قلق إيراني من خروج لبنان من الفلك الإيراني السوري

قلق إيراني من خروج لبنان من الفلك الإيراني السوري

برز منذ تولي الجنرال ميشال عون لسدة الرئاسة نقاش حاد حول توجه هذا العهد الرئاسي. وحرصت بعض الأطراف من قبيل تيار المستقبل والقوات اللبنانية على تصويره بوصفه عهدا صنع في لبنان وأنه لم يكن نتيجة لإملاءات خارجية أو توافقات إقليمية ودولية. وتؤكد هذه القوى أن الأمور، على العكس من ذلك، وأن دور الخارج كان وربما للمرة الأولى في تاريخ لبنان الحديث مقتصرا على التصديق على ما يتوافق عليه اللبنانيون وحسب.

يقف في وجه هذا التصور تصور آخر مناقض تماما يرى أن هذا العهد ليس صنيعة الخارج وحسب بل إنه تتويج واضح وحاسم لانتصار المحور السوري الإيراني في سوريا وهزيمة السنة. وأن هذا العهد ليس سوى النتيجة الحتمية لواقع هذا الانتصار الواضح، والذي لم يترك للأطراف الأخرى في لبنان وخصوصا سعد الحريري سوى خيار الخضوع لخيارات حزب الله، والإتيان بخصمه السياسي وخصم طائفته، رئيسا للجمهورية.

تكرّس الواقع الذي يعبر عنه أصحاب وجهة النظر الأخيرة مع الترحيب الإيراني الرسمي بانتخاب ميشال عون، والتأكيد على أنه يمثل انتصارا واضحا لإيران وحزب الله ومحور الممانعة. ومع الزيارتين التي قام بهما كل من وزير الدولة لشؤون الرئاسة السورية منصور عزام ووزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى بعبدا للقاء الرئيس المنتخب، يضاف إلى ذلك أن حزب الله لم يلحق بالخطاب التسووي الشعري للعهد الرئاسي كما تبلور في خطاب القسم، وهو لا يزال يحرص على رسم صورة لعهد ميشال عون الرئاسي تعكس نجاحه في فرض شروطه على جميع اللبنانيين.

تجتمع جملة من العناوين العريضة والمؤشرات الواضحة لترسم صورة للعهد بوصفه عهدا يدور في الفلك الإيراني السوري.

محو الذاكرة

لم يكن حدثا عابرا أن يعمد الرئيس المنتخب ميشال عون في أول إطلالة جماهيرية له في قصر بعبدا إلى تجهيل الفاعل الرئيسي في أحداث عام 1989 أي الجيش السوري الذي كان قد أخرجه من بعبدا بالقوة في ذلك العام.

مقابل محو الذاكرة الذي يتعامل به العهد مع النظام السوري فإنه يتعامل مع خصومه وحلفائه من المسيحيين عبر عملية معاكسة تقوم على إحياء ذاكرة الصراعات والبناء على الاختلافات

حلّ مكان هذا الفاعل المعلوم فاعل آخر هو القوات الأجنبية. وأظهر هذا التجهيل ميل الرئيس، ليس إلى تصميم خطاب مصالحة مع النظام السوري وحسب، بل إلى اصطناع خطاب يوحي بالمسؤولية الإسرائيلية عن تلك الأحداث ويبرئ النظام السوري من تهمة المشاركة فيها.

يسعى هذا الخطاب إلى خلق حالة من الانسجام مع ما جاء في خطاب القسم ومع الدعاية التي افتتح بها الجنرال ميشال عون عهده الرئاسي، والذي يقدم فيها نفسه على أنه “بَيّْ الكل” أي والد الجميع، وكذلك مع تسميته للقصر الرئاسي بـ”بيت الشعب”.

يريد الجنرال ميشال عون أن يفتتح عهده بتسوية مع التاريخ، وذلك لا يتم إلا بعملية مونتاج عاجلة له، تحذف منه الوقائع التي لا تنسجم مع الأطروحات العامة للعهد، والتي لا يوجد أي دليل على قدرته على تنفيذ الحد الأدنى منها في ظل واقع توزع القوى السياسية الحالي وإحجامها.

بعد ذلك جاءت الزيارة الخاصة لوزير الدولة لشؤون الرئاسة السورية إلى الرئيس والتي أطلق الموفد السوري إثرها مواقف تشي بأنها ليست محاولة لفتح علاقة مع الجنرال وعهده الرئاسي، بل هي استكمال لتاريخ من العلاقات التي تتسم بالثقة.

بدأت هذه العلاقات مع عودة الجنرال من منفاه الباريسي إلى لبنان ليكون قطبا في حركة 14 آذار المناهضة للوجود السوري قبل أن ينضم إلى فريق 8 آذار الموالي للوجود السوري ويزور سوريا عام 2008 حيث استقبل استقبال الفاتحين، ويساهم في منح حزب الله شرعية وطنية ومسيحية بعد أن كانت حدوده لا تتجاوز حدود الطائفة الشيعية.

في مقابل محو الذاكرة الذي يتعامل به العهد مع النظام السوري فإنه يتعامل مع خصومه وحلفائه من المسيحيين عبر عملية معاكسة تقوم على إحياء ذاكرة الصراعات والبناء على الاختلافات.

أطلق الوزير جبران باسيل، الذي يمكن اعتباره الناطق الرسمي بلسان العهد، تصريحات اعتبر فيها أن من كان رافضا للتسوية فإنه لا تحق له المشاركة في الحكومة، في تعبير واضح عن نزعة لمعاقبة الكتائب على موقفها السلبي من انتخاب الجنرال عون. كذلك لا يبدو العهد ميّالا للدفاع عن مطلب القوات اللبنانية بتولّي حقيبة سيادية في وجه رفض حزب الله القاطع لهذا الأمر على الرغم من الحلف المعلن بينهما.

هكذا فإن دخول مسيحيي 14 آذار إلى حكومة العهد الجديد سيكون ضعيفا وهشا وموازيا للإقصاء، في حين أن حصة مسيحيي فريق 8 آذار محفوظة سلفا عبر تأكيد رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري والرئيس نبيه بري على ضرورة وجود تمثيل لسليمان فرنجية، كما أن حصة الجزء الآخر من فريق 8 آذار المسيحي أي التيار الوطني الحر محفوظة وهي مفصولة عن حصة الرئيس. هكذا يبدأ العهد نشاطه بعملية محو ذاكرة تنكيل النظام السوري بالمسيحيين لصالح الانسجام مع طبيعة المرحلة، كما يعمل على فتح جروح الذاكرة قريبة العهد مع الأطراف المسيحية جميعها والتي تشكل إما حلفا معلنا معه أو حلفا محتملا.

محاربة التكفيريين

طرح وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف خلال زيارته إلى لبنان، والتي التقى فيها الرئيس المنتخب، العديد من العناوين عريضة وأبرزها كان محاربة التكفيريين. ولكن البعد العميق لهذا العنوان لا يمكن فهمه إلا من خلال الكشف عن المعنى الذي يحمله وفق التصور الإيراني له، والذي يربطه بشكل مباشر بمحاربة السنّة.

هكذا يأتي وزير الخارجية الإيراني الذي تحارب بلاده السنّة في كل المنطقة إلى لبنان ليطرح هذا العنوان، كما يفهمه، بوصفه عنوانا يُجمع عليه اللبنانيون، في حين أنه يشكل عمليا العنوان الفعلي والبارز للصراع في المنطقة، والذي يهدد بانفجار لبنان في ظل احتدام أزمة اللجوء السوري.

تكمن المشكلة في أن زيارة ظريف اتخذت عنوان التأكيد على نضوج التسويات فهو كان قد أدلى بتصريحاته حول محاربة التكفيريين والإرهاب إثر لقائه برئيس الحكومة المكلّف، وكأنه يريد التأكيد على أن هزيمة السنّة استتبعت منطقا من التعاطي لا يمكنهم فيه مناقشة المفاهيم كما تطرحها إيران، حتى إذا كانت تمسّهم مباشرة.

من هنا فإن عنوان محاربة الإرهاب والتكفيريين، بما يعنيه من تأكيد صريح على استمرار حزب الله، الذي تدعمه إيران، في المشاركة في الحروب ضد السنّة في سوريا والعراق، وفي أماكن كثيرة غيرهما، لم يعد سياسة فريق واحد من اللبنانيين، بل اكتسب مع إطلاقه من بيت الوسط سمة الشرعية الوطنية العامة التي انضم إليها سنّة لبنان كذلك، والتي تطبع العهد.

مخاوف نفطية

رافق ظريف في زيارته وفد اقتصادي كبير مكوّن من 45 شخصا، وكان من اللافت كذلك تزامن هذه الزيارة مع شروع إيران في الخروج من عزلتها الاقتصادية إثر استثمار شركة توتال الفرنسية في قطاع النفط الإيراني بمبلغ ملياري دولار.

ما تريده إيران إذن في هذه الفترة هو تفعيل حالة خروجها من عزلتها الاقتصادية، والتي كانت قد شرعت فيها منذ فترة عبر نجاحها في إنجاز صفقات مع عدد من الدول الأوروبية بمليارات الدولارات، لذا لن يكون ممكنا أن نفهم الجانب الاقتصادي من زيارة ظريف خارج هذا التوجه.

والمجال الأكثر قابلية لكي تستثمر فيه إيران نفوذها اقتصاديا هو النفط اللبناني، الذي يبدو أنه هو ما يرسم خريطة الصراعات والنزعات والتفاهمات بين مختلف القوى في لبنان.

وكان رئيس المجلس النيابي نبيه بري، المعترض على وصول الجنرال عون إلى سدة الرئاسة، قد أنجز قبل فترة اتفاقا مع التيار الوطني الحر عبر الوزير جبران باسيل، سمّي بالاتفاق النفطي، كما أن الشّروط التي يضعها من أجل مشاركته في الحكومة وتسهيل ولادتها لا تقتصر على ضرورة بقاء وزارة المال في عهدته، ولكن في تسليمه كامل إدارة الملف النفطي.

أوكل حزب الله أمر التفاوض الحكومي إلى نبيه بري، ما يؤكد على أن الملف النفطي والإمساك به هو مطلب إيراني يريد حزب الله أن تترك لرئيس المجلس النيابي إدارته. تاليا تكون زيارة ظريف في شقها الاقتصادي، الذي لم يتم الإعلان عن عناوين واضحة له، نوعا من استكمال مشروع استخدام العهد الرئاسي والتوافقات التي تمت حوله لصالح مشاريع التوسع الاقتصادي الإيراني.

الخطر الترامبي

روجت وسائل الإعلام الإيرانية للمرشح الجمهوري للانتخابات الأميركية الذي كان قد أعلن في العديد من المناسبات أنه معجب ببوتين وبتجربته، وأعلن في الوقت نفسه عن رغبته في نسف الاتفاق النووي مع إيران.

وكان التخوف الإيراني من المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون يقوم على أنها لا يمكن أن تكون استمرارا حرفيا لمرحلة أوباما الذهبية، والتي منحتها أكثر مما كانت تتمناه في أقصى أحلامها مغالاة وجموحا.

الملف النفطي والإمساك به مطلب إيراني يريد حزب الله أن يترك لرئيس المجلس النيابي إدارته.. وزيارة ظريف في شقها الاقتصادي، الذي لم يتم الإعلان عن عناوين واضحة له، نوع من استكمال مشروع استخدام العهد الرئاسي والتوافقات التي تمت حوله لصالح مشاريع التوسع الاقتصادي الإيراني

جاء فوز ترامب ليعيد صياغة المعادلات في العالم كله وخصوصا في إيران فالرجل حليف روسيا في الأساس وليس حليف إيران، وإن حاولت الترويج أنه المرشح الذي كانت تتمنى فوزه.

هذا يعني أن النفوذ الإيراني في المنطقة وخصوصا في سوريا عرضة لمخاطر جمّة، تنذر بنسفه أمام الحلف الترامبي البوتيني والذي قد سيرسم، إن تحقق، ملامح المرحلة القادمة. الخريطة الجديدة التي يرسمها وصول ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية تقول إن تقاسم النفوذ لا يمكن أن يكون سوى بين الكبار وحسب، وروسيا هي اللاعب الأكبر في سوريا في حين تلعب كل الأطراف الأخرى أدوارا هامشية وثانوية.

ويتوقع أن يقوى الميل الأميركي للتدخل المباشر في عهد ترامب، ما يعني أن إيران لن تستطيع المحافظة على نفوذها الحالي والذي يشمل العديد من المناطق في سوريا بصيغته الحالية. وانعكاس هذه التحولات سيدفع بها إلى البحث عن مواقع أخرى لتمكين حضورها في المنطقة وانتزاع دور لها.

من هنا لا شك أن لبنان هو مجال النفوذ الأنسب والأقل كلفة والذي ستسعى إيران إلى استغلاله لمواجهة التحولات المتوقعة في عهد ترامب، والتي يرجّح أنها لا تصبّ لا في صالحها ولا في صالح من تواجهه، ولكن من المؤكد أن وضع إطلاق اليد الذي كان سائدا على عهد أوباما لن يستمر.

هكذا، فإن العهد الرئاسي الجديد في لبنان هو المجال الذي تريد إيران من خلال السيطرة عليه أن تخلق لنفسها فرصة التعامل مع المستجدات. هي تعمل على الاستفادة من حالة ضبط النزاع معها فيه لتحويله إلى مستعمرة بديلة عن احتلالها للعديد من المناطق السورية في ظل ما يمكن أن ينتجه الحلف البوتيني الترامبي.

شادي علاء الدين

صحيفة العرب اللندنية