ترامب والمؤسسة السياسية الأميركية

ترامب والمؤسسة السياسية الأميركية

عندما يتأخر ركاب إحدى الطائرات في التوجه إلى البوابة التي تقلع منها الطائرة، يُوجه إليهم نداء أخير عبر الإذاعة الداخلية للمطار، ويوصف هذا النداء بأنه أخير لإخلاء مسؤولية شركة الطيران عن أي عواقب تترتب على تخلف بعض الركاب عن الطائرة حال إقلاعها، ويمكن أن نجد هذا المعنى في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، إذ بدت استجابة قطاع كبير من الناخبين لرسائل المرشح الجمهوري دونالد ترامب منذ بداية السباق الانتخابي بمثابة «نداء أخير» إلى المؤسسة السياسية التي تجمدت وانغلقت وفقدت القدرة على التواصل معهم.

غير أن المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون، التي تُعد من أركان هذه المؤسسة، وتحظى بتأييد معظم النخب الأميركية، تجاهلت هذا «النداء الأخير»، ولم تغير شيئاً في خطابها ورسائلها وأساليب تواصلها مع الفئات الغاضبة، خصوصاً العمال المتضررين من انتقال صناعات كبيرة إلى الخارج في الولايات التي تشهد تراجعاً اقتصادياً شديداً، وهذه هي الولايات التي كان لها أثر قوي في حسم النتائج، مثل بنسلفانيا وأوهايو وويسكونسن وأيوا.

لم يدرك قادة حملة هيلاري الانتخابية جدية النداء وإلحاحه، ولم ينتبهوا إلى مغزى التفاف نسبة معتبرة من الأميركيين حول مرشح لم يستطع كثير من قادة الحزب الذي ترشح تحت رايته (الجمهوري) أن يتحملوا مواقفه الحادة ولهجته العدوانية. لم يفهموا أن غير قليل ممن التفوا حوله لا يعنيهم من مواقفه إلا هجومه على المؤسسة السياسية، وأن تأييدهم له إنما يُعبِّر عن إحباط بلغ ذروته بعد تجاهل نداءاتهم السابقة، فليس كل من اقترعوا لمصلحة ترامب يؤيدون مواقفه. بعضهم يدركون أن رئاسة أكبر دولة في العالم تفوق قدراته، وأنه ليس ملماً بكثير من القضايا الداخلية والخارجية.

وسعى هؤلاء إلى توجيه نداء أخير قوي وزاعق إلى الطبقة السياسية التقليدية لعلها تفيق وتدرك ما آل إليه حال النظام الأميركي، ولما ذهب هذا النداء أدراج الرياح، على مدى أربعة شهور منذ تسمية ترامب مرشحاً رسمياً في مؤتمر الحزب الجمهوري وحتى آخر أكتوبر الماضي، أخذ الفرق يضيق بين المرشحين في استطلاعات الرأي العام، وعندما لم تفهم هيلاري مغزى هذا التغير، فاض الكيل بالغاضبين على المؤسسة السياسية، فتوجهوا إلى صناديق الاقتراع وانتخبوه ليس اقتناعاً به، ولكن نكاية في تلك المؤسسة التي تجاهلت على مدى سنوات طويلة مؤشرات متزايدة ومتراكمة على جمود النظام السياسي، وانغلاقه على نفسه، وافتقاره إلى التجديد الذي يسمح بتوسيع نطاق المشاركة ويتيح لأجيال وأفكار جديدة النفاذ إليه، الأمر الذي يدعم شرعيته.

لقد بنى ترامب حملته الانتخابية على تقديم «نموذج» مختلف تماماً لجذب الغاضبين على هذا الجمود، وكانت رسالته الأساسية من شقين: أولهما أن النظام السياسي فاسد ومغلق، وأن الوقت حان لإصلاحه، والثاني أن واشنطن (العاصمة الفيدرالية) لم تعد معبرة عن المجتمع الأميركي، وأن هذا هو وقت تحقيق تغيير جوهري فيها بدءاً بمركز سلطتها التنفيذية في البيت الأبيض، ولقيت رسالته هذه استجابة لدى قطاعات معتبرة من الرأي العام، لكن هذه الاستجابة كانت في بدايتها رسالة إلى الطبقة السياسية، التي لم تستوعب أنها «نداء أخير»، فأصبح عليها أن تتعامل مع رئيس قادم من خارجها، الأمر الذي يثير سؤالاً محورياً عما ستكون عليه العلاقة بينهما.

ويمكن تصور ثلاثة احتمالات لتلك العلاقة. أولها أن يتكيف ترامب مع هذه المؤسسة على أساس أن للسياسة ضرورات قد تختلف عن مقتضيات الحملة الانتخابية، واستناداً إلى أن عمله في «البزنس» علَّمه إجراء حسابات بشأن الربح والخسارة والتعامل بشكل «براجماتي» حين يكون هذا هو سبيله إلى الإنجاز. والاحتمال الثاني أن تتكيف هذه المؤسسة السياسية مع توجهات ترامب وتسعى إلى «تهذيب» بعضها، انطلاقاً من أنها تعاني ضعفاً هيكلياً يتيح له فرصاً لاختراقها. أما الاحتمال الثالث فهو أن يحدث صدام بينهما ستكون كلفته هائلة بالنسبة إلى الولايات المتحدة دولة وشعباً على المستويين الداخلي والخارجي.

وربما يكون مزيج من الاحتمالين، الأول والثاني، مخرجاً من مأزق العلاقة المتوترة بين «رئيس منتخب» والمؤسسة السياسية، بحيث يقدم كل منهما تنازلات، فيحدث تكيف متبادل، وهذا هو الخيار الأفضل لكل منهما.

وحيد عبدالمجيد

صحيفة الاتحاد