صعود الجمهوريين في أمريكا: الدور الاستشرافي لمراكز الأبحاث

صعود الجمهوريين في أمريكا: الدور الاستشرافي لمراكز الأبحاث

390

تحفل دراسة النظم السياسية والعلاقات الدولية المعاصرة، بكم هائل من التشابك والتعقيد وعدم الاستقرار، الأمر الذي يؤثر على التنبؤ وإقامة علاقات خطية استمرارية لعديد الظواهر، وربما في المركز العربي للبحوث والدراسات، ومن خلال أبحاثنا المختلفة، كنا قد تنبئنا بصعود الجمهوريين في أمريكا، بل اليمين المتطرف أيضاً في أوروبا، الأمر الذي جعلنا نتبنى مشروعاً أسميناه “الشرق الأوسط في عصر الاضطراب العالمي”، وهنا نعيد نشر أحد الدراسات التي نشرناها في نوفمبر 2014 قبيل انتخابات الكونجرس الأمريكي للباحث د. محمود صدقي.

الصعود للقيادة: السياسية الخارجية الأمريكية في ضوء انتخابات الكونجرس

مثّلت الانتخابات التجديدية للكونجرس الأمريكي بغرفتيه النواب والشيوخ وحكام بعض الولايات الأمريكية، والتي جرت يوم 4 نوفمبر 2014 ونتائجها دلالات مهمة بالنسبة للعلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية للولايات المتحدة خلال العامين المتبقين من ولاية الرئيس أوباما وانعكاسات ذلك على سياسة الولايات المتحدة الخارجية إزاء عدد من القضايا ذات الصلة بالعالم وخاصة منطقة الشرق الأوسط وفي مقدمتها: الملف النووي الإيراني، الملف السوري والتنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها داعش، علاقات الولايات المتحدة بحلفائها التقليديين في المنطقة العربية، وأخيرًا مستقبل القضية الفلسطينية؛ ولذا فقد تناول التقرير بشكل متعمق السيناريوهات المحتملة والمنظورة المرتبطة بكل من هذه القضايا بناء على نتيجة الانتخابات.

لقد أفصحت الانتخابات الأمريكية عن سيطرة الجمهوريين على الكونجرس بغرفتيه وانتزاع الأغلبية في مجلس الشيوخ الذي كان محور المعركة الانتخابية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي وفي الولايات التي كانت تعد معقل الديمقراطيين وكذا حكام معظم الولايات الأمريكية، وقد كما أشارت بشكل كبير وجلي لتوجهات ورؤى الجمهوريين إزاء القضايا الداخلية والخارجية في إطار رؤيتهم الكلية للسياسة الخارجية وللأمن القومي الأمريكي وهو ما يركز عليه هذا التقرير.

إن من أهم القضايا التي أثارتها تلك الانتخابات والتي تناولها التقرير باستفاضة هو تأثير نتائج انتخابات الكونجرس على الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2016 وما إذا كان صعود الجمهوريين للسيطرة على الكونجرس بشكل تدريجي في عام 2010 عبر الحصول على الأغلبية في مجلس النواب وأخيرًا حسم الأغلبية في مجلس الشيوخ هو توطئة للحصول على مقعد الرئاسة، ولذا فقد تطرق التقرير بالتحليل والرصد لسيناريوهات الانتخابية الرئاسية الأمريكية القادمة وفق دلالات انتخابات الكونجرس الأخيرة والسوابق الأمريكية في هذا الشأن والمستجدات الماثلة في البيئة الخارجية وفي الداخل الأمريكي، ومدى استعداد أي من الجمهوريين أو الديمقراطيين على حسم مقعد الرئيس .

الخلاصة أن هذا التقرير، وإن كان قد تناول بالتحليل والرصد الفاعليات التي سبقت انتخابات الكونجرس ثم نتائجها ولوجًا لمستقبل الانتخابات الرئاسية، فإنه قدم أيضًا رؤية تحليلية للسيناريوهات المتصلة بتأثير هذا وذاك على سياسة الولايات المتحدة الخارجية الآنية خلال العامين القادمين وفي المستقبل البعيد بعد انتخابات الرئاسة 2016 وخاصةً فيما يتصل بقضايا الشرق الأوسط والمنطقة العربية.

أولًا : قراءة تحليلية في برنامجي الحزبين

كان للتنافس البرامجي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي عامل مهم واستباقي قبيل انتخابات الكونجرس فيما تجلى من حسم الجمهوريين لتلك الانتخابات وذلك على النحو الآتي:

1-  الحزب الجمهوري Republican Party

تشير الخلفية التاريخية للحزب الجمهوري إلى دوره في تبني السياسات التي أفضت إلى تحرير الأمريكيين من أصل أفريقي من العبودية، حيث إن فكرة تأسيس الحزب انبثقت من تحرير العبيد في القرن التاسع عشر، وأنه يصنف على أنه من أحزاب يمين الوسط، فهو محافظ فيما يتعلق بالجوانب الاجتماعية وليبرالي فيما يتعلق بالشئون الاقتصادية، ويحوي اتجاهات فكرية متعددة تصب في الاتجاه العام للحزب غير أنه يمكن تمييز اتجاهين كبيرين داخل الحزب وهما: المحافظون والليبراليون.

تتمثل المبادئ الأساسية للحزب في: المساواة، وتكافؤ الفرص، والحفاظ على تماسك الأسرة عبر رفض تشريع قوانين تفك عرى المجتمع مثل زواج المثليين. وخلافا للحزب الديمقراطي، فإن الحزب الجمهوري الحر يرفض زيادة الضرائب على المواطنين الأمريكيين وأصحاب الدخل المحدود.

وقد استعان الحزب في انتخابات الكونجرس لعام 2014 بخلفيته التاريخية وببرنامج اتفق مع المستجدات الأمريكية داخليًا وخارجيًا وحدد الحزب الجمهوري أهم مقوماته في أنه حزب الفرص Party opportunities الذي لا يألو جهدا من أجل أن تكون الولايات المتحدة أكثر حرية وأقوى حيث تتاح الفرص للجميع لتحقيق الحلم الأمريكي ويؤمن الحزب الجمهوري بأن الولايات المتحدة بلد استثنائي وفريد Country is Exceptional، في ظل احترام للدستور فى إشارة لمخافة أوباما للدستور كما يزعم الحزب، وأن يخدم المسئولون مصالح الشعب الأمريكي لا المصالح الخاصة، وبقوة الأسرة وتماسكها بمعزل عن التدخل الحكومي في ضوء أن الزواج التقليدي هو قوام المجتمع الأمريكي، وهذا يتوافق مع النزعة المحافظة للحزب، وأن تكون حكومة أصغر وأكثر ذكاء وأكثر كفاءة إلى غير ذلك من المـبادئ الرئيسة للحزب.

أ‌-       استراتيجية الجمهوريين الانتخابية والأهداف الرئيسة

لقد تمثلت استراتيجية الجمهوريين في الحصول على ستة مقاعد إضافية فى مجلس الشيوخ للحصول على الأغلبية مع احتفاظهم بالأغلبية في مجلس النواب وركزوا جهودهم في عدد من الولايات وهي: ألاسكا، ولاية أركنسو وكولورادو وأيوا، ولاية كارولينا الشمالية، نيو هامبشاير، لويزيانا، وفرجينيا.

كما خاض الجمهوريون انتخابات الكونجرس مؤكدين على إخفاقات الرئيس أوباما والديمقراطيين خاصة في عدد من المجالات وأهمها: برنامج الرعاية الصحية الاقتصاد والتوظيف، والسياسة الخارجية.

ب- الموقف من القضايا الداخلية

فيما يتعلق ببرنامج الرعاية الصحية وذلك تحت شعار” تخلص من برنامج أوباما كير وصوت للجمهوريين ” Get Rid of ObamaCare – Vote Republican” وفق قاعدة الطريق للحصول على ستة مقاعد بمجلس الشيوخ “ Road to Sixوحثوا الناخبين على التصويت لهم لتحقيق هدف رئيس يتعلق بحصول الجمهوريين على الأغلبية في مجلس الشيوخ، ويذكر بأن فوز مجلس النواب الأمريكي بأغلبية على قرار يتيح للسلطات القضائية توجيه إصبع الاتهام للرئيس الأمريكي، باراك أوباما، بسبب تجازوه لصلاحياته القانونية في الدستور.

فقد صوّت مجلس النواب الأمريكي فى أغسطس 2014 على أساس حزبي على مشروع قرار في وقت متأخر، يقضي بتوجيه اتهامات قضائية لأوباما فيما يتعلق بقضية إصلاح نظام التأمين الصحي في الولايات المتحدة الذي تم إقراره العام 2010 بحسبان قيام أوباما بإجراء تغييرات على قانونه الخاص الذي أطلقوا عليه تسمية “أوباما كير” والمتعلق بالرعاية الصحية مرتين مختلفتين دون تفويض من الكونجرس.

وينص الاتهام الموجه للرئيس بشأن “أوباما كير” على إرجاء أوباما مرتين موعد البدء بتطبيق مفاعيل هذا القانون على أرباب العمل. وكان مجلس النواب صوّت مرارا لصالح إلغاء هذا القانون، ولكن مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الديمقراطيون عرقل جهود إلغائه. كما لوح الجمهوريون بإمكانية عزل الرئيس جراء مخالفته للدستور حسب زعمهم.

ج-       الاقتصاد والتوظيف وعدم الوفاء بالوعود الانتخابية

وفى الأخير فقد هاجم الجمهوريون وعود الرئيس الأمريكي بخلق فرص عمل جديدة ودشنوا شعار حملتهم الانتخابية في هذا الصدد وفق مقولة Creating jobs? Nope, broken promises أي ” خلق فرص عمل: لا، وعود غير محققة” منتقدين عدم وفاء الرئيس أوباما وبرنامج الديمقراطيين بخلق 600 ألف وظيفة في قطاع وصناعة الغاز ومليون فرصة عمل جديدة في القطاع الصناعي، وذلك وفق حملته الانتخابية في عام 2012 وأنه لم يستطع إلا تحقيق 203 آلاف فرصة عمل في القطاع الصناعى، وبهذا فإنه لم يستطع على الرغم من هذا الوعد ومع قرب انتهاء ولايته الثانية تحقيق 797 ألف فرصة عمل كما وعد، بل انخفضت دخول المشتغلين بالقطاع الصناعي بنسبة 3.2%. وقد فند الجمهوريون مزاعم الديمقراطيين بأنهم خلقوا 10 ملايين فرصة عمل منذ عام 2008 في حين أن معدل النمو الحقيقيactual net gain هو 4.3 مليون فرصة عمل، حيث فقد الكثيرون وظائفهم في العام الأول لرئاسة باراك أوباما .

اتجه الجمهوريون لمهاجمة الديمقراطيين في مناطق نفوذهم أى الفئات ذات التصويت المرتفع للديمقراطيين، وفي مقدمتها النساء فقد رفع الجمهوريون شعار Democrats’ “War On Women” Message Falls Flat ودللوا على فقدان قدرة خصومهم على حشد النساء من خلال وقائع الانتخابات الماضية لمجلس الشيوخ، والتي حاول خلالها الديمقراطيون حشد النساء في مقابل زيادة التصويت من قبل الرجال للحزب الجمهوري في ولايات: أيوا، ولاية أركنسو وكولورادو وأن شعبية الديمقراطيين “بين النساء” تتراجع في السباقات الرئيسية التي يحتاج الديمقراطيون فيها أصواتهن.

د- الموقف من قضايا السياسية الخارجية

عمل الجمهوريون على رسم صورة ذهنية لدى الأمريكيين حول إخفاقات السياسة الخارجية للرئيس أوباما في مجال السياسة الخارجية والتأثيرات المحتملة جراء ذلك على الأمن القومي الأمريكي وفق شعار Obama’s Foreign Policy Is on the Ballot ” يوم الاقتراع هو المحك لسياسة أوباما الخارجية ” فهو من وجهة نظر الجمهوريين ما زال يركز على برنامجه الليبرالى على الرغم من شواغل الأمن القومي الأمريكي المتزايدة في مقابل رؤية مغايرة للسياسة الخارجية وللأمن القومي الأمريكي ترتكز على ضرورة استعادة دور الولايات المتحدة في القيادة An America That Leads: The Republican National Security Strategy for the Future وقد ركز الجمهوريون على مغازلة الناخب الأمريكي الذي يخشى الهجمات الإرهابية المحتملة بالتأكيد على أن سياستهم هي مهاجمة ودحر ليس فقط الأعداء بل الأعداء المحتملين Every potential enemy وفق إرثهم الخاص بالضربات الاستباقية وحددوا إستراتيجيتهم في: الحفاظ على التفوق العسكري والتقني، توظيف مجموعة كاملة من الخيارات العسكرية والاستخباراتية لهزيمة القاعدة وفروعها، عدم القبول بأي اتفاق للحد من التسلح يمكن أن يحد من حق الولايات المتحدة في الدفاع عن النفس على العكس من برنامج الديمقراطيين، النشر الكامل للدرع الصاروخي.

ه- العلاقات مع إسرائيل

كما أكد الجمهوريون مجددًا على العلاقات الخاصة التي تربط الولايات المتحدة وإسرائيل والتي لا ترتكز فقط على المصالح بل على القيم المشتركة، وذلك في إطار مزايدة على دور الديمقراطيين تجاه إسرائيل، وبالقطع اللوبي اليهودي والصهيوني في الولايات المتحدة وأن أمن إسرائيل في مقدمة اهتمامات الأمن القومي الأمريكي The security of Israel is in the vital national security interest of the United ولذا فإن الجمهوريين سيدعمون إسرائيل بكل السبل بما يضمن حقهم في إقامة ” دولة يهودية آمنة Jewish state with secure” ومعلوم أن هذا مفهوم صهيوني موسع وفضفاض يسمح لإسرائيل باغتصاب ما تشاء من أراض سواء كانت القدس كلها أو حتى الأراضي العربية المحـتلة في يونيو 1967 .

-الحزب الديمقراطي

كان الحزب الديمقراطي عند نشأته حزبا ذا توجه محافظ يعمل ضد الفدرالية. وكان في بداية تأسيسه يحمي مؤسسة العبودية قبل أن تندلع الحرب الأهلية الأمريكية سنة 1862.

وقد تحول الحزب الديمقراطي تحولا جذريا بعد انتخاب الرئيس فرانكلين روزفلت سنة 1932 من حزب محافظ ليصبح ممثلا للتيارات الليبرالية ومناصرا للنقابات العمالية وللتدخل الحكومي في الاقتصاد. ويصنف على أنه من أحزاب الوسط.

أ‌-       الموقف من القضايا الداخلية

لقد قاد الديمقراطيون انتخابات التجديد للكونجرس وفق مقولة الحزب الافتتاحية ” نحن الديمقراطيون نعتقد أننا معا أكبر مما نحن عليه في منطقتنا، أن هذا البلد ينجح عندما يحصل الجميع على دخول عادلة، وعندما يضطلع الجميع بتنفيذ واجباتهم بعدالة وفق قواعد عادلة وموحدة للجميع. حزبنا بقيادة الرئيس أوباما، يركز على بناء اقتصاد أن يستمر، الاقتصاد الذي يرفع جميع الأمريكيين. هذا هو السبب الديمقراطيين يعملون على النهوض بقضايا مثل خلق فرص العمل، والتعليم، والرعاية الصحية، والطاقة النظيفة ” وانخرط أوباما لدعم أعضاء حزبه بمقولة ” ادعمني لنكمل ما بدأناه ” مؤكدين على الإرث التاريخي للحزب بالقول ” منذ أكثر من 200 سنة والحزب يناضل من أجل الحقوق المدنية والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي وحقوق العمال، وحقوق المرأة وبناء اتحاد أكثر ارتباطًا “.

جدد الديمقراطيون في هذه الانتخابات التأكيد على محاور برنامج الرئيس أوباما التي دشنها منذ عام 2010 وتم التأكيد عليها 2012 والآن هي: الرعاية الصحية health care أنه ومنذ قرن من الزمان ويناضل الديمقراطيون من أجل برنامج شامل للرعاية الصحية لكل الأمريكيين health care available to all Americans   وأنهم استطاعوا على الرغم من المعارضة الجماعية للجمهوريين من تمرير القانون الذي يسعى بحلول عام 2014 لإصلاح النظام الصحي والقضاء على جميع أشكال التمييز عن الظروف القائمة من قبل، وبدء عملية توسيع نطاق تغطية التأمين الصحي لعدد إضافي يصل لـ 32 مليون أمريكي، وتوفر أكبر خفض الضرائب للطبقة المتوسطة للحصول على الرعاية الصحية في التاريخ.

وأكد الديمقراطيون على أن الرئيس أوباما تسلم مقاليد السلطة فى ظل أزمة مالية واقتصادية وكان الاقتصاد الأمريكى يفقد 700 ألف وظيفة فى الشهر إلا أنه الآن في وضع نمو وتعافٍ و يعمل الرئيس أوباما والديمقراطيين الآن من أجل تعزيز الاقتصاد الأمريكي أبعد من ذلك وخلق فرص عمل للعمال الأمريكيين بإنهاء الثغرات الضريبية للشركات، وتقديم تخفيضات ضريبية للشركات الصغيرة، والاستثمار في اقتصاد الطاقة النظيفة، وخلق فرص عمل وإعادة بناء البنية التحتية”.

ويدلل الديمقراطيون على نجاح برنامج “أوباما كار” بأنه تم إصلاح برنامج سوق التأمين الصحي. والتحق بهذا البرنامج في عام 2014 نحو ثمانية ملايين أمريكي، ومن المتوقع أن يرتفع ذلك العدد ليصل في العام المقبل إلى 13 مليونا. وإذا أضفنا أثر توسع برنامج المساعدة الطبية إلى ذلك العدد، فسنجد أن عدد غير المؤمنين تقلص عشرة ملايين عما كان عليه في العام الماضي، ومن المتوقع أن يقل عددهم في العام المقبل. ولا مجال أمام الأرقام سوى الزيادة.

ب- الموقف من قضايا السياسة الخارجية والأمن القومي

لقد جدد الديمقراطيون ما يرونه من إنجازات للرئيس أوباما فى سحب القوات الأمريكية من العراق، ووضع حد للحرب في العراق، تأمين الحدود الأمريكية، تدشين اتفاقية جديدة للحد من التسلح مع روسيا START Treaty، ضخ استثمارات في رفع مستوى تسليح الجيش الأمريكي وخاصة في المجالين المخابراتي والمعلوماتي وتدعيم علاقات الولايات المتحدة في بناء علاقات وثيقة مع حلفائها الذين يشاركونها نفس القيم، وذلك من خلال استعادة صورة الولايات المتحدة في العالم في إشارة إلى السلبيات التي خلفها بوش الأب والابن والجمهوريين إبان فترات رؤسائهم على صورة الولايات المتحدة وشبكة تحالفاتها.

إن إبراز الديمقراطيين لتلك الإنجازات إنما يتأتى في سياق إظهار نجاح استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي أعلنها الرئيس أوباما في عام 2010 والتي يرونها بفعل الإنجازات السابقة أكثر فاعلية من استراتيجيتي الأمن القومي الأمريكي لخصومهم أعوام 2002 و2006 فقد احتوت استراتيجية أوباما للأمن القومي التي أطلقها على عدد من المتغيرات أسهمت في تحقيق تلك الإنجازات وفي مقدمتها التحول العسكرة شبه كاملة لمفاهيم الأمن القومي الأمريكي، وسيادة رؤية وحيدة بأن القوات المسلحة تشكل رأس الحربة في المواجهة مع الإرهاب وبرز توجهات استراتيجية لا تؤمن بقيمة الأصدقاء أو الحلفاء، وإنما بإمكان إنجاز المهمة عبر العمل الانفرادي، ومن دون الحاجة لأقرب حلفاء الولايات المتحدة؛ فالمبالغة في قيمة الأبعاد العسكرية للأمن القومي، على نحو لم يعد فيه مجال تقريبًا للحديث عن الأمن بالمنظور الشامل الذي يتضمن الأبعاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية وحتى الطبيعية وفق رؤية الديمقراطيين تبين أنها قاصرة عن تحقيق – ليس فقط الأمن بالمعنى الشامل – الأمن في أضيق معانيه العسكرية، التي قد تشير إلى منع وقوع الحرب أو النجاح في إنهاء الحرب إذا بدأت.

وتأسيسًا على ما سبق فقد أعاد الديمقراطيون للناخب الأمريكي معطيات نجاح استراتيجيتهم ونتائجها المشار إليها سلفًا وهي تلك الاستراتيجية التي حملت أبعادًا جديدة تمثلت في أنها غلبت الحقائق أو الواقع وجعلته هو الأساس في نظرتها للأمن القومي، وأكدت على رؤية العالم “كما هو لا وفق ما نسعى إليه” بعد أن كانت تلك الرؤية فيما سبق متأثرة بالجانب الأيديولوجي بما جعلها تعلي من العمل المنفرد بخلاف رؤية الديمقراطيين للأمن القومي التي أعلت من شأن العمل الجماعي مع الحلفاء، وفي ظل المؤسسات الدولية لتخفيف الأعباء عن كاهل المواطن الأمريكي، قدمت رؤية متكاملة لدور الشركاء التقليديين والمحتملين والأعداء وفق مفهوم “الربط الشامل” Comprehensive Engagement، كما تجلت تلك الاستراتيجية في رؤية شاملة للأمن لا ينفصل في ظلها الأمن الوطني الداخلي عن الأمن القومي، وتتعامل في ظلها كل المؤسسات في تناغم طبيعي، في ظل استراتيجية أشمل ترتكز على العلاقة العضوية بين القوة الداخلية والأمن القومي وتكريس التعاون بين الأجهزة من خلال بناء منظومة أمن قومي شاملة، لا يجري التعاون في ظلها بين أجهزة الأمن القومي الأمريكية فقط، وإنما بين كل أركان الحكومة لضمان تكامل عناصر القوة القومية جميعها فيما يسمى منهج التعاون الحكومي الشامل Whole of Government Approach، والذي يتضمن تكامل كل أدوات القوة الأمريكية.

ولذا فقد تباهى الديمقراطيون بمقولات أوباما ” أنه في المدى البعيد، فإن “رفاهية الشعب الأمريكي سوف تحدد قوة أمريكا في العالم، خصوصا في وقت يرتبط فيه اقتصادنا بالاقتصاد العالمي، ورخاؤنا يمثل منبع قوتنا” .

وفى الأخير فقد أكد الديمقراطيون على أن استراتيجيتهم للأمن القومي لم تكلف الشعب الأمريكي أعباءً بشرية ومادية على غرار استراتيجيات الجمهوريين التي ارتكزت على مفهوم الحرب الاستباقية” preemption ومع ذلك لم تقيد حق الولايات المتحدة في شن حروب للدفاع عن مصالحها بل جعلته خيارًا أخيرًا بعد أن كانت الخيار الأول والوحيد.

ج-     إستراتيجية أوباما والتحول نحو شرق آسيا والباسفيك

إن تصاعد اهتمام الرئيس أوباما بمنطقة شرق آسيا والباسفيك إنما يمثل استمرارًا للاستراتيجية الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والمتمثلة في خلق نظام عالمي تتزعمه الولايات واستمرار تلك السيطرة الجيوسياسية إلا أن التغير الذى دشنته استراتيجية الديمقراطيين وأوباما فى تلك المنطقة إنما تمثل التحول التدريجى من اتباع ما يمكن تسميته بسياسة الاحتواء الاقتصادي إلى التركيز بشكل أكبر على الأبعاد السياسية والعسكرية وتطوير شبكة علاقاتها بدول المنطقة.

لقد تجلت استراتيجية أوباما ومتغيراتها تجاه تلك المنطقة مع إعلانه عن زيادة الوجود العسكري الأمريكي في جنوب شرق آسيا، خلال زيارته لأستراليا في نوفمبر 2011، التي أعقبت مشاركته في قمة زعماء رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) في مدينة بالي الإندونيسية، ثم صدور التوجيه الاستراتيجي لوزارة الدفاع الأمريكية في يناير 2012 بعنوان “الحفاظ علي القيادة العالمية ..أولويات الدفاع للقرن الحادي والعشرين”، الذي أكد على حيوية الإقليم للمصالح الاقتصادية والأمنية الأمريكية، وضرورة تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع حلفاء الولايات المتحدة وذلك في ضوء ما دشنه أوباما من محددات جديدة للسياسة الخارجية تجاه المنطقة منذ العام الأول لولايته الأولى بتوقيع معاهدة الصداقة والتعاون مع رابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان) في يوليو 2009، كتوطئة “لعودة الولايات المتحدة إلى جنوب شرق آسيا.

وفي ضوء ما سبق تحول هذا الاهتمام لأطر عملياتية ومؤسسية للانخراط الأمريكي في قضايا الأمن والتعاون الاقتصادي مع دول جنوب شرق آسيا عبر استضافة الولايات المتحدة لاجتماع منتدى التعاون الاقتصادي لمنطقة آسيا والمحيط الهادي في جزر هاواي الأمريكية، في منتصف نوفمبر 2011، والإعلان خلالها عن مبادرة للشراكة عبر المحيط الهادي Trans – Pacific Partnership (TPP ثم استحداث أول حوار استراتيجي ثلاثي بين الولايات المتحدة واليابان والهند في 19 ديسمبر 2011 في ظل توجه الإدارة الأمريكية بأن القرن الحادي والعشرين هو قرن منطقة المحيط الهادي وجنوب شرق آسيا، حسب تعبير وزيرة الخارجية الأمريكية.

وقد تمثلت دوافع تلك الاستراتيجية الأمريكية ومسبباتها في عدد من المتغيرات وهي:

– الصعود الصيني وتزايد مؤشرات القوة الاقتصادية والعسكرية بما هدد المصالح الأمريكية وحلفاءها في المنطقة ناهيك عن الزخم في العلاقات الصينية الروسية الذي اتجه لمنحنى تصاعدي، والذي بدأ بتشكيل منظمة شنغهاي للتعاون منذ عام 1996 كتحالف مضاد لحلف الناتو للتصدي لاختراق الحلف للمجال الحيوي الروسي وتمدده نحو شرق أوربا. ورغم أن هذا التحالف بدأ اقتصاديًا فإنه تحول من منتدي اقتصادي إلى تحالف شبه عسكري ناهيك أيضًا عن تمدد هذا التحالف ومنظمة شنغهاي مع أواخر عام 2011، في القارة الآسيوية جنوبا بضم كل من الهند وباكستان وكوريا الشمالية، ومنحها العضوية الكاملة بدلا من صفة مراقب، بهدف احتواء النفوذ الأمريكي في القارة الآسيوية مما عزز الهواجس الأمريكية جراء تحالف دولي مناوئ لمصالحها في تلك المنطقة الجيوإستراتيجية والجيو اقتصادية وخاصة ما تمثله منطقة بحر قزوين في قلبها من امكانات اقتصادية هائلة، ولذا اتجهت إدارة أوباما لدعم وجودها العسكري، وتوطيد منظومة تحالفاتها الإقليمية في تلك المنطقة.

– ضمان حرية الملاحة وحركة الإجارة الدولية بحسبان أن اشتعال الصراعات في تلك المنطقة وخاصة بين الدول المطلة على بحر الصين الجنوبي وفي المقدمة منها الصين وفيتنام والفلبين وتايوان يؤثر على المصالح التجارية للولايات المتحدة، وقد اكتسبت الاستراتيجية الأمريكية في هذا الصدد زخمًا بفعل المواجهات العسكرية المتكررة بين الصين وفيتنام يضاف إلى ذلك تصاعد محاولات الصين لإثبات سيادتها على بعض الجزر وإحكام قبضتها على الملاحة في بحر الصين الجنوبي بإقامة قاعدة بحرية استراتيجية في جزيرة هاينان، ومنع إقامة أي مناورات عسكرية في البحر الأصفر وبحر الصين الجنوبي.

– مكافحة الإرهاب واستـمرار نشاط عـدد من الشبكات الإرهابية والمـتشددة في جنوب شرق آسيا.

– ضبط الانتشار النووي فى المنطقة بعد اتجاه عدد من دولها نحو امتلاك السلاح النووي وسباق التسلح على غرار على كوريا الشمالية.

ولذا فقد تمثلت الاستراتيجية في منطقة آسيا والباسفيك فى تفعيل عدد من الإجراءات وأولها، تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة ممثلًا في القواعد العسكرية في اليابان، وكوريا الجنوبية، وبعض الجزر في المحيط الهندي، ووجودها العسكري في كوريا الجنوبية، واليابان وأستراليا، وعلاقاتها بسنغافورة والفلبين. أما ثانيها فقد تمثل في توسيع التحالف العسكري الإقليمي ليشمل دولا جديدة من غير الحلفاء التقليديين، بالإضافة للحلفاء التقليديين لواشنطن مثل فيتنام وميانمار. أما ثالث تلك الإجراءات فقد تمثل في تكوين نواة لتحالف إقليمي جديد مناوئ للصين بتدشين حوار إستراتيجي ثلاثي بين الولايات المتحدة واليابان والهند في ديسمبر 2011، وأخيرًا الاتجاه للشراكة الإقليمية والتعاون الاقتصادي مع دول المنطقة والكيانات الاقتصادية والتجمعات ذات الصلة ومنها الآسيان، ومنتدي التعاون الاقتصادي في آسيا والمحيط الهادي واستخدام دبلوماسية التنمية والمساعدات الاجتماعية لدعم التعليم والصحة والبرامج البيئية في كـمبوديا، ولاوس، وفيتنام .

ثانيًا: نتائج الانتخابات الأمريكية

كشفت نتائج انتخابات الكونجرس عن النتائج الآتية بالنسبة لمجلس الشيوخ والنواب وحكام الولايات حيث جرى التنافس على تجديد كامل مقاعد مجلس النواب 435 مقعدا، و36 مقعدا لمجلس الشيوخ من أصل 100 هم عدد أعضاء المجلس، وانتخاب 36 حاكم ولاية من 50 ولاية أمريكية.

–   الحزب الجمهوري تمكن الجمهوريين من الحصول على نحو 52 مقعدًا في مجلس الشيوخ حيث زادوا عدد مقاعدهم من 45 إلى 52 مقعدًا، فيما لا تزال نتائج انتخابات مجلس الشيوخ عالقة في لويزيانا حيث ستجري دورة ثانية في 6 ديسمبر المقبل. أما في مجلس النواب فقد حصوا على 243 مقعدًا، وبالنسبة لحكام الولايات فقد حصلوا على 31 حاكمًا ولم تحسم النتائج في كونيتيكت وفيرمونت وألاسكا.

والجدير بالذكر أن الجمهوريين انتزعوا مقاعد الديمقراطيين في مجلس الشيوخ في كل من نورث كارولينا وكلورادو وإيوا وغرب فيرجينيا وأركنساس ومونتانا وثاوث داكوتا، ليستعيدوا أغلبيتهم داخل مجلس الشيوخ لأول مرة منذ 8 أعوام.

– الحزب الديمقرطي تمكن من الحصول على 45 مقعدًا من مجلس الشيوخ بينهم 2 من المستقلين، و179 في مجلس النواب، وبالنسبة لحكام الولايات فقد حصلوا على منصب 16 حاكم ولاية.

وترجع أسباب فوز الجمهوريين بالأغلبية المشار إليها بالنسبة للكونجرس ولحكام الولايات لما سبق أن أشير إليه فيما يتعلق ببرامج الحزبين وتعويل الجمهوريين على فشل إدارة أوباما كنموذج صارخ لفشل الديمقراطيين في السياسة الخارجية وأيضًا الداخلية، وإذا كان صحيحًا أن الأمريكيين لا يهتمون بالسياسة الخارجية بقدر اهتمامهم بالسياسة الداخلية إلا أن الجمهوريين استطاعوا عبر إدارة المعركة الانتخابية بشكل احترافي، وعلمي، وعملي في الولايات الأمريكية إقناع الناخب الأمريكي بمدى الإخفاق الخارجي لإدارة أوباما في عدد من القضايا الخارجية التي أثرت بشكل كبير على مجمل سياسات الداخل الأمريكي، حتى إن معظم استطلاعات الرأي التي استبقت الانتخابات الأخيرة أشارت إلى أن ما يقرب من سبعة من بين كل عشرة أمريكيين لا يؤيدون الاتجاه الذي تسير فيه البلاد، وأن أكثر من 60 بالمائة من الشعب الأمريكي لا يؤيدون سياسات الرئيس الأمريكي باراك أوباما.

وقد تمحورت ميكانزيمات الجمهوريين في التركيز على قضية رئيسة مفادها فقدان أوباما لخصائص القيادة الواثقة للولايات المتحدة، المعتبرة زعيمة العالم، سواء أكان في الداخل أم في السياسة الخارجية حيث اتفقت كل التقديرات على أن أوباما فشل فشلا كبيرًا في السياسة الخارجية، وقد تبدى ذلك في انفجار الشرق الأوسط الأخير بسيطرة تنظيم “داعش” على مساحات كبيرة من العراق وسوريا، وسبق ذلك فشل أوباما في ضبط سياسات نوري المالكي في العراق التي أدى معظمها إلى انفجار البلاد، وقبلها عدم تصدي الولايات المتحدة لنظام بشار الأسد الذي استخدم السلاح الكيميائي وضرب عرض الحائط بالخط الأحمر الذي رسمه أوباما قبلها بأشهر، محذرًا الأسد من أن واشنطن ستوجّه ضربة إلى النظام في حال استخدامه السلاح المذكور، ناهيك عن ملف الأزمة الأوكرانية وضعف ردة الفعل الأمريكية على اجتياح القوات الروسية لمنطقة القرم واحتلالها.

وتأسيسًا على ما سبق فقد ركز الجمهوريون على أن هذا الفشل الخارجي وافتقاد الولايات المتحدة لخصائص القيادة السياسية والاقتصادية في العالم سيؤدي لاستمرار مسلسل الفشل الداخلي، فعدم قدرة أوباما على حسم ملف الإرهاب والتطرف وتزايد رقعة انتشاره بات بالنسبة للأمريكيين ناقوس خطر قد تمتد آثاره للداخل الأمريكي، كما أن استراتيجيته تجاه مناطق جيوإسترايجية واقتصادية كمنطقة آسيا والباسفيك عززت مؤشرات تنامي القوى والقدرة الاقتصادية للاعبين اقتصاديين منافسين للولايات المتحدة وفي مقدمتها الصين وروسيا، هذا وقد تضافر هذا مع عدم وفاء بوعود انتخابية خاصة بالتوظيف ونمو الاقتصاد الأمريكي واقتناع الناخب الأمريكي بمحدودية أدوات إدارة أوباما في تحقيق نقلة نوعية في تلك القضايا ناهيك أيضًا عن ملف الهجرة غير الشرعية والتأمين الصحي وغيرها من الملفات الداخلية.

وقد أشير من قبل لأسباب أخرى تتعلق بقصور الحزب الديمقراطي عن إدراك الواقع المتغير والاهتمامات الجديدة للناخب الأمريكي حتى إن أباما ونائب الرئيس كانا يؤكدان قبيل الانتخابات بأن حزبهم سيستمر في حصد الأغلبية في مجلس الشيوخ ولن يفقد مقاعده، فكانت هناك ثقة مفرطة لدى للحزب الديموقراطي لم تجد ما يعززها لا على مستوى الإنجازات الرئاسية ولا على مستوى البرنامج الحزبي وأيضًا على مستوى إدارة العـملية الانتخابية برمتها؛ فدخل الحزب الديمقراطي الانتخابات وكأنها محسومة له استنادًا فقط ولا غير كما أشرنا على ” شرعية وإنجازات الرئيس”.

وفي الأخير ورغم ارتفاع تكاليف الانتخابات التي بلغت وفق التقديرات الأمريكية 4 مليارات دولار والإنفاق شبه المتكافئ للحزبين فإن تقديرات عديدة أشارت لإنفاق أكبر وربما غير مرئي للحزب الجمهوري من مصادر عدة.

ثالثًا : تأثير نتائج الانتخابات على السياسة الأمريكية

إن تأثير نتائج الانتخابات التجديدية للكونجرس الأمريكي التي أجريت منذ أيام على السياسة الأمريكية تتصل بعدد من المحددات الداخلية والخارجية . أما من حيث المحددات الداخلية فهي تنصرف للعلاقات المتبادلة بين سلطة تنفيذية على رأسها الرئيس أوباما ووزراؤه أو سكرتاريته وهم من الحزب الديمقراطي الذي فقد الأغلبية النيابية في الكونجرس بمجلسيه والكونجرس كسلطة تشريعية بات يهيمن عليه الجمهوريون.

رغم أن النظام السياسي الأمريكي هو نظام رئاسي فإن هذا النظام وإن كان يمنح الرئيس سلطات إلا أنه يحد من هذه السلطات غير المطلقة وفق الدستور الأمريكي فعلى سبيل المثال إذا كان الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ويمتلك حق نقض مشروعات القوانين التي يرفعها الكونجرس له إلا أن الأخير يستطيع بأغلبي الثلثين لكل مجلس أن يتجاوز حق النقض أو الرفض الرئاسي للقانون ناهيك عن أن عدم تمتع الرئيس بأغلبية فى أى من المجلسين أو كليهما لايوفر له المكنة والسرعة اللازمين لاكتساب الغطاء التشريعي سواء لقراراته المتعلقة بتعيين كبار المسئولين المدنيين والعسكريين كالسفراء والمفوضين ناهيك عن عدم قدرته على توفير السرعة والمرونة اللازمة لتمرير مجمل سياساته داخليًا وخاريجيًا.

وما أشبه اليوم بالبارحة، فاستقراء حقائق التاريخ الحديث يشير ويوضح ما سبق ففي انتخابات التجديد النصفي للكونجرس عام 2006 في ولاية بوش الثانية سيطر الديمقراطيون على مجلس الشيوخ، وظل الرئيس الجمهوري على قمة السلطة التنفيذية فعاقب الناخبون بوش وحزبه الجمهوري على إداراتهم للحرب في العراق، ووجد بوش نفسه مجبرًا على أن يواجه حالة لم يعتد عليها قط‏،‏ وهي حالة التعايش السياسي بين سلطة تنفيذية بيده وسلطة تشريعية بيد خصومه‏ واضطر بوش الذي قضى نحو‏80%‏ من فترة رئاسته متمتعا بالسلطة المطلقة‏،‏ حيث كان مسيطرًا على السلطة التشريعية والتنفيذية في ذات الوقت للتعايش مع خصومه خلال العامين الأخيرين من ولايته الثانية.

وقد شهدت الولايات المتحدة حالات عديدة من هذا القبيل نتج عنها مفهوم البطة العرجاء‏Lame Duck President‏ الذي يصف وضع الرئيس عندما يفقد القدرة على التحرك الحر نتيجة سيطرة معارضيه على مجلسي الكونجرس أو أحدهما‏، وهو الحال الماثل حاليًا بعد سيطرة الحزب الجمهورى على الكونجرس‏،‏ مما يفرض على الرئيس الجمهوري التعايش القائم على نوع من التوازن والتفاهم مع الجمهوريين ‏ومثلما اتجه بوش عقب الانتخابات لعزل وزير الدفاع ‏دونالد رامسفيلد فإن أوباما والديمقراطيين سيضطرون لاتخاذ قرارات شبيهة.

أما فيما يتعلق بمدى تأثير الانتخابات الأمريكية على سياستها الخارجية وخاصة إزاء عدد من القضايا وفي مقدمتها إيران وبرنامجها النووي، والوضع في سوريا ومجابهة داعش والتيارات المتطرفة، وعلاقات أمريكا بحلفائها في الشرق الأوسط، علاقات أمريكا بحلفائها في الشرق الأوسط فإن فوز الجمهوريين وتمتعهم بأغلبية في مجلس الشيوخ يؤثر بشكل ما على الملفات المشار إليها.

1- الملف النووي الإيراني والعلاقات الأمريكية – الإيرانية

من المعلوم موقف الرئيس أوباما والديمقراطيين من إيران وملفها النووي ومحاولة استخدام وتغليب الأبعاد الدبلوماسية والاقتصادية في محاولة الضغط على إيران، وأن هذا النهج لا يلقى قبولًا من الجمهوريين بل من بعض أعضاء مجـلس الشيوخ الأمريكي من الديمقراطيين أنفسهم فعلى سبيل المثال لا الحصر صوّت 16 سيناتورًا من جملة 59 في مجلس الشيوخ نهاية عام 2013على مشروع قانون لفرض مزيد من العقوبات على طهران، وهو ما عارضه الرئيس في يناير 2014 مع بدء جولة مفاوضات جـديدة مع طهران في إطار مجموعة 5+1 .

ويبقى التساؤل ما سيناريوهات تغير هذا التوجه الأمريكي في ضوء متغيرين أحدهما، هو تزايد قوة الجمهوريين في مجلس الشيوخ، والآخر هو انقضاء ثماني جولات من الحوار مع طهران وقرب انتهاء المدة المحددة للاتفاق النووي الشامل بين إيران ومجموعة 5+1 في 24 نوفمبر2014 دون التوصل لهذا الاتفاق منذ بدء هذه الجولات في نوفمبر 2013، وفي القلب منه هل يستطيع الرئيس الأمريكي إن تم التوصل لاتـفاق مع طـهران تمـريره بمعزل عن مجلس الشيوخ مــــن الناحـية السياسيـة والدســتوريـة؟

السيناريو الأول

تشير التقديرات المحتملة تجاه توجه مغاير وجديد تجاه الملف النووي إزاء المتغيرين السابقين إلى سيناريوهين مترابطين على المدى القريب، وفي المستقبل القريب وقد يشكلان وحدة عضوية في توجههما العام؛ فأما السيناريو القريب فيستند إلى الاتجاه نحو قيام الكونجرس وخاصة مجلس الشيوخ لمزيد من العقوبات الشاملة على طهران لتحقيق أهداف متصلة ببرنامجه النووي وبسياستها تجاه المنطقة والمصالح الأمريكية؛ فمن ناحية برنامجها النووي فإن مجلس الشيوخ والجمهوريين لن يوافقوا على أي اتفاق مع طهران لا يحقق رضوخها الكامل لمتطلبات الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومجموعة 5+1 من التفتيش الدوري والفعال والمفاجئ على هذا البرنامج والتمكن من دخول كل المنشآت النووية وتحجيم تسارع وتيرة بناء هذا البرنامج وشل حقيقي ومؤكد لقدرة طهران على التوصل للقنبلة النووية حتى في المستقبل البعيد prevent Iran from building and possessing nuclear weapons capability ناهيك عن توجه مجلس الشيوخ والديمقراطيين لضمان تحقيق هذه الآليات وغيرها لإرغام إيران مبدئيًا لتحقيق عدد من المحددات المتصلة بالوضع في العراق وسوريا، ومنطقة الخليج العربي والمصالح الأمريكية الماثلة في تلك المناطق الجيوإستراتيجية.

إذن هل يستطيع الرئيس الأمريكي التوصل لاتفاق رغم ما سبق؟ بدايةً من المؤكد أن أوباما لن يستطيع الاستمرار في موقفه تجاه عدم تصعيد العقوبات على طهران لحفزها على الانخراط في مجموعة 5+1، الأمر الثاني إذا اتجه أوباما للموافقة على أي اتفاق مع طهران في ضوء المجموعة المشار إليها، وتمرير هذا الاتفاق بحسبانه ليس معاهدة بين دولتيين تتطلب موافقة ثلثي مجلس الشيوخ وفق رؤية الإدارة الأمريكية فإنه يحتاج لرفع أو تخفيف العقوبات المفروضة على إيران لتوافق بداية على الاتفاق ولتنفذه إذا وافقت عليه وهو أمر غاية في الصعوبة، فإذا كانت معظم العقوبات المفروضة على إيران من قبل الكونجرس تعطي الرئيس أحقية تعليقها إن أراد إلا أن الكونجرس وخاصة مجلس الشيوخ يستطيع تمرير قانون يمنع أوباما من استخدام حقه في تعليق العقوبات، فإذا استخدم الرئيس حقه في فرض فيتو رئاسي على هذا المشروع بقانون فإنه لا يستطيع أن يتغلب على تصويت قيام مجلس الشيوخ بالتصويت بأغلبية الثلثين فعندما يتعلق الأمر بإيران، فليس من الصعب إيجاد مجموعة من الديمقراطيين مستعدين للتصويت ضد الإدارة الأمريكية بما يعني أن أوباما لن يتجه لإقرار اتفاق مع طهران بشكل متعجل، ولذا فقد سارع أوباما بعد ظهور نتائج انتخابات الكونجرس للقول بأنه يفضل ” عدم التوصل إلى أي اتفاق مع طهران بدلا من اتفاق سيئ” وأن الولايات المتحدة قدمت للإيرانيين ” إطارا يسمح لهم بتلبية احتياجاتهم السلمية في مجال الطاقة” وأضاف “الطريق مفتوح أمامهم لتقديم ضمانات للمجتمع الدولي.. ما يسمح لهم بالخروج من نظام العقوبات”. بما يعني أنه لا رفع للعقوبات دون تقديم ضمانات إيرانية مؤكدة للولايات المتحدة والمجتمع الدولي بما يعني أيضًا أن أوباما اتجه لمقاربة في هذا الملف مع الجمهوريين مبكرًا حتى لا يصطدم بهم في الكونجرس.

السيناريو الثاني:

أما السيناريو الثاني المرتبط بالسيناريو الأول فهو أن تكون الترتيبات المشار إليها في السيناريو الأول توطئة لعمل عسكري نوعي ولعمليات نوعية في المستقبل ( بداية المدة الرئاسية الجديدة 2016 ) فمنذ انتخابات التجديد النصفي للكونجرس عام 2012 وهناك تصاعد للأصوات المنادية بالعمل العسكري ضد طهران ليس فقط من جانب الجمهوريين بل من بعض الأصوات في الحزب الديمقراطي في فشل العقوبات الاقتصاية منذ عام 1979 في تحقيق غاياتها تجاه إيران ناهيك عن احتمالية تعاظم عمليات التجسس على البرنامج الإيراني واستهداف العلماء المرتبطين به ومحاولات تخريب البرنامج واختراقه كما حدث من قبل حيث تم العمل على اختراق الفيروس (ستاكس نت) إلى أجهزة الحواسب الإيرانية في المنشآت النووية المهمة كمنشأة ناتانز لتخصيب اليورانيوم، وهو ما تسبب في تعطل 30.000 من أجهزة الطرد المركزية في هذه المنشأة واغتيال العالم النووي مجيد شهرياري، لذا سيوفر مجلس الشيوخ وسيضغط ويعمل على تمرير الاعتمادات المالية لتنفيذ هذه التوجهات النوعية المراد تعزيزها

2- الوضع في سوريا ومجابهة داعش والتيارات المتطرفة

إن الوضع في سوريا وارتباطه بعاملين رئيسيين ربما متناقضين وهما: تعاظم دور تنظيم داعش في الأراضي السورية وتوافر الملاذ الأمن للتنظيم للتمدد في العراق وسوريا معًا وتهديد المنطقة العربية والشرق الأوسط، أما العامل الثاني فهو كيفية مجابهة هذا التظيم دون زيادة ميزان القوى لصالح الرئيس الأسد.

ومن هنا يمكن تفهّم الرؤى المتباينة التي كانت داخل الإدارة الأمريكية قبيل انتخابات الكونجرس التي جرت منذ أيام بشأن الخيارات المتاحة لها في سوريا، وما يجب عليها القيام به حيال (داعش) هناك، فهي تريد إضعاف التنظيم دون أن يؤدي ذلك إلى تقوية الأسد، ودون أن تنجر الولايات المتحدة إلى التورط في الحرب الأهلية السورية وإفصاح الإدارة الأمريكية بداية عن عدم توافر إستراتجية للتعامل مع داعش ثم اكتفائها بطلعات وغارات جوية استهدفت التنظيم داخل العراق مع محاولة حشد لحلف دولي لمعاونة الولايات المتحدة مما كان سببًا لفوز الجمهوريين في ضوء انتقادهم لأوباما وللديمقراطيين تجاه هذا الملف المترابط ورفع مقولة ” ضعف الديمقراطيين في مواجهة الإرهاب ” فإذا كان ذلك هو الماثل قبل فوز الجمهوريين فما سيناريوهات وتجليات حدوث تغير ما في توجه الولايات المتحدة تجاه سوريا وتنظيم داعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية المرتبطة بالشأن السوري.

د. محمود صدقي

المركز العربي للبحوث و الدراسات