عمَّ يبحث أردوغان في إفريقيا؟

عمَّ يبحث أردوغان في إفريقيا؟

زار الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان الأسبوع الماضي إفريقيا الشرقية بداية من إثيوبيا ثمّ جيبوتي والصومال، بعد أن  قطع جولته في منتصف برنامجه لحضور جنازة العاهل السعودي الملك عبد الله. وشغف أنقرة بإفريقيا حديث نسبيًّا ويعدّ قطيعة مع السياسة الخارجية التقليدية لتركيا.

ليست هذه هي المرّة الأولى الّتي نشهد فيها تناقض السياسة الخارجية التركية، الدورية أكثر من كونها هيكلية، وتعود القطيعة الأولى إلى غداة الحرب العالمية الثانية؛ إذ بعد السياسة شبه الانعزالية، اضطرّت تركيا لاختيار معسكرها فأصبحت جزءًا من العالم الغربي خاضعة بشكل ما إلى القوّة الأمريكية.

ثمّ حدث تغيير خجول في عام 1960، عندما بدأ اعتبار الأحادية (الأمريكية) خطرًا وغير فعّال، فسعت أنقرة إلى تنويع شركائها من الاتّحاد السوفيتي إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية، ولكن ضمن الإطار نفسه: الغرب باعتباره هدفًا استراتيجيًا ومشروعًا حضاريًا.

تغيّرت الأمور بداية من عام 1990؛ إذ أعاد نهج العثمانيين والقوميين التركيين الجدد تأهيل الماضي العثماني داخل البلاد وفي العلاقات الخارجية، حيث شهدت فترة رئاسة تورغت أوزال (1989-1993) عودة البلقان إلى تصدّر المشهد في أنقرة، وأحيت الجمهوريات “الناطقة بالتركية” في آسيا الوسطى المتحرّرة حديثًا من الاتّحاد السوفيتي الإرادة في لعب دور قيادة العالم الناطق بالتركية. ولكنّ الفشل كان مدويًا؛ إذ لم تترك روسيا وإيران مجالًا مفتوحًا لتركيا في مناطقهم النائية ولم يرق السلوك الأبوي لأنقرة إلى جمهوريات آسيا الوسطى.

تغيّر مجرى الأمور مرّة أخرى مع صعود الإسلام السياسي في تركيا بداية من النصف الثاني لعام 1990؛ إذ بدأت الحركة الّتي أسّسها نجم الدين أربكان في عام 1970، “النظام الوطني”، في السيطرة تدريجيًا على المشهد السياسي من خلال تعزيز الإسلام السني وشيطنة الغرب الكافر.

ثم قادت السلطة الحالية (الناتجة عن انقسام هذه الحركة في 2001) تسارعين مذهلين في بداية عام 2000: الأول، بخصوص الإصلاحات الأوروبية حتّى سنة 2007، والثاني في استعادة العلاقات مع الجيران الّتي بدت أكثر أيديولوجية (الإسلام السياسي) من كونها استراتيجية. وكلّما تشخصن النظام في رجب طيب أردوغان، كلّما أصبحت العلاقات الخارجية غير عقلانية، مع هدف واضح: قيادة العالم الإسلامي.

فماذا عن إفريقيا وما هي أهمية الزيارة الأخيرة للرئيس التركي برفقة وفد ضخم من الصحفيين ورجال الأعمال؟ المعنى يتضح في مزيج من ثلاثة إخفاقات سياسية مختلفة في السنوات الأخيرة.

الطلاق مع الاتّحاد الأوروبي

يتمثّل الإخفاق الأوّل في القطيعة شبه العاطفية في العلاقات التركية الأوروبية والوحشية بعد أن جلبت السنوات الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية حماسة غير مسبوقة من الجانبين، إلّا أنّ الديمقراطيين الّذين دعموا حزب العدالة والتنمية خلال هذه الفترة والشركاء الأوروبيين لتركيا شعروا أنّهم معاملون بشكل سيئ؛ إذ أدركوا أنّ النظام استخدم “الجزرة” الأوروبية فقط من أجل التخلّص من وصاية العسكر، وصحيح أنّ الموقف الغامض لهؤلاء الشركاء الأوروبيين أنفسهم تجاه تركيا وازدواجية المعايير فيما يخصّ الانضمام إلى الاتّحاد الأوروبي وأيضًا العزوف المتزايد والمعلن من التوسّع نحو تركيا قد بثّوا الصقيع في حماسة الأتراك للاندماج الأوروبي، وأكّدت أوروبا على غيريتها المسيحية.

وعلى أيّة حال، نمت أجنحة حزب العدالة والتنمية وقطع مع الاتّحاد الأوروبي والديمقراطيين في البلاد، بمجرّد حصوله على السلطة دون مشاركة طرف آخر -بداية من 2007 وخاصّة مع استفتاء 2011 حول التعديلات الدستورية-، كما تحوّل خطاب زعيمه المؤيّد لأوروبا إلى مناهض لها وأدار الرأي العام ظهره إليها، فحسب سبر آراء أجراه معهد ORC ونشر في يناير 2015، أجاب 65 % من الأشخاص الّذين شملهم الاستطلاع على سؤال: “هل تعتقد أن اندماج تركيا في الاتّحاد الأوروبي مهمّ؟” بـ لا و21.5 % بنعم، في حين أنّ خلال عام 2000 تجاوزت نسبة الـ نعم في سبر آراء مماثل الـ 50 %.

صفر من النجاحات مع الجيران

يتعلّق الفشل الثاني بالسياسة الإقليمية وخاصّة مبدأ “صفر مشاكل مع الجيران” الّذي وضعه أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية آنذاك والوزير الأول الحالي؛ إذ إنّ العلاقات مع جورجيا شبه معلّقة بعد غزو أوسيتيا الجنوبية من قبل روسيا، والعلاقات مع أرمينا متوقّفة مع البروتوكولات الّتي وقّعت ولكن لم يصادق عليها، والحدود الّتي لا تزال مغلقة، كما تشهد العلاقات مع إيران توترًا بسبب الأزمة السورية من جهة ولأنّ تركيا أصبحت منبرًا لغسيل أموال إيران الخاضعة للحصار من جهة أخرى. أمّا العلاقات مع العراق فتبقى غامضة؛ لأنّ “الخطّ الأحمر” لتركيا المتمثّل في تقسيم العراق وإقامة دولة كردية في الشمال قد تمّ تجاوزه، ولكن في الواقع تسخر أوساط الأعمال من هذا الخطّ الأحمر وتقيم صفقات مثمرة مع كردستان العراق.

وأخيرًا وليس آخرًا، تدعم أنقرة بشدّة المعارضة السورية ضدّ بشار الأسد (بعد أن دعمته لفترة طويلة!) وخاصّة الدولة الإسلامية في العراق والشام. واليوم، يهدّد الوحش -المتمثّل في تنظيم الدولة الإسلامية- مُنشئه كما القاعدة بالنسبة للولايات المتّحدة، وتبدو تركيا معزولة تمامًا على الساحة الدولية وتفتقد إلى المصداقية في دعواتها لمكافحة “الإرهاب”.

باختصار، تقلّصت مجالات تأثير أنقرة وفقدت تركيا هالتها في آسيا الوسطى والشرق الأوسط واستنفذت رصيدها في أوروبا.

الإطاحة بأتباع كولن

بقيت إفريقيا، ولكن لا يمكن اقتصار تفسير الشغف بهذه القارّة بالاعتبارات الدبلوماسية؛ إذ هناك أمر ثالث يمكن أن يصنّف أيضًا على أنّه “فشل”، إذ بين 2002 و2013، تحالف حزب العدالة والتنمية الحاكم مع جماعة فتح الله كولن (المنفي في الولايات المتّحدة) الّذي دعم حكومة أردوغان في حربها ضدّ المؤسسة البيروقراطية والعسكرية وتمكّن في المقابل من التسلّل إلى الدولة من خلال الخدمة العامّة، وبمجرّد تمّكن الحكومة والجماعة من السلطة بدأت هذه العلاقات المنافية  للطبيعة بالانشطار في 2013، وسعى كلّ طرف إلى الإطاحة بالآخر.

منذ ديسمبر 2014، يقود حزب العدالة والتنمية حملة طرد غير مسبوقة داخل البلاد تذكّر بأسوأ لحظات المكارثية؛ إذ تمّ نفي الآلاف من رجال الشرطة والقضاة لقربهم المزعوم من حركة الخدمة التابعة لكولن وطردهم وجرّهم إلى الوحل يوميًا من قبل الصحف المقرّبة من الحكومة، ولكن يعدّ التعليم نقط إرساء هذه الحركة في الخارج؛ إذ تمتلك المئات من المدارس من آسيا الوسطى إلى الولايات المتّحدة، افتتحت بدعم من الدولة التركية في إطار تبادل (أخذ وعطاء) يمكّن رجال الأعمال المقرّبين من الحكومة من اختراق الأسواق المختلفة في جميع أنحاء العالم.

ومن بين مناطق تركّز هذه المدارس: إفريقيا، وهكذا يسعى أردوغان من خلال زيارته لعدّة بلدان إفريقية إلى التوصّل إلى هدف مزدوج: إقناع الدول المعنية بغلق هذه المدارس أو تحويلها إلى الدولة التركية، وخصّص الرئيس التركي خطابه الأوّل في إثيوبيا إلى هذه المؤسسات التعليمية المرتبطة بـ”الهيكل الموازي” كما يعتاد النظام تسمية حركة الخدمة، من أجل ترسيخ فكرة الخطر الانقلابي الّذي يمثّله في الرأي العام التركي. ويتعلّق الأمر بضرب الحركة في موطن قوّتها وبيان أن تركيا قادرة على اتّباع سياسة القوّة الناعمة دون مساعدة أتباع كولن؛ إلّا أنّ أنقرة لا تعرف إفريقيا وتسيء تقدير حجم القوى الاستعمارية السابقة مثل فرنسا، وأيضًا حجم قوّة اللاعبين الجدد نسبيًّا في إفريقيا كالصين.

على أيّة حال، تهدف هذه الرحلة بطريقة غير مباشرة إلى السياسة الداخلية في الكفاح، من أجل تدعيم قدرة حزب الحرية والتنمية على حساب شريكها في العقد الماضي أكثر من كونها تهدف إلى إفريقيا؛ إذ تتعلّق ببساطة بـ”الاستعانة بعوامل خارجية” على الأراضي المحايدة في الاقتتال الداخلي للسلطة التركية.

نقلا عن التقرير