سيناء والإرهاب: بين أولويات الأمن القومي وضرورات الأمن الإقليمي

سيناء والإرهاب: بين أولويات الأمن القومي وضرورات الأمن الإقليمي

الجيش1-590x372تتصاعد خلال الفترة الحالية مهددات الأمن القومي المصري ارتباطا بتصاعد المتغيرات والمهددات الإقليمية التي تشهدها المنطقة ابتداء بما يحدث في العراق وسوريا ومرورًا باليمن وجنوب البحر الأحمر وانتهاء بالأوضاع في سيناء وما يحدث على الجبهتين سواء الشرقية أو الغربية لمصر, ناهيك عن مظاهر عدم الاستقرار التي تحيط بالمنطقة بشكل عام والتي ترتفع وتيرة سخونتها وتنخفض في ضوء عوامل داخلية وخارجية كثيرة. ويمثل الإرهاب الذي يضرب ويهدد بضرب كثير من دول المنطقة مصدر التهديد الأهم للأمن القومي ليس لمصر وحدها بل لسائر لدول المنطقة. وعلى الرغم من أن ملف الإرهاب ليس ملفا حديث النشأة، فإن مساحة انتشاره وتطور وسائله وقدرته على تهديد تماسك الدول فرض نفسه بقوة على المشهد المرتكب منذ نهاية عام 2010، وازداد الشعور بخطره دوليا بعد الظهور المفاجئ لتنظيم داعش في منتصف العام الجاري.

وفي الواقع فإن دول الشرق الأوسط تعج بالجماعات الإرهابية. وهي تمثل بلا شك تهديدا فعليا خطيرا لأمن دول المنطقة ووحدتها الجغرافية وتماسك مجتمعاتها. بيد أن تلك ليست الحقيقة الوحيدة. فالثابت أيضا أن خطر تلك الجماعات لا ينصرف إلى دولة دون غيرها داخل المنطقة أو خارجها، ومن ثم فإن مواجهة ذلك الخطر لا ينصرف أيضا إلى دولة دون غيرها بصرف النظر عن مسئوليتها في تعاظم ذلك الخطر وبصرف النظر عن كونها مصدرا له أو مستوردا لفاعليه أو لتداعياته. وفي هذا الإطار قال الرئيس عبد الفتاح السيسي: “إن مكافحة الإرهاب يتطلب تعاونًا دوليًا، وأنه لا توجد دولة بمفردها تستطيع مواجهته”. والثابت كذلك أن تلك الجماعات الإرهابية الكثيرة خرجت من رحم واحد وتتغذى من جذر واحد، ومن ثم فلا بديل عن استئصال ذلك الرحم وقطع ذلك الجذر. فمحاربة أية جماعة أو فرع أو بالأحرى “لافتة” إرهابية هنا أو هناك هو نوعا من الحرث في الماء، أو جهد ضائع كمن يجري في مكانه، أو كمن يعالج مظاهر المرض دون علاج المرض ذاته.

فالولايات المتحدة التي أعلنت حربا مفتوحة على الإرهاب بتعريفها الناقص والمشوه له لم تؤت ثمارا يعتد بها رغم مرور ما يزيد على عقد من الزمن على بدايتها، تعود اليوم بتأثير ظاهرة داعش لمحاربة الإرهاب بالطريقة ذاتها، وتتصور أنها يمكن أن تحقق نتائج مختلفة. فمن الغباء ـ كما قال أينشتين ـ أن تفعل نفس الشيء مرتين بنفس الأسلوب ونفس الخطوات وتنتظر نتائج مختلفة. ولعل تلك النقطة هي لب الخلاف الحقيقي بين مصر والولايات المتحدة إزاء ما يتعلق بتحالف محاربة داعش. فالولايات المتحدة تصر على سياستها في التعامل مع الإرهاب الذي تحصره في داعش الآن كما اعتبرته القاعدة سابقا، بينما تسعى مصر لسياسة مختلفة تتعامل مع الإرهاب وجماعاته باعتبارها شيئا واحدا يجب مواجهته مواجهة شاملة تتعامل مع الأصل أو الجذر وليس الفروع. فما تقوم به الجماعات الإرهابية في مصر حاليا لا يختلف عما تقوم بها أشباه تلك الجماعات في ليبيا والعراق وسوريا واليمن وما تستعد له تلك الجماعات لتقوم به في دول أخرى في المنطقة تدرك أنها ليست بمنأى عن الإرهاب. وقد أشار الرئيس عبد الفتاح السيسي في حواره لصحيفة عكاظ السعودية على أهمية “أن تتم مكافحة الإرهاب من منظور شامل، لا يقتصر فقط على الشق العسكري، وإنما يمتد ليشمل الأبعاد التنموية بشقيها الاقتصادي والاجتماعي” وذلك تأكيدا لتبني المنظور الشامل للأمن القومي باعتباره قدرة الدولة ليس فقط على حماية الوطن من التهديدات التي تواجهه، وإنما يتصل كذلك بقدرة الدولة على حماية مواطنيها، وتحسين كل من نوعية الحياة وجودتها ومستواها.

 

أولاً– وهم المواجهة المنفردة

إن الأمن القومي لدولة ما لا ينفصل عن الإطارين الإقليمي والدولي، فالعلاقة بين المستويات الثلاثة للأمن؛ الوطني والإقليمي والدولي هي علاقة تفاعل متبادل أو تأثير أو وتأثر. فلا يمكن تصور إمكانية محاربة الإرهاب داخل حدود كل دولة خاصة في ظل التطورات التي كان من شأنها التأثير على سيادة الدولة على أراضيها بمعناها الكلاسيكي، وفي ظل قدرة الجماعات الإرهابية على التحرك والتشبيك مع جماعات شبيهة في دول أخرى، بل ومع بعض الدول التي باتت تصنف راعية للإرهاب. كما أنه لا يمكن تصور إمكانية الحديث عن الأمن في منطقة ما بينما تعاني دولة أو عدة دول من دوله مشكلة في أمنها الوطني. فالأمن الوطني والأمن الإقليمي لا ينفصلان، كما قال خالد بن أحمد آل خليفة وزير الخارجية البحريني.  والأمر ذاته ينطبق على الأمن الدولي، خاصة إذا كان التهديد هو ظاهرة الإرهاب التي لا تعترف بحدود أو أوطان. فالإرهاب ظاهرة عالمية تقتضي أن تكون المواجهة شاملة سواء من حيث الدول المشاركة أو من حيث الجماعات والأفكار التي تمارس الإرهاب .

الرئيس عبد الفتاح السيسي: “إن مكافحة الإرهاب يتطلب تعاونًا دوليًا، وأنه لا توجد دولة بمفردها تستطيع مواجهته”

ولعل ما يحدث في مصر منذ ثورة 30 يونيو يقدم مثالا حيا على الترابط بين فكرة الأمن الوطني للدول وبين الأمن الإقليمي والأمن الدولي بصفة عامة. فالمشهد السيناوي بكل إشكالياته المعقدة يشتبك أو يتداخل مع الصراعات الآنية في المشهد الإقليمي، بل يمكن القول إنها تمثل مركزا وليس هامشا في تلك التفاعلات وأحد ابعاده الرئيسية، وعليه لم تعد مجرد ترمومتر للجوار الإسرائيلي، ومدى فاعليه معاهدة السلام، والعلاقات الثنائية بين القاهرة وتل أبيب، ثم قطاع غزة وما يشكله من تهديدات واقعيه كحزام تطرف وانفلات أمنى، بل أيضا ساحة لظاهرة التمدد المتعاظمة للجماعات المتطرفة المتوطنة والعابرة للحدود. ذلك أن الحرب التي تخوضها مصر ضد الإرهاب خاصة في سيناء التي تمثل 6% من إجمالي مساحة مصر تفرضها ليس فقط أولويتها للأمن الوطني المصري، ولكن أيضا ضرورات الأمن الإقليمي والدولي. إذ تدرك مصر جيدا مسئوليتها باعتبارها فاعلا رئيسيا في النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، وتنطلق من تلك المسئولية لتأمين حدودها وأراضيها وعدم تصدير مخاطر الإرهاب إلى دول المنطقة، والقضاء على المخاطر المحتملة على الملاحة في قناة السويس التي يعبر خلالها نحو 10% من حجم التجارة الدولية. بل إن التعقيدات الواردة من النظامين الإقليمي والدولي تزيد من حدة وخطورة التعامل مع الظاهرة، تماما كما أن النظامين الإقليمي والدولي مع مصر يسهل إلى حد بعيد من مهمة القضاء على خطر الإرهاب. وجدير بالذكر هنا أن ظهور داعش هو الذي دفع الجميع إلى الالتفات لخطورة الإرهاب ولضرورة التعاون مع دول المواجهة للقضاء عليه، وهو التعاون الذي ظلت الولايات المتحدة تعرقله طالما لم يتم في إطار سياستها أو خدمة لها أو لحلفائها.

 

ثانياً- كرم القواديس: دلالات استراتيجية

يعكس الحادث الإرهابي الذي شهده كمين ” كرم القواديس ” يوم الجمعة 24 أكتوبر، كحادث نوعى، يختلف عن ما سبقه من حوادث مشابهة في حلقات مسلسل العنف الذي تشهده شبه الجزيرة منذ نحو عقد تقريبا، بالنظر إلى إعادة الانتشار العسكري والعمليات غير المسبوقين، وهو ما يجعله بمثابة مؤشر واضح على التهديدات الطارئة على الساحة السيناوية، مع بقاء المخاطر التي تشهدها المنطقة ذاتها منذ أحداث دهب وشرم الشيخ قبل نحو عشر سنوات .

دلالة التطور النوعي الحادث في العمليات الإرهابية على نحو ما تشير إليه عملية “كرم القواديس” تطرح حزمة من التساؤلات من قبيل .. من هم الفاعلون؟ هل هم الفاعلين التقليديين على الساحة السيناوية؟ كجماعة أنصار بيت المقدس الجناح المسلح لمجلس شورى المجاهدين؟ أم إننا إزاء فاعلين جدد .. شاركوا معهم في التنفيذ بهذا الشكل المنظم؟ وبالتحديد تنظيم الدولة الإسلامية داعش؟ هل ذابت كل هذه التنظيمات بالأساس ونحن الآن أمام تنظيم “داعش” منذ البداية وان هذه الكيانات تندرج تحت مظلته؟ وعليه تبقى المعلومة الدقيقة هي الأهم بين كل هذه التفاصيل، للرد على علامات الاستفهام حول طبيعة العلاقة بين داعش وأنصار بيت المقدس.

وهنا نحيل إلى ما قاله عادل حبارة المتهم الرئيسي في مذبحة رفح الثانية قبل العملية بنحو 48 ساعة لموقع إخباري محلى من أنه ليس مواليا لتنظيم في سيناء إنما هو بايع خلفية الدولة الإسلامية؟ وربما كان المقصود من حواره للموقع الإلكتروني هو إعلان البيعة ..  ربما هناك “بيعة سرية” تمت من قبل مجلس شورى المجاهدين ، خاصة وأن الشخصيات المعروفة منه من أمثال شادي المنيعي، الذي كان معروفًا أنه مسئول التنظيم، وهو مجرد قيادي ميداني.. لا يعدون قيادات ميدانيه ولا قيادات روحية ولا قيادات شرعية في التنظيم.

أيضا هناك نماذج ترجح سيناريو أن نموذج “الدولة الإسلامية” كانت ملامحه تتفتق في سيناء، بداية من الإعلان عن “مجلس شورى المجاهدين لتوحيد التنظيمات الجهادية تحت لوائه كقيادة ميدانية، وعليه بدأت عملية المأسسة تحت هذه المظلة فتأسست المحكمة الشرعية التي كان قاضيها ” أبو فيصل ” وخصص لها نحو 400 مقاتل كجهة تنفيذ أحكام شرعية، وهذا هو السيناريو الأرجح، وصولا إلى اعتبار أن كل هذا التشكيل يصب لصالح تحويل سيناء إلى” الولاية الإسلامية ” في مصر تحت راية “خلافة بغداد”.

لقد قام الجهاز الإعلامي التابع لـ “داعش ” ببث فيديو لعملية ” كرم القواديس ” قبل أن يتم حجبه، مع توثيق أنها مادة مرسلة من الجناح الإعلامي لتنظيم أنصار بيت المقدس. وفى السابق رصدت اتصالات بين “حبارة” والتنظيم ، وقبل أيام اعترضت أجهزة المراقبة أيضا نداءات استغاثة يطلبها التنظيم نتيجة تعرضه في الوقت الراهن لمطاردات عسكرية ضارية، فضلا عن المكون المصري في التنظيم من بقايا جهاز “القاعدة القديمة”، وعمليات التجنيد التي تجري لصالحه من داخل مصر والدفع به كمجاهدين في سوريا .

في السياق نفسه، أكد لنا أكثر من مصدر محلي في سيناء أن الحديث عن وجود داعش أو غيرها في سيناء واعتماد ذلك دليلا على تغير في المشهد الإرهابي في سيناء هو حديث تنقصه الكثير من الدقة والدراية بواقع الأمور. ذلك أنه من السهل أن تسقط ” أنصار بيت المقدس” لافتتها وترفع لافتة داعش على أرضية وحدة الرايات ووحدة الهدف ووحدة المنهج العقائدي وهو ما لم يتطرق له كثيرين، كـ “الملاحم” في الأدبيات الإسلامية، ونهايات التاريخ، ومعارك “الفرات” في العراق  و”الغوطة” في سوريا وأنها أرض الجهاد والفتوحات، في الطريق إلى عودة الخلافة الراشدة بعد الحكم الجبري، دون التطرق إلى مواضع أخرى تدحض تلك التوجهات وتشكك فيها في ذات الأدبيات، ويضاف إلى غطرسة الجهل لدى هذه التنظيمات عامل التجنيد الأجنبي لفئات جاهلة بأصول الإسلام الصحيح ولغته وثقافته، ووفقا لتقرير أممي حديث وصل تعدادهم إلى نحو 15 ألف مقاتل، ويضاعف من خطورة هذا المشهد دعوة قواعد تنظيم “الإخوان المسلمين”للانضمام إلى التنظيم .

التماثل الواضح بين عملية “كرم القواديس” وعملية “كمين الفرافرة” تطرح دلالات عدة منها التنظيم لديه الإمكانية للتحرك على جبهات مختلفة كتنظيم قوى وقواعد منتسبيه ومواليه مدربة بدرجة عالية، ولديه جهاز معلوماته خاص، كما أن تمويله عمليات كبيرة بهذا الحجم بنوعيه الأسلحة المستخدمة فيها مؤشر آخر على الجهاز المالي لهذا التنظيم ضخم. وفي هذا السياق ربما جاءت إشارة الرئيس عبد الفتاح السيسي عن التمويل الخارجي للعملية . وعليه فمن البدهي أنه تمويل تنظيم بحجم “داعش” للعملية بما لديه من عوائد طائلة أحد روافدها عملية بيع النفط من المناطق التي يسيطر عليها في العراق وسوريا .

 

ثالثاً- خلية أزمات سيناء

على الرغم من سرعة رد الفعل الأولى من القيادة السياسية المصرية على الحادث، وما أعقبه من رد فعل عملي وسريع كالتعجيل في خطة إحكام الحدود وإنشاء المنطقة العازلة لوقف عمليات التسلل في محاولة لغلق الباب أمام التكهنات حيث اللا معلومات الكاملة، وتناول الملف على المستويات العليا في الدولة كالمجلس الأعلى للقوات المسلحة ومجلس الدفاع الوطني، وهي المؤسسات صاحبة الاختصاص الأمني والعسكري، وهو أمر طبيعي كونه يتعلق بالأمن القومي للبلاد وأسرارها العسكرية، وما اتخذ من إجراءات عاجلة لا يمكن التقليل من أهميتها، على الرغم من أهمية تلك الجهود للتعامل مع الأزمة وللحد من المخاطر العابرة الحدود فإن هناك حاجة ماسة إلى التطرق لفكرة ” خلية أزمات سيناء ” لفك اشتباك المساحات الصعبة في الملف، خاصة المساحات التي يتداخل فيها المدني بالعسكري، بالنظر إلى طبيعة المنطقة الاستثنائية  كمنقطة “بدو” تتراجع فيها ثقافة استيعاب فكرة “الدولة”، ودون تجاهل حصاد السياسيات الأمنية من عهد مبارك، وحسابات التحولات الجديدة التي واكبت سقوطه، من استفحال ظاهرة التكفير المقترنة بتنامي “السلفية الجهادية”، وانتعاشها في ظل عام حكم “الإخوان” وتكوينها شبكة تحالفات ضمت عديد من التيارات الأصولية، بمواكبة ذلك عامل تفكك القبيلة بفعل حصاد تلك السياسيات، وتوازيا لمتغيرات البيئة التي شكلت حاضنة مثالية لأفكار التطرف، راجت معها تجارة السوق السوداء التي يحكمها طبقة من مشايخ القبائل الجدد أثرياء الأنفاق وأثرياء التهريب وأثرياء الجهاد، وهي فئات بعضها ينمو طبيعيا على حدود الدول، إلا أن غياب الضوابط والنظام في سيناء وعلى الجانب الآخر الفلسطيني غذّى هذه الأنماط بشكل كبير .

الإرهاب ظاهرة عالمية تقتضي أن تكون المواجهة شاملة سواء من حيث الدول المشاركة أو من حيث الجماعات والأفكار التي تمارس الإرهاب

وهنا نحيل إلى ما قاله شيخ المشايخ المستقلين، إبراهيم المنيعي، من قبيلة السواركة، في لقاء صحفي نشرته الأهرام ويكلي في عام 2012، كنموذج للشخصية التي تمثل نقاط التلاقي بين الجهاديين وتجار السلاح وتجار الأرض وتجار السياسية وتجار الجهاد، ففي إحدى إجاباته عن التساؤلات بشان حمل السلاح ومواجهة إسرائيل على غير رغبة الدولة المصرية .. قال إنهم يحاربون عدوًا هو الكيان الصهيوني، وفي إجابة عن رأيه في كامب ديفيد بعد ثورة يناير حيث المطالبة بتغييرها حينئذ. قال إنها حمت السيناويين من تغوّل الدولة المصرية عليهم، وإنهم بصدد مقترح يجري تداوله بينهم لتأسيس جيش يماثل البشمرجة الكردية!، ربما يمثل المنيعي استثناء وليس قاعدة، فلا يمكن التعميم، إذ إن هناك من ارتبطوا بالأرض التي تمثل في العقلية الجمعية لهم فكرة “الوطن” فدافعوا عنه ودفعوا ضريبة حمايته.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة هنا إلى أن هناك مدنا شبه حضرية في شمال سيناء وتعد العريش نموذجا، ورغم توقف قطار التنمية عند محطة بئر العبد، وهو ما يطرح فكرة إدراك المتغيرات الجديدة على الساحة السيناوية، ومنها مثالا لا حصرًا، المتغيرات في أوساط الشباب ممن حظوا بقسط وافر من التعليم وصولًا إلى أرفع الدرجات الأكاديمية محليًا ودوليًا، أيضا هناك مواكبه لتطور المجتمع المدني، كما تشكلت روابط مجتمعيه على مواقع التواصل الاجتماعي شكلت نوافذ تلاقى اختصرت المسافات بين الجبال وأزاحت الدروب الممتدة في التلال والصحاري، وهؤلاء يمكن أن يمثلوا قاطرة التغيير في تلك البيئة على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم السياسية، كذلك ملامح الرجل البدوي التي اعتادتها الأذهان في طريقها إلى الاندثار بحلول جيل قادم، وعليه لم تعد هناك ضرورة لإعادة الاعتبار للقبلية بقدر الحاجة لإعادة الاعتبار لفكرة المواطنة، وفكرة تطوير الإنسان المصري شأن السيناوي فيه شأن غيره من مواطنيه في الوادي والدلتا، وربما خطة “إعادة توزيع” السكان الحدوديين أحد مسارات الصحيحة في هذا الاتجاه.

لكن يبقى كل هذا العرض والتحليل سطحيا إلى حد ما دون توسيع دائرة المشهد، فكما أن مصر تطرح فكرة الحرب الشاملة على الإرهاب دون تفرقة بين تنظيم داعش في العراق وسوريا، وأشقائه في ليبيا كأنصار الشرعية، وبالتالي التطرق إلى مرآة حزام التطرف في قطاع غزة، وما صنعته في محطاتها الرئيسية على حزام غزة الجنوبي على تنوعها من جلجلت إلى جند الله إلى أجناد بيت المقدس إلى التوحيد إلى التوحيد والجهاد والتي لها نظائر متطابقة في سيناء وصولًا إلى الإعلان عن ” تنظيم الدولة ” قبل ثلاث سنوات على اندلاع ما سمِّي بالربيع العربي، وهو يدعونا إلى البحث أيضا في سيل أدبيات وفقه منظري هذه التنظيمات، وفي مقدمتهم المنظر الرئيسي أبو محمد المقدسي المعتقل حاليا لدى السلطات الأردنية والذي أمكنه أن يبعث برسائل قبل شهور من وراء القضبان عبر محاميه إلى التنظيم، وتكفي هنا الإشارة إلى واحدة من تلك الأدبيات وهي وثيقة “الدولة النبوية” التي كتبها وزير الحرب الأول في داعش – المصري – أبو حمزة المهاجر، ثم سيل كبير من الدراسات والفتاوى التي تشكل موجة جديدة من التشدد الديني، ومن ثم توسيع الدائرة الى العراق وسوريا وتتبع مسيرة تطور “ربيع  القاعدة الجديدة” وموقع مصر فيها . خاصة وأن التنظيم لا يضع اعتبارا لحدود ولا يفرق بين مواليه في مصر أو ليبيا أو العراق وسوريا .

 

رابعاً- غزة ودائرة التهديد

تمثل الجبهة الشرقية أهم الدوائر المباشرة للأمن القومي المصري والتي يحتل فيها قطاع غزة 14 كم على خط الحدود، بينما تحتل إسرائيل نحو 240 كم, وتعد الجبهة المصرية مع غزة هي الأكثر سخونة وتوترًا في ضوء سيطرة حماس على القطاع منذ منتصف عام 2007 وحتى الآن, وما شهدته العلاقات المصرية مع حماس من عمليات شد وجذب وتدهور في العلاقة معها ومحاولات احتواء دون أن تصل هذه العلاقة إلى حالة من الاطمئنان على سكون هذه الجبهة والسيطرة عليها, ولا يمكن لنا أن نغفل أن الجزء الآخر في هذه الجبهة (الحدود مع إسرائيل) وإن كان يشهد هدوءًا بشكل عام، إلا أنه قد يشهد توترًا في أية مرحلة حتى وإن سلمنا بأنه توتر محسوب يمكن لأطرافه السيطرة عليه وعدم توسيع نطاقه حتى لا تتأثر مصالح أي منهما .

وبصفة عامة، فإن قطاع غزة يمثل تهديدا دائما بديمومة واقعة السياسي، غير أن تصاعد مستوى التهديد منه يقتضي وفقه، حيث أصبحت سيناء هي الملعب الأساسي لحماس، وعنصر الإمداد والتدفق والحركة البينية التحتية في كل ما تراه ضروريًا لدعم وضعيتها فلم يقتصر الأمر على عمليات تهريب المواد الأساسية اللازمة لحياة سكان القطاع ارتباطًا بحصار إسرائيل في بعض الفترات, وإنما تعدى ذلك إلى تهريب الأموال والسلاح والمتفجرات والأفراد المطلوبين والبضائع المسروقة، ولا سيما كل أنواع السيارات وغيرها، وهي كلها تتم بوسائل غير شرعية, وقد استثمرت حماس ضعف الوجود العسكري المصري في سيناء ولا سيما في المنطقة (ج) في ضوء قيود معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية لتجعل من سيناء ممرًا مباحًا مستباحًا لكل ما يمكن أن يؤثر سلبًا على الأمن القومي المصري, ولم تلق حماس بالًا إلى المطالبات المصرية لها بالكف عن العبث بالأمن القومي المصري .

وبالنظر إلى أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تعد أحد أفرع حركة الإخوان المسلمين (طبقًا لنص ميثاق حماس) فمن الطبيعي أن نجد أن الارتباط بينهما يعد ارتباطا عضويًا وتنظيميًا تلتزم حماس بمقتضاه بكافة تعليمات الإخوان وتنفذها مهما ترتب عليها من نتائج, وبالتالي لا يمكن إعفاء حماس من محاولاتها التنصل من هذا الارتباط, أو محاولة تجميل نفسها وتوجهاتها بعيدًا عنهم, أو نفي مشاركتها في دعمهم بصور الدعم المختلفة (ماديًا وعسكريًا ومعنويًا وسياسيًا وإعلاميًا) وهي كلها صور من الدعم التي قدمتها حماس بالفعل في الفترة السابقة إلى حركة الإخوان المسلمين في مصر، ولقد أدى ارتباط حماس ببعض القوى الإقليمية المعروفة التي تتسم توجهاتها بمناوئة ومعاداة الموقف المصري, إلى اعتبار هذه القوى أن حماس تمثل لهم رأس الحربة لتنفيذ بعض الأهداف التي تتمشى ومصالحهم, ومن الطبيعي أن يكون المجال الحيوي، الطبيعي تنفيذ هذه الأهداف في اتجاه محورين رئيسيين الأول تجاه سيناء, والثاني تجاه إسرائيل انطلاقًا من سيناء, بمعنى أنه في كلتا الحالتين فإن مصر ستكون هي المستهدفة، وستتأثر سلبًا من جراء مثل هذه السياسات والأدوار التي تلعبها أو تقوم بها هذه القوى سواء لتحقيق أهداف ذاتية لها أو بالنيابة عن قوى أخرى محددة. بتعبير آخر، فإن سلاح المقاومة أصبح رهينة للمعادلات الإقليمية وبات سهلا “تأجيره” وحرفه عن الوجهة الأساسية للمقاومة الفلسطينية وهي الجانب الإسرائيلي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن موقف حماس من الجهود المصرية لوقف الحرب الإسرائيلية الأخيرة قد جاء ردا على التحولات السياسية التي شهدتها مصر في 30 يونيو على سبيل الدعم لفصيل أُقصي عن السلطة بثورة شعبيه، الأمر الذي يستحق أن يوضع في مربع التهديدات الطارئة. باختصار فإن مواقف حماس تجاه مصر منذ 30 يونيو 2013 تدخلها في دائرة الشبهات إن لم تكن في دائرة الاتهام عن العمليات الإرهابية التي تقع في سيناء .

التماثل الواضح بين عملية “كرم القواديس” وعملية “كمين الفرافرة” تطرح دلالات عدة منها التنظيم لديه الإمكانية للتحرك على جبهات مختلفة كتنظيم قوي

وقد عمدت حماس إلى تدعيم أركان حكمها في القطاع من خلال مسارين، الأول إحكام السيطرة التامة على كل مناحي الحياة في القطاع، ولا سيما أمنيًا وتجاريًا, والثاني إعطاء منظومة الأنفاق وضعية خاصة ومميزة وغير مسبوقة لتكون بمثابة شريان الحياة لدعم الحركة في كل ما يمكن أن يمنحها القوة للحياة والاستمرار والتأثير بل والاستقلالية في بعض الأحيان حتى تكون حماس قادرة على أن تكون أحد اللاعبين الرئيسيين في معادلة الصراع مع إسرائيل، استثمارًا لضعف السلطة الوطنية الفلسطينية. أو بمعنى آخر أن يكون لحركة الإخوان المسلمين ( من خلال حماس القوية ) دور مؤثر في معادلات القوى الإقليمية .

وبالتزامن مع هذه التطورات, ومع الانسحاب الإسرائيلي من غزة، بدأت عملية ظهور الجماعات المتطرفة في القطاع بشكل واضح في نهاية 2005، وبدأت مظاهر التأييد واضحة للعيان لأسامة بن لادن والزرقاوي والقاعدة، حتى وإن لم يستشر هذا التوجه بسرعة، ولكنه بدأ في الظهور ثم تبلورت معالمه فيما يسمى جيش الإسلام وجلجلة، وبدأت هذه الجماعات تحاول إثبات نفسها بشتى الطرق وسعى بعضهم إلى إقامة الإمارة الإسلامية في القطاع, وقاموا بخطف وقتل مواطنين أجانب, وحاولت حماس التعامل مع هذا الفكر شديد التطرف بطرق مختلفة إدراكًا منها بأنه يشكل خطرًا علي بقاء حكمها في غزة، فقامت بقتل بعضهم واعتقال البعض الآخر، وكذا محاولة احتواء من يمكن احتواؤه, كما استثمرت توجهات بعضهم ونسقت معهم فيما يخدم مصالحها وأهدافها, وما يهمنا في هذا المجال أن نشير إلى أن سيناء كانت الملعب الرئيسي لحماس ولكل الجماعات المتطرفة، وكانت تتم هذه التحركات تحت أعين كتائب القسام .

وفي نفس السياق لا يمكن إغفال طبيعة العلاقة بين حماس وإسرائيل ومدى تأثيرها على الأمن القومي المصري, ومن المهم هنا أن نشير إلى أن مصلحة إسرائيل تتمثل في بقاء حماس مسيطرة على قطاع غزة لتصبح من الناحية النظرية أحد مهددات الأمن القومي الإسرائيلي دون أن تتصاعد قوة حماس إلى الحد الذي يهدد الأمن الإسرائيلي من الناحية العملية,  ولا شك أن العمليات العسكرية الثلاث التي شنتها إسرائيل على غزة خلال السنوات السبع السابقة كانت لها تأثيرات سلبية على مصر، ولا سيما إمكانية تعرّض مصر إلى هجرة الآلاف من سكان القطاع إلى سيناء, فضلًا عن تأثيراتها الداخلية لدى قطاع عريض من الرأي العام المصري .

 

خامساً- محاور الحركة

لم تجد مصر بدًا من التحرك على عدة محاور لمجابهة هذه المخاطر والتهديدات، خاصة وأن البيئة الحالية في قطاع غزة أصبحت صالحة لانتقال الأفكار المتطرفة للقاعدة وداعش وجبهة النصرة وغيرها من الجماعات ذات الفكر المتطرف, وكما أسلفنا فإن الأمر لم يقتصر على الأفكار بل تعداها إلى حركة الأفراد ذوي الاتجاهات المتطرفة والإجرامية والسلاح بكل أنواعهن بما في ذلك أسلحة ثقيلة, وتبلور نتاج هذا التوجه العنيف في القيام بعمليات إرهابية ضد قوات الجيش والشرطة المتمركزة في سيناء، كان آخرها عملية كرم القواديس يوم 24 أكتوبر، والتي لم تجد بعده مصر خيارًا آخر سوى القيام بعمليات نوعية في سيناء، أهم وأول ملامحها إقامة منطقة عازلة بين مصر والقطاع بهدف إغلاق الأنفاق التي تمثل الخطر المحدق على مصر القادم من القطاع الذي تسيطر عليه حماس. ولكن مصر وهي تسعى إلى تأمين حدودها الشرقية ودرء مهددات الأمن القومي المنبثقة من هذه المنطقة، تحرص على تأمين سيناء تمامًا, وعدم الإضرار بسكانها من جراء إنشاء المنطقة العازلة, كما أن مصر سوف تتحرك في مجال إقرار المصالحة الفلسطينية حتى تعود السلطة الشرعية إلى القطاع، ويتم بذلك فتح معبر رفح بصورة طبيعية, كما أن مصر ستسعى إلى القيام بدور مهم في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية عند استئنافها، قناعة منها بأن حل القضية الفلسطينية سوف يسهم إلى حدٍ كبير في استقرار الأوضاع في المنطقة .

وإذا كان من المستحيل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء قبل انتخابات 2006، التي أوصلت حماس إلى السلطة أو حتى مع انفرادها بالسلطة 2007، فإن من الواجب والضروري أولا أن تعيد مصر النظر في ملف علاقتها مع حماس باعتبارها باتت مهددا للأمن القومي المصري، وثانيا أن تستخدم أوراق الضغط المتاحة لديها في إطار إقليمي لوقف نمو حزام التطرف الزحف الجهادي الذي وفر له واقع حكم حماس للقطاع بيئة نمو على طيلة السنوات العشر الماضية، وثالثا أن تتبع منهجا برجماتيا في التعاطي مع الحركة باستثمار ما تنجزه مصر برعايتها لملفات إعادة الإعمار والمصالحة بصفقة لصالحها وليس كمكافأة لحماس في النهاية، يمكن أن يرتبط بتغيير رئيسي في هيكل الحركة الأمني والسياسي والضغط عليها للتعاون أمنيًا مع مصر، كما أن هناك ضرورة ملحة لعمل منطقة عازلة موازية أيضا داخل حدود قطاع غزة يمكن أن تدرج على ملف إعادة الإعمار أو الخطة الأمنية في ملف المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية.

إن مصر تطرح فكرة الحرب الشاملة على الإرهاب دون تفرقة بين تنظيم داعش في العراق وسوريا، وأشقائه في ليبيا كأنصار الشرعية

خلاصة القول، إن ظاهرة الإرهاب تقتضي مواجهة شاملة على المستويين الوطني والدولي، وأنه لا مجال للزعم بأن الدولة أيا كانت مسئولة فقط عن أمنها القومي، وأن بإمكانها منفردة أن تحقق ذلك الأمن في مواجهة الإرهاب، أو أن الدولة التي تعاني من الإرهاب مباشرة على أراضيها هي التي يقع عليها فقط عبء مواجهته ظنا من الآخرين أنهم بمنأى عن خطورته. وفيما يتعلق بمصر، يمكن القول بوضوح وثقة تامة: إن مهددات الأمن القومي المصري تزايدت خلال الآونة الأخيرة على المستويين الكمي والكيفي في ضوء التطورات التي تشهدها المنطقة، وهو ما يؤكد الارتباط الوثيق بين الأمن القومي المصري والأمن الإقليمي في كل ما نشهده حاليًا في ليبيا وسوريا والعراق ولبنان واليمن، ولا يمكن أن نغفل التهديدات التي تتعرض لها مصر من جراء بناء سد النهضة الإثيوبي لتكتمل بذلك حلقة التهديدات لتطوق مصر في دوائر متقاربة, كما أن فتح العديد من الجبهات على مصر في وقت واحد يبدو أنه متعمد, الأمر الذي لابد وأن يدفع مصر إلى الدفاع عن أمنها القومي، واتخاذ ما تراه مناسبًا من إجراءات سواء بمفردها أو في إطار منظومة إقليمية أو دولية تسعى إلى مواجهة الإرهاب الذي بات يهدد بقاء دول بأكملها. ومن ناحية أخرى فإن قصر الحل لأزمة سيناء على البعدين العسكري والأمني ـ رغم أهميتهما كعوامل تقتضيها الضرورة ـ لا يمثل حلا خلاقا للأزمة، بل لا بد من أن يتجاوز الأمر إلى إعادة الهيكلة وإعادة رسم الخريطة مرة أخرى لسيناء ليس على مستوى التقسيم الإداري فقط، ولكن على كل مستوياتها الثقافية والاقتصادية والمجتمعية والصحية والتعليمية .. إلخ. وضرورة اجتثاث الخطاب الإرهابي واختراق مروّجيه  وتقديم البديل المقبول كمحور رئيسي لا يجب الاكتفاء بالتأكيد عليه في كل خطاب رئاسي دون تقديم مبادرة تغيير، فالمؤسسات الفاعلة والمنوط بها تجديد الخطاب الديني، وهى المؤسسات الدينية والثقافية والتعليمية، يقع على عاتقها ضرورة أولا التأسيس المعرفي لخطاب ديني جديد، وإعادة هيكلة المؤسسات الدينية شبه الرسمية كالأزهر الجامع الجامعة والرسمية كالأوقاف، فضلا عن المنظمات الدينية التي تعمل تحت مظلة المنظمات الأهلية، وتحويلها إلى منابر للتنوير الديني وليس للتلقين الديني، على أن تكتمل هذه المنظومة (تعليمية وثقافية ودينية وأمنية) لغلق الدائرة واجتثاث الخطاب الديني الإرهابي وتقديم الخطاب الديني المستنير. ومن هنا يأتي دور الإعلام باعتباره الجسر الحقيقي الذي يمكن من خلاله نقل مفردات ذلك الخطاب التنويري وتغييب الخطاب المتشدد الذي يهيئ البيئة للأفكار الإرهابية.

لواء محمد إبراهيم – د. صبحي عسيلة- أحمد عليبة

المركز العربي للبحوث والدراسات