه رسمها ضمن “مدنه اللا مرئية”، إذ كان قد قرأ عنها في “رحلات ماركو بولو”، وعدّها “القديسة أوفيميا” ذات السحر والجمال، ورأى فيها ملتقى التجار من سبعة أقوام قادمين في مراكب الزنجبيل وجوز الطيب والفستق، في مواسم الخير والخصب صيفاً وربيعاً، ليغنوا عالمهم بذكريات الحب والعطر والأمل، ويعاودوا إبحارهم سالمين غانمين، حاملين معهم لفافات حرير الموسلين الذهبي النادر.
ظلت الموصل تنعم بهناءة وراحة بال، كما تخيلها كالفينو، لكنها كفّت عن أن تكون كذلك، بعدما غزا الأميركيون بلاد الرافدين عام 2003، ونصّبوا على حكمها أناساً حملوا في جعباتهم مقادير من الشرور، كانت كافية لتنزع عنها هناءتها، ولتسلب سكانها أمنهم وراحة بالهم.
عاشت الموصل التي حملت على أكتافها تاريخ أربعة آلاف عام سنوات عجافاً، بعد احتلال البلاد، وتعرّض أهلها للبطش والتنكيل والإذلال، لكنهم لم يكفّوا عن المقاومة والمقارعة والثبات، أرادها الأميركيون قلعةً لهم يمدّون من خلالها أرجلهم إلى آبار الذهب الأسود المنتشر في محيطها، ورأى فيها الإيرانيون “أردشير الجديدة” التي أخذها عنوةً الإمبراطور الساساني الأول، في غفلةٍ تاريخيةٍ موثقة، وأطلق عليها اسمه، وفي أذهانهم أن يستعيدوا هيمنتهم عليها، ليصبح في عهدتهم الممر الحيوي الذي يربط الشام بخراسان، والذي تشكل الموصل نقطة ارتكازه، كما قال عنها ياقوت الحموي. ولم تغفل عيون العثمانيين الجدد عنها، منذ أفتى أهلها، قبل تسعين عاماً، بأنهم عرب عراقيون، وأن مدينتهم جزء من عراقٍ واحد، وأصرّت أنقرة، في غياب موقف عراقي حازم، على إبقاء بعض عسكرها على مقربةٍ من الموصل، وادّعت كل هذه الأطراف وصلا بليلى، وليلى تعرف، قبل غيرها، زيف ادعاءاتهم وسوء نياتهم.
هكذا تكالبت الأطماع الشريرة على الموصل، في لحظة ضعف عراقي وتجاهل عربي، حتى دخلها “الدواعش” في مكيدةٍ دوليةٍ، شارك فيها أطراف محليون وإقليميون. ومنذ أكثر من عامين وهي تعيش أياماً سوداً لم تألفها، وعلى نحوٍ لم تعشه مدينة عراقية، لا من قبل ولا من بعد، لكنها لم تستسلم. ظلت صابرة محتسبة، كما عادتها عبر تاريخها الطويل، تنتظر ساعة فرج. وحينما دقت أجراس الحرب للقضاء على “داعش”، وتداعى العالم كله، بدعوى نصرتها، كانت تتحفز بكل تلاوين أبنائها لتطرد “الدواعش” من أرضها، ولتؤكد أصالتها، وشرع شبابها في أعمال مقاومةٍ لمواجهة غاصبيها، ومساندة جيوش القادمين لنصرتها، وإذ اقتربت بشائر النصر، وارتفع علم العراق على أكثر من ساريةٍ، يبقى الحذر قائما، واختبار النيات مطلوبا، خصوصاً وأن أصواتا نشازاً بدأت تصعد من نبرتها، مهدّدة أهل “الموصل” بأن معركة تحريرها “ستكون انتقاماً وثأراً من قتلة الحسين، لأن هؤلاء الأحفاد من أولئك الأجداد”، بحسب قيس الخزعلي، زعيم إحدى المليشيات السوداء التي تديرها إيران، وما يشبه ذلك ورد على لسان نوري المالكي الذي قال إنهم قادمون إلى نينوى، في تحدّ واضح لأهلها (!).
وفي موازاة هذه التهديدات، اتخذ الصراع الدولي على المدينة بعداً مكشوفاً، إذ تواترت تقارير من طهران عن خطة إيرانية، لإنشاء قاعدة عسكرية في تلعفر، على مشارف الموصل، لتكون في مواجهة قاعدة بعشيقة، التي يعسكر فيها الأتراك، كما جرى حديثٌ عن توافق أميركي- روسي غير معلن، على تبادل النفوذ في العراق وسورية، ورسم خطوط حمر، لا تسمح لأي من الطرفين بالتدخل في منطقة نفوذ الطرف الآخر. وقد تكون لكل هذه المخططات مفاعيل نافذة في السيناريوهات التي ترسم لمستقبل الموصل، ومستقبل العراق ككل، وقد علمتنا التجارب المرّة أن القوى الشريرة لن تستسلم بسهولة، وهي جنّدت كل مخزونها الاحتياطي القابع داخل البلاد لترتيب المكائد، وطرح التسويات المذلة التي تضمن أن يشكّل نصر الموصل “استثماراً” لها على المدى الطويل، حتى وإن تظاهر بعض رجالها بعكس ذلك، ذرّاً للرماد في العيون، أو جاهروا بحرصٍ، نعرف أنه مفتعل، على الموصل وأهلها.
بقي أن نذكر بالخير تنبيهاً خجلا من الأمم المتحدة إلى الأطراف المشاركة في المعركة أن “تحترم القوانين المتصلة بحماية المدنيين”، وهي تعرف أن مدنيي الموصل بالذات نالوا أقساطاً متتابعة من ويلات الحرب وأهوالها، حتى قبل أن تبدأ المعركة.
يخبرنا هذا كله وغيره أن دفتر الموصل سيظل مفتوحا، حرباً أو سلماً، ربما إلى أمدٍ قد يطول.

عبداللطيف السعدون

صحيفة العربي الجديد