ترامب في مواجهة مؤسسة الأمن القومي: هل ستحدث ثورة في السياسة الخارجية الأميركية؟

ترامب في مواجهة مؤسسة الأمن القومي: هل ستحدث ثورة في السياسة الخارجية الأميركية؟

55d4afb6ea70c

منذ بداية حملته الرئاسية، هوجم ترامب بوحشية من جانب مؤسسة الأمن القومي، ووصف بأنه غير مناسب للقيادة وخطير وغير كفؤ وجاهل. وقد حيكت هذه الانتقادات سوية في رسالة نشرت بتاريخ 8 آب (أغسطس) الماضي، ووقع عليها خمسون من المسؤولين السابقين في مجلس الأمن القومي، مستبعدين احتمال فوزه بالرئاسة. كما تمت السخرية بحدة من فريقه للأمن القومي على لسان إعلام المؤسسة، بدءاً من مادة صحيفة “ذا نيو ريبابليك” بعنوان “مهرجو بلاط ترامب” التي وصفتهم بأنهم “مجموعة من الأوغاد المنبوذين والانتهازيين، المهووسين بالمؤامرات وغريبي الأطوار”، إلى العديد من عناوين الصحف الأخرى. ورد ترامب على الرسالة المذكورة بأن هؤلاء هم نفس الناس الذين جلبوا لنا عقدين من الحروب -ولاحظ مستشاره، سام كلوفيس، بلهجة ساخرة أن فريق الأمن القومي مكون من أناس “يعملون من أجل كسب العيش”.
وبتنحية هذه الأوصاف جانباً، كانت أسوأ زلة أمن قومي صدرت عن ترامب هي تشكيكه في رهاب الخوف من روسيا الذي هيمن على السياسة الخارجية الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإقرار قانون الأمن القومي في العام 1947. ويزيد تشكيك ترامب تفاقماً غطرسته إلى حد إثارة موضوع الناتو -وتأمله لنهاية العقود السبعة من الاحتلال الأميركي لأوروبا (“لا نستطيع النهوض بهذا”). وتنفجر هذه المنظورات في وجه التاريخ الكامل لمؤسسة الأمن القومي التي تسعى منذ تأسيس مجلس الأمن القومي إلى احتواء حلفائها السابقين (روسيا ثم الصين)، والمحافظة على الهيمنة الأميركية على القارة الأوروبية.
كان بوسع ترامب أن يرد، بطبيعة الحال، بأن صراع أوباما مع روسيا يشكل تشتيتاً للانتباه عن الحرب على الإرهاب، خاصة في تجسده الحالي في تنظيم “داعش”. ويستشرف ترامب عمل روسيا والولايات المتحدة معاً بانسجام لهزيمة الإرهاب -وتقاسم غنائم الحرب من خلال عقود العقارات والنفط والبنية التحتية. وستكون لترامب بطبيعة الحال حربه على الإسلام المتطرف، لكنها ستخاض إلى جانب روسيا. وإذا كان تواجد كارتر بيج ومايكل فلين في فريقه للأمن القومي يقول لنا شيئاً، فهو أن ترامب لا يرى في روسيا تهديداً وإنما يرى فيها شريكاً محتملاً في الشؤون الجيوسياسية والتجارية الدولية. وتجدر الإشارة إلى أن لترامب مصالح تجارية كبيرة في روسيا والشرق الأوسط، وهو يقارب الصراع الذي طاول العقد من وجهة متعلقة بأمن الأعمال التجارية. وقد ذهب ترامب بعيداً إلى حد اقترح أن تدع الولايات المتحدة لبوتين أمر إلحاق الهزيمة بـ”داعش” بنفسه. “لماذا نهتم؟”.
من الواضح من كثافة رد فعلها على زلة لسان ترامب أن مؤسسة الأمن القومي لن تتحمل الانحراف عن النص الرسمي. ومنذ بدايته بالحملة ضد الشيوعية، شن مجلس الأمن القومي -ومن خلال منظماته التابعة، مثل وكالة الاستخبارات المركزية والمكتب الفيدرالي- حربا مستمرة، دولياً ومحلياً، على التهديدات المحسوسة الموجهة للهيمنة العالمية الأميركية. ونظر المجلس دائماً إلى روسيا على أنها التهديد الأكبر الموجه لـ”باكس أميريكانا”. ووضع مجلس الأمن القومي استراتيجية لهيمنة بكال الطيف منذ البداية، والتي تعمل من خلال التدخل السياسي، وتغيير الأنظمة، والاغتيال، والدعاية الثقافية والحرب النفسية والقمع السياسي المحلي. وأصبحت هذه الوفرة من الأعمال تعرف بشكل جماعي باسم “الحرب الباردة”، وأن روسيا (وداعميها المحتملين) هي التي تستمر في أن تكون الهدف الرئيسي لاستراتيجية الأمن القومي الأميركية العالمية.
من هذا المنظور، لم يكن من قبيل الصدفة أن يقوم جورج بوش الأب، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، بغزو الشرق الأوسط عندما كان الاتحاد السوفياتي (العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي والذي يتمتع بحق النقض) يسير متعثراً إلى الانهيار. وسوية مع تركيا، حليفة الناتو منذ وقت طويل، كان الشرق الأوسط بمثابة الكأس المقدسة أو الضالة المنشودة للهيمنة العسكرية والاقتصادية العالمية -واحتواء روسيا أو تدميرها. وقبل أن ينجلي الغبار في العراق، قام كلينتون بتوسيع انتشار حلف الناتو إلى الشرق بحيث أصبح يقف راهناً على حدود روسيا.
اعترضت روسيا على حرب الخليج الثانية -وعلى حرب ليبيا- لكنها وقفت على جوانب الشرق الأوسط حتى تدخلها في سورية في العام 2015. ويكمن جذر التدخل الروسي في خطر تغيير النظام في سورية، وخاصة في أعقاب الانقلاب الذي هندسته أميركا في أوكرانيا في العام 2014. وما هو على المحك بالنسبة لروسيا هو أمن غازها الأوروبي وأسواق النفط التي ترى أنها أصبحت مهددة من الولايات المتحدة وحلفائها.
من جهة، تسعى قطر والسعودية وإسرائيل إلى تغيير النظام في سورية لبناء خط أنابيب غازإلى أوروبا. ومن جهة أخرى، تقوم الولايات المتحدة بقطع سلاسل الإمداد الروسي -من خلال الأزمة الأوكرانية ونظام العقوبات الأوروبي- لزعزعة استقرار وتقويض العلاقات الروسية الأوروبية. وتشكل شبه جزيرة القرم أهمية في هذا الإطار نظراً لكونها محور التوزيع الرئيسي لأوروبا، وهو وضع يهدده الانقلاب الأوكراني. وقد حدثت إعادة توحيد شبه جزيرة القرم مع روسيا مباشرة على خلفية الصراع في سورية، كرد على كل الاستراتيجيات الأميركية للاحتواء وتشتيت السوق. كما مورس المزيد من الضغط على روسيا من خلال تخفيض أسعار النفط بسبب إنتاج الغاز الصخري وتهريب “داعش” للنفط.
تحولت الاستراتيجية الأميركية في سورية بشكل مأساوي إلى سياسة “تدمير أمة”، والحرب بالوكالة، وحرب المرتزقة، ونزع الاستقرار والتقسيم والتطهير العرقي (“أزمة اللاجئين”). وتم جعل سورية ضحية رهيبة لهوس الأمن القومي الأميركي بالخوف من روسيا.
بالنسبة لتساؤل ترامب: “لماذا نهتم؟”، فإن ذلك يعري بوضوح لماذا شجبت مؤسسة الأمن القومي ترشيحه بالعبارات السابقة القاسية. ومن وجهة نظرها، فإن السماح لبوتين بالفوز في سورية لا يعني قبول الأسد وحسب، وإنما أيضاً منح روسيا تواجداً دائماً في المنطقة. وكان استثناء روسيا ودفعها إلى الوراء قد شكل دائماً الهدف الأميركي، وتشكل صداقة ترامب لروسيا تحدياً مباشراً لمؤسسة الأمن القومي وخطتها للإلقاء ببوتين خارج أوروبا.
مع ذلك، كسب ترامب الانتخابات وهو على مسار تصادمي مباشر مع مؤسسة الأمن القومي. ومن الطبيعي أن ترامب ليس ثورياً مرجحاً. ولم يسبق له أن قال أبداً أنه سيتمرد على قانون الأمن القومي للعام 1947 (لم يسبق لأي رئيس أن فعل ذلك)، الأمر الذي يعني أنه سيقبل بجهازه الظلي وطرقه البيروقراطية. بل إنه يدعم في الحقيقة زيادة مراقبة مجلس الأمن القومي وتوسيع الإنفاق العسكري، ونشاط وكالة المخابرات المركزية الأميركية وقرصنة مكتب التحقيقات الفيدرالي للهواتف.. إلخ. وهو يقترح ببساطة هدفاً مختلفاً لسير الأعمال كالمعتاد، عن طريق تذكيرنا بدورتنا الاعلامية الاخيرة “الحرب على الإرهاب”.
مع ذلك، فشل ترامب حتى الآن في الإفصاح عن “الصورة الكبيرة” لتقارب روسي في سياق الحاجة الى انفتاح أميركي -إلى تفكيك دولة الأمن القومي. وخلال حملة تميزت بكسر متسلسل للمحظورات طويلة الأمد (معارضة ساندرز لوكالة الاستخبارات المركزية ودعمه للساندستيين وكوبا) وكشف ويكليكيس عن وثائق حساسة وضارة للحكومة والحملة الانتخابية، بدد ترامب فرصته لوضع رؤية تحظى بالمصداقية للإصلاح الراديكالي أو إحداث ثورة. وفي الحقيقة كان سعيداً بأن يقر بالتزامن بدولة المراقبة لمجلس الأمن القومي، وويكيليكس- ومن دون سخرية.
فشل ترامب حتى الآن بالإفصاح عن رؤية متماسكة عن عالم متعاون متعدد الأقطاب -بعبارات أخرى، فشل في دعوة المواطنين العاديين للمطالبة بتغيير راديكالي لمفهوم الأمن القومي ولمكانة الولايات المتحدة في العالم. وإذا لم يقدم على تحدي مجلس الأمن القومي، فإن تمرد ترامب سيكشف عن نفسه باعتباره كعامل تشتيت عن المهمة المتمثلة في إيجاد طريق للخروج من متاهة الإمبراطورية. وبسذاجتها، سوف تعمل “ثورة” ترامب عندئذٍ للمزيد فقط من تعزيز الحصانة التي لا يستنطقها أحد لمجلس الأمن القومي.
إذا كان ترامب جاداً، فإنه سيقدم انتقاداً متماسكاً للأمن القومي الأميركي والكارثة الدستورية المتمثلة في قانون الأمن القومي. إذا كان ترامب جاداً، فإنه سيتحدى قانون الأمن القومي.

جيمس لتشي

صحيفة الغد